واقعية اللغة فى الحوار بقلم: حسن غريب أحمد
تاريخ النشر : 2006-06-10
الواقعية الفنية :

إن الفن الأدبى فى جميع مذاهبه يهدف إلى تصوير المشاعر و التجارب الإنسانية فى صورة تنبض بالحياة ، و تنزلها من عالم التجريد إلى عالم التجسيد ، فكان الواقع ماثلاً فى هذه الإبداعات الأدبية ، و من ثم أصبحت الواقعية فى الأعمال القصصية و الروائية شرطاً يلتزم به المؤلف و الناقد لكى يكون العمل الأدبي ناجحاً .

إلا أن هذه الواقعية التى لازمت الأدب اكتسبت خلال العصور مفهوماً خاصاً بها ، فهي واقعية فنية لا تطابق الواقع ، و لا تحاكيه محاكاة حمقاء .

و قد ندد ( روجروم بسفيلد ) بأولئك الذين يرون أن الواقعية هى الأمانة فى تصوير الأحداث و الشخصيات ، ونقلها نقلاً حرفياً كما تلتقطه آلة التصوير ، حين قال عن هذا المفهوم :

" ليس هذا التفسير إلا أسطورة من الأساطير ، و قد تولى نفسها حتى أولئك الكتاب المسرحيون الذين شاركوا مشاركة وثيقة فى حركة المذهب الإنطباعي .

التفاوت بين الفن و الواقع :

اختلط على كثير من الأدباء و النقاد فى العالم العربى ، مفهوم الواقعية فى الأدب ، فطالبوا الواقع مائلاً فى الأعمال الروائية و القصصية و المسرحية ، بزعم الواقعية ، لكن شتان ما بين الواقع و الأدب .

و لو أخذت البشرية بمبدأ مطابقة الواقع لخرج الأدب عن فنياته ، و فقد سر تفرده الذى هو مصدر تفوقه و بقائه ، ولاستحالت بقية الفنون الأخرى فلم تقم لها وزناً .

و قد عبر ( فكتور هوجو ) فى تعريفه للمسرح عن الواقعية الفنية بصورة تبرز التفاوت الواضح بين الفن و الواقع ، و تنفى تطابقهما ، و ذلك حين قال : " ليس المسرح بلد الواقع ، ففيه أشجار من ورق ، و قصور من نسيج ، و سماء أسمال و قطع ألماس من الزجاج ، و ذهب من صفائح ، و جواهر زائفة بالخضاب ، و خدود عليها بهرج الزينة ، و شمس تبرز من تحت الأرض و لكنه بلد الحقيقة ، ففيه قلوب إنسانية على المشهد و قلوب إنسانية خلف المسرح ، و قلوب إنسانية أمام (العرض ) " .

و هو تصوير دقيق يظهر عمق الواقعية المختصة بالفن ، و هى واقعية نفسية تعتمد على المشاعر و الأحساسيس و صدق العواطف ، لكنها ليست بأى حال مطابقة للواقع المعاش ، بل تختلف عن اختلاف الحقيقة عن صورتها الزائفة ، إلا أنها صورة غنية بالتعبير ، صادقة فى رسم مكنونات النفس ، و دخائل الصدور فالأدب فى جميع أنواعه ابتداء بالشعر ، و انتهاء بالقصة القصيرة ليس نقلاً غفلاً للواقع ، و إلا كان كل كلام أدباً ، و كل ناطق من الناس أديب ، و ليس الأمر كذلك .

لهذا فإن واقعية الأدب بسماتها الفنية الإبداعية ذات البعد التخيلى ، غير الواقع بقيوده الصادقة ، و يمكننا أن نشير إلى شئ من أوجه الاختلاف بين هذين الواقعين :

أولاً : تصور الواقعية :

لاتصور الواقعية فى الشعر الأِشياء كما هي ، و إلا لما رأينا تلك الصور و الأخيلة المتفاوتة للشعراء و الشاعرات ، و لما اختلفت وجهات نظرهم فى حقائق الحياة ، فكم من بدر كان فى ليل الشاعر حزيناً شاحباً ، و كم من هلال فى جو ملبد بالغيوم ، خاله آخر وجه الحبيب يطل من خلف الستار .

