تجديد الخطاب الديني وتجاوز فخ المصطلحات الوهابية بقلم منى النابلسي
تاريخ النشر : 2018-09-24
تجديد الخطاب الديني وتجاوز فخ المصطلحات الوهابية
بقلم منى النابلسي
لعبت الحركة الوهابية منذ ظهورها على نصب أفخاخ المصطلحات، للإيقاع بالوعي الإسلامي رهن قيودها الفكرية والثقافية، فقد أقامت الحركة قواعدها ابتداء على رفع شعار التوحيد، في مواجهة عادات اجتماعية كانت سائدة في نجد مهد الوهابية الأول، كالتبرك بالقبور ولبس التمائم، فأطلقت على هذه العادات مصطلح (الشرك، وعبادة الأوثان)، فكان هذا المصطلح هو المسوغ الأخلاقي لمحاربة أهل قبائل الجزيرة العربية بالسيف.
رافق تطويع المصطلحات، مسيرة الوهابية منذ نشأتها، وكان نصب أفخاخ المصطلحات عاملا أساسيا لانتشارها في العالم الإسلامي، فمنهجهم منهج أحمد بن حنبل، هو منهج (أهل السنة والجماعة)، هذا المصطلح الذي خنق الوعي الإسلامي لعقود، فأي مسلم هذا الذي لا يريد ان يكون مع منهج أهل السنة والجماعة؟ لقد كان لهذا المصطلح دورا بارزا في تزيين الوهابية لكثير من الإسلاميين، وحثهم على تبنيها، تماما كما كان للقب شيخ الإسلام ابن تيمية، شيخ الوهابية، مفعول السحر في نشر فتاويه، وحث الناس على تبني اجتهاداته الفقهية، وكيف لا يتخذه الناس فقيها وهو شيخ الإسلام؟! بالإضافة إلى مصطلح (فهم السلف الصالح)، الذي كان الفخ الذي أقعد الأمة عن التفاعل الإيجابي مع استحقاقات التطور العلمي، والمسوغ للسيطرة على الحياة الثقافية الإسلامية، وأداة التلاعب بالوعي الإسلامي.
لم تقتصر أفخاخ المصطلحات على الفكر الوهابي في نشأته ومنهجيته، بل تطورت لتصبح أداة يحارب بها كل محاولات تجديد الخطاب الديني الحثيثة، التي بدأت بالازدهار بعد الربيع العربي المشبوه، فقد عمل الإعلام المأجور على استخدام مصطلحات: الإسلام المتعصب، والإسلام المعتدل، لترسيخ مفاهيم مضللة في الوعي الإسلامي، ونتيجة لذلك استقر في وعي العامة أن مصطلح الإسلام المتعصب هو القوة والجرأة في الحق المطلق الذي جاء به النبي الكريم وفهمه السلف الصالح، في حين يشير مصطلح الإسلام المعتدل إلى الموقف الرخو المتفذلك، المنصاع للقوى السياسية الخارجية، وتغيير حقيقة الدين ليخدم أهداف الغرب الكافر! وفي كل مرة نستخدم مصطلح الإسلام المتعصب، ظانين أن وسم هذا الفكر بالتشدد والإقصاء سيدفع الناس إلى نبذه، فإننا في الحقيقة لا نزيد العامة إلا تمسكا به، لانه رسخ في وعيهم كموقف جريء خالص نقي من فذلكات السياسة والمصالح، وفي كل مرة نصف دعاة تجديد الخطاب الديني بالإسلام المعتدل أو الوسطي، فإننا ندعو العامة ضمنا إلى تحقير أصحاب هذه التيار، بل ونساهم في إرساء الفكر التكفيري في قلوب متبعيه باعتباره الحق، وباعتبارهم الأشداء في إحقاق هذا الحق.
