إنما الأُممُ الأخلاقُ ما بقيت ..بقلم:د. أكرم حماد
تاريخ النشر : 2018-09-25
إنما الأُممُ الأخلاقُ ما بقيت ....
بقلم / د. أكرم إبراهيم حماد
جلس محدثي أمامي في المكتب يحدثني عن هموم المتقاعد في المجتمع العربي وخاصة الفلسطيني ، وأي هموم تلك التي يعنيها ، إنها هموم متابعتك للعاملين في الجهات المختلفة لضمان نزول راتبك التقاعدي دون أشهر من التأخير .
يقول ذاك الرجل وهو دكتور أكاديمي بلغ سن الستين وهو سن التقاعد وفق قانون الخدمة المدنية الفلسطيني ، ولما لم تبلغ سنوات خدمة المذكور للحد الأدنى للسنوات المطلوبة لصرف راتب تقاعدي كان عليه أن يشتري أربعة سنوات من هيئة التقاعد ، بمعنى أن يسدد اشتراكات أربعة سنوات لهيئة التقاعد حتى يصبح في قوائم المتقاعدين الذين تندرج لهم رواتب تقاعد شهرية ، وحتى يتم هذا الأمر فقد استغرق من الوقت عدة أشهر ، ليُفاجأ بعد إتمامه الأمر بموظف من هيئة التقاعد يتصل عليه ويبلغه أن ملفه لا يتضمن الفحص الطبي له عند التعيين مما سيؤدي إلى إيقاف معاملة الراتب لحين إحضار نتيجة الفحص الطبي له عند التعيين أي قبل أحد عشر عاماً .
يقولُ مُحدثي لقد جُلتُ المراكز والأماكن ذات العلاقة التي قد تكون نتيجة القومسيون الطبي لديها ، ولكن دون جدوى، فجميع المؤسسات الرسمية من ديوان موظفين وهيئة تقاعد تنفي نفياً قاطعاً وجود تقرير القومسيون الطبي لديها أو في ملفاتها . أخيراً بعد تدخل العديد من الأصدقاء الذين تربطهم علاقات بموظفين لدى دائرة القومسيون الطبي وافق أحد موظفي الدائرة على إعادة البحث في السجلات القديمة المخصصة لإثبات نتيجة القومسيون بها ، ونجح هذا الموظف في إحضار السجل الذي يثبت أنني خضعت للفحص الطبي قبل التعيين في الوظيفة وأن نتيجة هذا الفحص كانت بأنني لا ئق للوظيفة الحكومية ، وبناء على هذا التوثيق المثبت في السجل وافق مدير دائرة القومسيون على منحي إفادة تفيد بأنه تم عمل الفحص الطبي لي قبل الوظيفة الحكومية وأن نتيجة تقرير القومسيون الطبي في حينه كانت بأنني لائق للعمل في القطاع الحكومي .
لقد شاهدت الكتاب الصادر عن دائرة القومسيون الطبي ، وابتهجتُ بأن مُعاناة صديقي سوف تنتهي بتسليمه نتيجة القومسيون التي تظهرها الإفادة التي تحصل عليها من مدير دائرة القومسيون الطبي .إلى هنا وتنتهي قصة صديقنا وعذاباته بين أروقة المؤسسات المعنية بالموظف. وهنا نتساءل هل يعني تقاعد الموظف أن يتعرض للإذلال وامتهان كرامته في سبيل حصوله على راتبه التقاعدي الذي هو جزء من حقوقه التي لا مِنةَ فيه لأحد عليه .
أمْ أنَّ أخلاق الموظف في الوظيفة العمومية في ظل النظام البيروقراطي الذي يعايشه الموظف في حياته اليومية تُصبح جامدة بجمود آليات تطبيق هذا النظام .ليس على الموظف أسهل من قول " راجعنا بعد كم يوم " وهو في حقيقة الأمر ليس لديه من العمل المؤسسي ما يشغل به وقت دوامه في مكتبه .