ثانياً : الزمن التصورى للرواية :

الرواية تصور فترات زمنية قد تصل إلى عقود من الزمن و لكنها لا ترصد فى سردها إلا فترات قصيرة ، و لا تنتقي إلا أحداثاً محددة يوظفها الكاتب لتطوير عمله .

و لو طالبنا بمطابقة الواقعية الأدبية للواقع ، للزم المؤلف تتبع كل الأحداث و المشاهد و لاحتاج الأمر إلى مئات الصفحات لتسجيل حقبة زمنية محددة .

ثالثاً : مسافرة الخيال عبر الزمان والمكان :

يسمح الخيال الأدبي للمؤلف بالانتقال خلال الزمان و المكان فى القصة و الرواية و المسرحية ، عن طريق عبارة أو إشارة ، فيتابعه المتلقي ، و يسافر خياله إلى أماكن الرواية و أزمانها ، و المتلقي يستمتع بهذا كله ، على الرغم من هذه التنقلات التى لا يمكن أن تتحقق فى الواقع ، ففى عمله واقعية أدبية ، ينشدها المتلقي ، و هى سر متابعته و تشوقه ، لكنها تبقى غير نقل للحقيقة .

رابعاً : واقعية وخيالية الحوار الأدبى :

إن الحوار القصصي و المسرحي ليس مطابقاً للواقع بإي حال من الأحوال ، لأننا لو طالبنا بهذه المطابقة فإننا نطالب بجمل متقطعه تفتقد الترابط و التسلسل ، " إن الناس عادة ما يثرثرون أكثر مما يتحدثون ، و ينتقلون من موضوع إلى موضوع و بلا هدف معين "، لكن المؤلف يهذب أحاديث الناس و ينسقها ولتصب فى الخط الأساسي الذي تجرى فيه الأحداث .

يقول : ( ولسن ثورنلى ) لمؤلف القصة :

" يجب أن تدرك أن الحوار الذى تكتبه فى قصتك لن يكون حواراً حقيقياً " .

و إن كان " أشخاص قصتك سوف يتكلمون و يستعملون ما يستعمله الناس من تعابير و طرق كلام ، و مع ذلك فمازالوا فى إطار شروطك و حول الغرض الذى تريد ، و ليس بشكل عشوائي كما يحدث أحياناً فى واقع الحياة . " و مصدر الخلاف هنا بين حوار الأدب و حوار الواقع هو الهدف الذى من أجله أدير الحوار ، فهو ليس مجرد كلام عارض يأتي فى سياق العمل ، لكن له أغراضاً يقصدها المؤلف ، و من أجلها أدار حواراً بين الشخصيات ، ومن هنا كان الحوار القصصي يمتاز بأمور ترفعه عن مستوى الكلام العالى فى الواقع المعاش ، فليس غرض الحوار أن يحكي الحادثة حكاية طبيعية ، بل أن يقدم فى ثوب المحادثة ما لا يوجد فى محادثة ، فيكون مسلياً حيث المحادثة مملة ، مقتصداً حيث المحادثة مضيعة ، مبيناً واضحاً حيث المحادثة متمتمة أو غامضة .

خامساً : الحدث المسرحى المتباين :

الحدث المسرحي يختلف عن الحدث فى الواقع ، ففى حدث الواقع يبقى كل شخص معزولاً فى طبقته و مهنته التى ينتمي إليها ، على حين ليس من حدث معزول فردي فى المسرحية بل إنه يمارس تأثيرات مباشرة فى مختلف الشخصيات و لا حياة فنية للمسرحية ، ما لم تتفاعل الشخصيات ، و يحتدم الصراع بينها .

و الحوادث فى الواقع تأتى مزعزعة فيها انطباعات ، و هامشية للكثير منها ، لكنها فى الأدب تأتى مرتبة متوالية مهرولة و بإعداد تام مقصود ، و هذا على غير ما هو فيه في واقع الحياة .

مهما بلغت تقنيات المسرح فإنه لا يمكن فيه محاكاة الواقع حرفياً إذ لا يمكن إظهار جميع لوازم الناس فى أحاديثهم ومعايشتهم . وإذا استطاعت إمكانيات الإخراج المتقدمة أن تظهر شيئاً من واقع الحياة على خشبة المسرح ، فما هي إلا أشجار من ورق ، و قصور من نسيج ، كما قال الكاتب الكبير ( فكتور هوجو ) .

