رأفت النجار لا أعرفك ولكني أعرفك بقلم:د. سامي محمد الأخرس
تاريخ النشر : 2018-10-10
رأفت النجار لا أعرفك ولكني أعرفك بقلم:د. سامي محمد الأخرس


مرة تلو مرة تأبى الجغرافيا إلا أن تنتصر من أجل التاريخ، وتصحو الذاكرة من غفوة الترهل المستمرة في زمن التحالف مع النسيان لتبقى حية شاهدة على عصور العطاء اللامحدودة في خضوع النسيان مرة أخرى... وتعيد بناء مجدها المشيد نصوعًا كوهج الصراع النقي بين التضادين، فتنتصر الذاكرة وينهزم المرتجفون من حمية التاريخ المبعثر في كل زوايا الجغرافيا.
كنت أدرك أن الإنتصار دومًا لا يصنعه من وقفوا فوق جسد الحقيقة محاولون أن ينهلوا من مؤخرات التاريخ شرفًا رفيعًا، وإنما يصنعه من وقفوا ويقفوا فوق شواهد العصور شموخًا لا تحنى هامات ولا جبباه بل تستمر في مسيرة أسفار البطولات حربًا، قتالًا، سلمًا في دوائر الإنتصار الحية في ذاكرة الشعوب لا تنطفئ أو تتكأ على أمجاد عابرة، أو أحداث قاصرة ولكن تتواصل الحلقات لتعبر محيط القنوط صوب الخلود.
رفيقنا رأفت النجار المناضل الوطني الفذ الذي عبر شطآن حركة القوميين العرب متجهًا صوب معركة البقاء المتصلة بكل مراحلها، لتنقش مسيرة فعل وطني شهدت له كل جغرافيا غزة، وتاريخ فلسطين في سطوة النسيان ليعيد يقظة الضمير من جديد، وينتصب فوق مسرح الطلائعيين الذين حملت أكتافهم أول البنادق، وقلوبهم آخر الخفقات باسم فلسطين، ليبدأ رحلة اسفاره قبل احتلال قطاع غزة عضوًا عسكريًا متسلحًا بإيمانية النصر والتحرير، بصلابة لم يكسرها قيد الإعتقال أو سنوات القيد الطويلة التي سطر بها ملحمة عصية على الإنكسار فكان مقاتلًا في أوائل الصفوف، قائدًا في كل مواقع النضال التي مارسها سياسيًا، عسكريًا، جماهيريًا.
أبا عثمان... ليست كنية بل هي لقب حمله مع بزوغ ميلاد نجله الأول (عثمان) الشاهد الذي كان مؤسسًا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد قرار حركة القوميين العرب، حيث كان له الباع الأكبر في تنظيم الخلايا السرية وتدريبها، وتسليحها استعدادًا للحظة الحقيقة والميلاد، وتحويل قطاع غزة لساحة مشتعلة ضد جند وقوات الاحتلال بعد عام 1967 حتى اعتقاله الأول في عام 1968 ومن ثم عام 1970 حتى تحريره عام 1985 بصفقة التبادل الشهيرة. وما أن حرر من قيده حتى كانت بشائر انتفاضة عام 1987 التي انخرط بها بقوة قائدًا ومنظمًا لصفوف القوى الوطنية عبر القيادة الوطنية الموحدة التي قادت الفعل الجماهيري الشعبي حتى تم اعتقاله مرة ثالثة عام 1987 ليعود من جديد بالعمل التنظيمي في قيادة غزة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وينظم صفوف العمل الجبهاوي والوطني حتى تم اعتقاله عام 1990 وإصدار قرار بإبعاده عن غزة إلا إنه كعادته وعهده تصدى لهذا القرار وكان شرسًا في مواجهته واستطاع أن ينتصر ويهزم هذا القرار هو وبعض الوطنيين القلائل الذين رفضوا بتحدي وإصرار على رفض القرار وكسره.
تمتع المناضل الوطني رأفت النجار بحسن السيرة والسلوك الوطني العام مع كل أبناء الحركة الوطنية الفلسطينية سواء داخل الأسر أو خارجه وبرز بين صفوف الأسرى والمناضلين قائدًا وطنيًا فذًا، وأحد رموز الحركة الوطنية الأسيرة مما منحه ثقة ومحبة كل أبناء القوى الوطنية الفلسطينية، فلم يمثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فحسب، بل كان فلسطينيًا وطنيًا وصوتًا للكل الوطني، ورمزية وطنية منحته نجاحًا باهرًا في انتخابات المجلس التشريعي الأول عام 1996 وسطوع شعبي في محافظة خان يونس قلما تميز به قائد وطني أو شخصية وطنية تحظى بمثل هذا الإجماع والقبول، مستغلًا وجودة كنائب في ترسيخ أواصر العمل المجتمعي الوطني، والتكافل الوطني بين كل شرائح الشعب الفلسطيني دون أن يميز هويته الحزبية في معاملاته وخدماته بل مثل كل ألوان الطيف الفلسطيني في شخص أبا عثمان المناضل الذي حمل سيف فلسطين شاهدًا وشهيدًا.
لم أكن أعرفه ... ولكن عرفته من خلال صدى سيرته ومسيرته ولقائه في العديد من الحوارات والمناقشات وتواصلها المجتمعي مع أبناء شعبه حتى يوم أن غاب جسده لتتوحد كل الرايات خلف جثمانه المسجى فوق عرش فلسطين ... نسرًا يحلق في سماء الحق والحتمية الوطنية التي تعلو على كل الحتميات الجزيئية الصغرى...
بضعًا من السطور هي التي تغفو على صدر الذاكرة وفوق هضاب الجغرافيا وعدالة التاريخ لتبقى حية رغم الغياب الجسدي في غفلة من الجميع لتبدأ الجموع من جديد مرحلة الاستذكار لمعلم من معالم خان يونس التي نستذكر قلعة برقوق ورأفت النجار كشهود أحياء في معالم التاريخ لمدينة باسلة قارعت كل غزاتها ... ولا زالت تقبض على تاريخها بعنفوان من وفاء.
فالخلد لمن خلد في ذهن الطفل، وذاكرة العجوز اسم فلسطين حيًا وسط جموع هزائم القنوط ... رأفت النجار سلامًا وليس وداعًا فمدرسة البطولة تشهد لها كل زنود المؤرخين وفتوح المخلصين.
د. سامي محمد الأخرس