يحدثني هذا الرجل الأكاديمي الذي وصل سن التقاعد القانوني قصة سفره لليونان عام 1984م عندما تحصل على قبول للدراسة في إحدى الجامعات اليونانية ، يقول خلال إقامتي في اليونان في شهوري الأولى وأنا استكمل اجراءات التسجيل في الجامعة نفذ ما لدي من نقود ، فلم أجد بداً من التوجه لأحد زملائنا من الطلبة القدامي وطلبت منه أن يسلفني شيئاً من النقود لحين وصول حوالة مالية من الأهل " لماذا تطلب مني تسليفك نقود ؟ أرى أن لا تطلب مني ولا من غيري ، وأقترح عليك حلاً مريحاً لك دون أن تتحمل فيه جميل أحد من الناس ."
 يا صديقي توجد في مدينة أثينا مؤسسة الضمان الاجتماعي وهذه المؤسسة ترعى العاطلين عن العمل وكبار السن والطلبة أمثالنا الذين تقطعت بهم السبل لأي سبب كان ، فما عليك إلا أن تأخذ الوثائق التي تثبت ترشحك للدراسة في إحدى الجامعات اليونانية ، وإفادة من الجامعة المُنَسب لها تؤكد التحاقك بالدراسة وتوَجَه لهذه المؤسسة وهي ستتولى مَنحك مُساعدة مالية تكفيك لحين وصول حوالتك المالية ." هذا ما قاله زميلي الذي يدرس في اليونان لمعرفته السابقة بأنظمة وقوانين البلد .
توجهت فعلاً في اليوم التالي لتلك المؤسسة ، ولم تكن قريبة من مكان إقامتي ، وتقدمت لإحدى الموظفات العاملات فيها شارحاً وضعي وظروفي المادية ، وهي تنصت لي باهتمام والابتسامة لا تُفارِق مُحيّاها ، وبعد أن انتهيت من شرح قصتي لها فاجأتني بإجابتها البليغة " ما دُمت أنت على أرض اليونان فمن واجبنا رعايتك والاهتمام بك " ، وأخرجت من أحد أدراج مكتبها نموذجاً طلبت مني تعبئته وتسليمه لها ، وبعد أن انتهيت أبلغتني بأنهم من واقع البيانات التي دونتها سيتم التواصل معي خلال أسبوع على الأكثر .
يكمل ضيفي حديثه فيقول ولم يمض سوى أربعة أيام من الموعد، وإذا باتصال يأتيني من تلك المؤسسة يطلب مني التوجه للمؤسسة لا ستلام شيك مساعدة مالية .في اليوم التالي توجهت للمؤسسة وبالفعل كانت مفاجأتي بتسليمي شيك بمبلغ سبعمائة" دراخما " ، وهي العملة المتداولة في ذاك البلد في تلك الفترة قبل انضمامها للاتحاد الأوروبي .
طالب لم أتحصل على الإقامة بعد وتحصلت على مساعدة مالية من الحكومة كي لا أبقى مشرداً وأعاني الفاقة ، وفي بلادنا قدمنا كل الوثائق التي تؤيد انتسابنا لتلك المؤسسة وما زلنا منذ أشهر ننتظر حقنا في راتبنا التقاعدي وليس مساعدة مالية من أحد ."
إنها أزمة أخلاق يعيشها المواطن العربي والموظف العربي في كل بقاع عالمنا العربي
إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ *** فإن هُمُ ذهبتْ أخلاقهم ذهبوا أمم كافرة سَمَتْ وارتقت بسُمو أخلاق أبنائها ، وأُممٌ مُسلمة بلغت الحضيض وأدنى مراتب الإنسانية بفساد أخلاق أبنائها، أمم أخذت في الاضمحلال والاندثار عندما انعدمت فيها الأخلاق، وساد فيها الكذب والخداع والغش والفساد، حتى ليأتي يوم يصبحُ فيها الخَلوق القوي الأمين غريباً منبوذاً لا يُؤخذ له رأي، ولا تسند إليه أمانة، فمن يريد الأمين في بلد عم فيه الفساد وساد فيه الكذوب الخدّاع المنافق؟!