مفهوم الشخصية فى الحوار :

ميز النقاد الغربيون بين كلام الأشخاص فى الحياة العادية ، و بين كلام الشخصيات الروائية و المسرحية ، حيث استعملوا مصطلح ( محادثة ) للكلام فى الحياة العادية ، و مصطلح ( حوار ) لكلام الشخصيات فى الروايات والمسرح ، و قد أشار إلى ذلك ( هرمان اولد ) و استعمل هذا الاصطلاح بقية النقاد و فى هذا التفريط إدراك واع للدور الذى يقوم به الحوار فى نمو العمل ، و رسم الشخصيات ، فالسرد مهما أجاده المؤلف ، يبقى تقريراً لأمور غائبة عن المتلقي ، لكن جملة أو كلمة فى الحوار تستطيع أن ترسم صورة الشخصية ببعديها الظاهر و الباطن ، و تظهر الموقف أمام خيال المتلقي رأي العين و لهذا فإنه يستحيل إنشاء محادثة طبيعية تماماً ، إذا كان لابد ، أن تسهم كل عبارة منها فى تطوير المسرحية ، و إذا كان يلزم أن تكشف كل عبارة ، و كل كلمة عن المعالم الجوهرية و العميقة فى الشخصية .

إن المقصود بالواقعية الأدبية هو أن يلتزم المؤلف حدود الشخصية المرسومة فلا ينطقها إلا بما يتلاءم معها ، لا أن ينقلها كما هى فى واقع حياتها .

و المؤلف – بلا ريب – يستمد من الواقع مادته لكنه لا ينقلها كما هى ، بل يبث فيها الروح الفنية التى تميزها و تمنحها سماتها ، و لو أدار الحوار على ألسنة شخصياته كما يتحدثون فى الحياة الواقعية ، دون اختيار و لا تهذيب ، لجاء حواره لهواً و هذراً لا طائل من ورائه ، يستحيل أن يقوم عليه نص أدبي متميز .

و الخطر الفنى الحقيقي ، هو مجافاة المسرحية أو القصة للواقع المضمون و الفن لا في لغة الأداء .

فلا ضير أن يحاور صبي أو عامي باللغة العربية التى لا إغراب فيها و لا فيهقة ، و لكن الضرر كل الضرر أن يجري المؤلف على لسان صبي أو عامل عبارات متكلفة لا يتصور فى الواقع أن تمر ببالها .

و قد كتب أدباء باللغات الأخرى أعمالاً أدبية رسمت فى ثناياها صوراً ومشاهداً لشعوب أخرى ، نقلوا من خلالها مواقف لشخصيات تتحدث بلغاتها ، و مع ذلك انطقها كل مؤلف بلغته ، و بأساليب التعبير فيها ، و لم يشر إلى أساليب الحوار اللغوية للغة الأصلية للشخصيات ، و قد أبدع أدباء العالم فناً راقياً و تراثاً خالداً ، و لم يقل أحد إن هذا المؤلف أو ذاك لم يكن واقعياً فى حوار شخصياته ، فلم ينطقها بلغاتها أو بلهجاتها الأصلية .

و أقرب مثال على ذلك الكتاب العرب فى المغرب العربى الذين كتبوا نتاجهم الأدبى باللغة الفرنسية ، مصورين معاناة شعوبهم ، و مظاهر الحياة فى الأرياف و القرى ، بحواريها و منعطفاتها العتيقة ، و ما يدور على ألسنة سكانها من أحاديث ، فأنطقوا شخصياتهم باللغة الفرنسية ، ومع ذلك كانوا واقعيين .

و شهد لهم أهل تلك اللغة بالتميز و الإبداع ، لأنهم جسدوا واقعهم فى أعمالهم على نحو فريد ، ومن هذا يتبين لنا موقف المؤلف حيال الواقع الذى يستمد منه إيحاءات أعماله ، فمهاراته تعتمد على الأنموذج الفنى الذى يصنعه بتقنياته لذلك الأصل الذي أثاره و حفز كوامنه .

لا أن ينقل ذلك الأصل كما شاهده ، و لا أن يملأ عمله بتسجيل كلام الناس ، و ما يجرى بينهم من أحاديث فى أنديتهم و أسواقهم ، لأن الإبداع الأدبي ليس فى الكاتب لمشاعر شخصياته ، و رصد التعبيرات التى تكتنفها ، من جراء معاناتها من واقعها ، والقدرة على إجراء الحوار بينها بصورة تظهر آثار تفاعلها مع بعضها ، و اصطدامها مع واقعها ، و آثار ذلك التفاعل على تصرفاتها ، بحيث تكون الشخصية أنموذجاً فنياً لواقعها المادي .

الواقعية الفنية والواقعية فى اللغة :

فى الوطن العربى ، أخذ مفهوم الواقعية الفنية منحى آخر لعله أشد خطراً فى فهم هذا المصطلح النقدي ، حين وجه توجيهاً خاطئاً فقصد به مطابقة الواقع اللغوي في الحوار ، فأبعد الفن عن سموه و جمالياته ، ليصبح فى كثير من الأحيان نقلاً ساذجاً لألفاظ العامة و مهاتراتها .

إن الفرق شاسع بين معنى الواقعية الفنية و الواقعية فى اللغة ، و الخلط بينهما لا يصدر إلا عن قصور شنيع فى فهم الواقعية . فالواقعية يقصد بها واقعية النفس البشرية ، وواقعية الحياة و المجتمع . فالمؤلف لا ينطق بلسان المقال بل بلسان الحال ، فيعيرها أسلوباً تعبر به عن واقعها فى عمق ، قد لا يحتمل صدوره عن الشخصية فى مثل حالتها فى الواقع ، لكن لابد فى عالم الأدب من الاختيار و التعمق لا الاقتصار على نقل الواقع .

و لقد كان الحوار القصصي و المسرحي بهذا المفهوم المنحرف للواقعية مجالاً واسعاً لإقحام اللهجات العامية بسطحيتها مجال التعبير الفني ، على زعم أن التعبير بغير هذه اللغة تزييفاً للحياة الواقعية ، خاصة إذا كان هذا الحوار يدور بين أناس بسطاء فى بيئة شعبية . و لهذا شغل كثير من النقاد العرب بمطلب الواقعية اللغوية فى الحوار ، و انحرافوا بهذا المفهوم النقدي عن دلالته عند جميع الأمم ، و حصروه لدينا فى مقولة : وجوب كون الحوار بالعامية وواقعية اللغة فى الحوار أمر يتطلبه العمل الفني ، لكنه ليس بهذا المفهوم الذى شاع لدى نقادنا ، فليس المقصود بواقعية اللغة أن تدع كل شخصية في الرواية تتحدث بلغتها الخاصة ، و إلا جاءت المسرحية خليطاً غير مفهوم – و إنما المقصود بواقعية اللغة ملاءمتها بشخصيات الرواية ، فهي الواقعية النفسية و العقلية و العاطفية ، فلا يتحدث أمى بأفكار الفلاسفة .

و أما الواقعية اللفظية فليست بمقصودة فى التأليف المسرحي أو التأليف الأدبي الذى لا يخرج أن يكون فناً ، و كل فن صناعة .

و لقد جاء هذا المفهوم المضلل للواقعية الفنية نتيجة فى فهم الفن الأدبي ، و مصادر جمالياته ، و سموه فى الوسائل و الغايات ، فقد وضعت المسألة وضعاً خاطئاً على أساس الواقع و مسايرته ، لا على أساس مطلب الأدب ، وما ينبغي أن يكون من أجل النهضة بالأجناس الأدبية ، و هذا هدف يقصر بالفن ، و يجعله من المتاع الذى لا هدف له إلا دغدغة أحاسيس المتلقى بأية صورة و بأى ثمن و يصبح كل كلام يجري بين الناس فناً ، مهما كانت صورته ، وليس الأمر كذلك ، إذ الفن ليس نزولاً و انحطاطاً ، وإنما هو رقي بالمشاعر يرفع جمهوره عن سفاسف الأمور و بذيء الألفاظ .

والكوميدي منه بالذات ، بمقولة الواقع العامي ، الذى يلزم معه وجود بعض العبارات العامية التى تقصر الفصحى عن التعبير عنها .

و هذا تدن خطير فى إدراك جماليات المسرح الكوميدي و تذوقها ، أدى إلى ظهور مسرح هابط فى الساحة العربية يعتمد على النكات اللفظية ، البذيئة غالباً ، و التنابز بالألقاب ، و ما إليها من عبارات ذات طابع محلي ، تهدف إلى استدرار ضحك الجمهور . و فى هذا تزييف لواقع مسرح الملهاة الناضج كما يفهم لدى جميع الأمم ذلك أن " جوهر الملهاة " فى الموقف ، و المفارقات التى تثير الضحك ، لا فى عبارات الشتم و الدعابة .

أما غير ذلك من عبارات الحوار فى سائر الفنون الأدبية ، فإنها تعتمد اعتماداً شاملاً على قدرة المؤلف فى تقمص شخصياته ، و التعبير عنها خلال تفاعلها مع الأحداث ، و اصطدمها بالواقع ، و ما ينتج عن هذا من انفعالات و أحاسيس تنجلي فى أساليب التعبير ، و طرائق معالجة الأفكار المثابرة ، فتظهر من خلالها محاولات الشخصيات فى التوافق مع هذا الواقع أو محاولة تغيير .

و ما أن يتوقف المتلقي ليقول أن الناس لا يتكلمون فى الواقع كما يتكلمون فى الكتابة ، حتى يكون فى حالة انفلات سيطرة المؤلف عليه ، و إذ ذاك لا يكون النقص فى الحوار فقط بل فى المتحاورين أنفسهم ، لأنهم قدموا تقديماً سيئاً غير مبنى على فهم واقعهم و بيئتهم و طبيعة حياتهم و دلالاتهم الاجتماعية فيجئ حوارهم متجانفاً مع الواقع .

على أن هناك جانباً آخر ، له أثر كبير فى توجيه هذه القضية ، يحسن الإشارة إليه هنا ، و هو ثقافة المؤلف اللغوية و عمق تجربته فى المجال القصصي ، و أثر ذلك فى أخذ المؤلف بالفصحى و تجويد أسلوبه .

أسلوبية محمود تيمور المتجددة :

ذكرت الدكتورة ( نفوسة زكريا ) حديثاً لها مع الكاتب الكبير محمود تيمور و رائد القصة ، يشير فيه إلى أنه استخدم العامية عندما كان كاتباً ناشئاً ، يحاول أن يتعرف على الطرق فى بداية القصة ، و يجري فى حقلها مختلف التجارب باحثاً عن الأسلوب الكتابي فيها ، و عن أصلح الأدوات اللازمة له . و قد كان يلحظ على أسلوبه مؤاخذات لغوية ، و أسلوبية ، مما جعله يعرض أعماله على الأستاذ ( شوقى أمين ) ليصحح التركيب الإنشائي فى قصصه ، إلى أن تمكن بعد ذلك من زمام اللغة ، و أصبح ذا أسلوب متميز رصين .

و لعل هذا الجانب – أعنى ثقافة الكاتب اللغوية و قدراته على إدارة الحوار بالفصحى – يشكل العامل الأهم فى رفض بعض الكتاب استعمال الفصحى فى حوارهم . و هو على كل حال قصور ذاتي ، لا علاقة له باللغة و قدراتها ، و مدى ملاءمتها للتعبير عن البيئات المختلفة . و يمكن للمؤلف الحريص على تجويد عمله و الرقي به ، أن يطور نفسه كما فعل محمود تيمور الذى بلغ من حرصه على صقل إبداعه أن رجع إلى بعض قصصه الأولى التى كتب حوارها بالعامية فأعاد كتابتها بالفصحى .

العمق الإبداعى و دقة التعبير :

الفن الأدبي عمل إبداعي فيه من العمق و دقة التعبير ما يحتاج معه المؤلف إلى صقل موهبته و تثقيفها و العناية بلغته و أسلوبه ، كما يحتاج إلى جمهور يرنو إلى السمو بفكره و خياله ، لا أن ينظر إلى أسفل القاع ، و فى هذا كله دلالة على أن الأدب ليس مسايرة للمألوف ، و ما هو موجود ، و إن أخطر شئ على الأدب القصصي أن نجاري وقائع الأمور أو نتتبع أيسر الطرق ، أو أن نجافى ما سارت عليه الآداب فى الأمم التى عنيت بلغتها الأدبية .

و مما هو معروف لدى الأدباء العالميين فى مسرحهم الواقعي حرصهم على اختيار العبارة الدالة و إحكام صياغتها ووضعها موضعها الدرامي ، بل و يستحسن كثير من الواعين فى لغة الأداء الفني استعمال الشعر نفسه فى المسرحيات الواقعية .

و إذا كان هذا مدى احتفاء الأدباء و النقاد بمستوى التجويد فى الحوار الأدبي ، فإن جعل الشخصيات العامة تنطق بالعربية الفصحى لا يتنافى مع الواقعية بمدلولها الفني على أن الحوار بالفصحى واجب يحتمه حق لأمتنا على أدبائها و مثقفيها ، كي تصان هويتها ، يجعل لسانها حياً يحفظ لها أصالتها ، و يمدها بسلاح لاستمرارها ، و بناء مستقبلها .

لذلك اعتمدت الفنون الإنسانية فى جميع العصور على تقليد الواقع المعاش ، وتحويره بما يلائم طبيعة هذا الفن أو ذاك ، فكان ارتباط الحاسة الفنية بواقعها عنصراً أصيلاً التزمته فى جميع ممارساتها ، حيث نادى أفلاطون بنظرية محاكاة الموجودات ، و حصرها أرسطو فى الفنون .

وقامت الواقعية والطبيعية وغيرها من مذاهب الأدب ، فكانت تصل الواقع بأوثق الأسباب ، وكان تصويره ركيزه أساسية ، امتزج فيها بفلسفاتها الخاصة بشكل أو بآخر . و بالتالى فعندما يلتقي الأدب و الثقافة على صعيد اللغة فهذه اللغة ليست فى الواقع واحدة عند كليهما بكل أبعادها و دلالاتها و إيحاءاتها .

إن لغة الأدب هى لغة الذات الواقعية الإنسانية التى لا تحد أعماقها و أبعادها وعواطفها حدود . أما لغة الواقعية فهي لغة الحس المعلن والكشف الموضوعي عن الحقائق ، ولغة التعبير المحدد الدقيق .

و مادام الهاجس السائد فى الوقت الحاضر لتطور اللغة و استحسان الواقعية يعتبر بمثابة تحقيق ديناميكية علمية موازية للديناميكية الأدبية التى سادت العالم عصوراً فلابد من البحث عن الأسس التى قامت عليها هذه الديناميكية و عن كل ما يدعم وجودها وتطورها و يكفل استمراريتها .

الهوامش والمراجع :

1- الصاحبى فى فقه اللغة ، لابن فارس اللغوي ، تحقيق السيد أحمد صقر – القاهرة 1977 م .

2- منهاج البلغاء وسراج الأدباء : الحازم القرطاجني ، تحقيق محمد الحبيب الخوجة ، تونس .

3- الشعر والشعراء : لابن قتيبة القاهرة ج / ص 239 .

4- د. صلاح فضل – بلاغة الخطاب وعلم النص – عالم المعرفة ، العدد 164 الكويت – المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب ، سنة 1992 م ، ص 81 .

5- د. إبراهيم حمادة – مقالات فى النقد الأدبي = دار المعارف ، القاهرة ص 87 .

6- د. أحمد محمد المعتوق – الحصيلة اللغوية – عالم المعرفة – العدد 212 ، الكويت ، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب سنة 1996 م ص 127 .

7- فن الكاتب المسرحي ، ترجمة و تقديم دريني خشبة .

8- محمد غنيمى هلال ، النقد الأدبي الحديث .

9- د. محمد رجب البيومي ، " رحلة الذاكرة – الأستاذ محمود تيمور " المنهل ، ع 507 .

10- كتابة القصة القصيرة ، ترجمة د. مانع حماد الجهني .

11- تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها فى مصر / ط 2 .

12- محمد مندور ، فى الأدب والنقد .

13- تشارلس مورجان ، الكاتب وعالمه ، ترجمة د 0 شكرى عياد .

حسن غريب أحمد / مصر

hassan–[email protected]