ولا يختلف الأمر كثيرا في مصطلح الإرهاب، الذي ابتكرته أمريكا لوسم الأعمال الجهادية ضد مصالحها، فقد ترسخ في وعي العامة ان الأرهاب تهمة زور اتهم بها الإسلام الصحيح لتسويغ محاربته، وفي كل مرة نشير إلى الجرائم الفظيعة التي يتركبها الإسلاميون السلفيون المتعصبون بحق عوام المسلمين باسم الإسلام بوصفها إرهابا، فإننا نرفع من شعبيتها باعتبارها أعمالا جهادية، بسبب الترابط الوثيق في الوعي الإسلامي بين الإرهاب والجهاد الحق!
لقد جرى العمل على نشر أفخاخ المصطلحات في الوعي الإسلامي العام، باستخدام المال السعودي على نحو ممنهج، منذ بداية صناعة الإسلام السلفي الوهابي كإسلام بديل عن الإسلام الصحيح، وفي سبيل ذلك تم تطويع كل أدوات الثقافة العامة، فكانت منح دراسة الشريعة الإسلامية في المملكة العربية السعودية في سبعينات القرن الماضي على أشدها، وذلك لوضع حجر الأساس لنمو وتطور هذا الفكر، عبر رفد الجامعات بحملة شهادات عليا بالعلوم الإسلامية، يفتون وفق فتاوى شيخ الإسلام، ويتبنون منهجه، ويؤمنون بطريقه وطريقته، ورفد المساجد بأئمة يخطبون على منهج شيخ الإسلام، وبالتالي يلعبون دورا كبيرا في تكوين وعي الناس الديني، وتوجيه سلوكهم، تزامن ذلك مع تنامي كبير ومضطرد في حركة النشر، في ذاك الزمن الذي كان فيه الكتاب هو سبيل الثقافة الأول، فأغرقت كتب الوهابية الحالة الثقافية العربية، بكتب ابن الجوزي وشيخ الإسلام باعتبارها أمهات الكتب، وكتبت ونشرت آلاف الكتيبات الرخيصة الثمن، والتي تروج للوهابية كأسلوب حياة، ناشرة الوعي المزيف حتى شاع بين الناس الشعار الوهابي: الإسلام نظم كل صغيرة وكبيرة في حياة المسلم. في إشارة إلى ان واجب المسلم الاتباع فقط! وأرسى بذلك العديد من الاعتقادات التي صار من الصعب زعزعتها في وعي الناس، فقد صارت في وعيهم جزء أصيل من الدين. كما ساهم المال السعودي في تسهيل اقتحام الفكر الوهابي لكل أدوات التأثير على الوعي العام، من أول الكتاب إلى الشريط الإسلامي، إلى الخطبة، فالمحاضرة المصورة بالفيديو، والبحث الشرعي، والبرنامج التلفزيوني، حتى صار لهم فضائيات، ومواقع الكترونية، ولم يتركوا سبيلا يمكن من خلاله التأثير على وعي الناس إلا وسلكته.
إن تجديد الخطاب الديني لا يمكن أن يمر إلا بتجاوز أفخاخ المصطلحات التي نصبتها الوهابية في طريق أي وعي إسلامي مضاد للفكر الوهابي، وأول سبل التجاوز هو التوقف عن استخدام المصطلحات الجاهزة، وابتكار مصطلحات جديدة للخطاب الديني، خاصة المتعلق بالجرائم المرتكبة باسم الدين، يجب التوقف عن استخدام مصطلح الإرهاب للإشارة إليها، ووصفها على حقيقتها: جرائم قتل وليست إرهاب، واغتصاب وليس سبي، وجرائم قطع أيدي الناس وليس إقامة للحد، وهو فكر شاذ تكفيري وليس فكر إسلامي متعصب، وهو الإسلام الصحيح وليس الإسلام المعتدل، وهو منهج الإمام أحمد بن حنبل وليس منهج أهل السنة والجماعة، ومستندا إلى فتاوى شيخ الوهابية ابن تيمية وليس شيخ الإسلام، وهي عادات اجتماعية مخالفة للدين وليست شركا ولا عبادة أوثان.
وكما طوعت الوهابية كل أدوات الثقافة العامة لتمرير المصطلحات التي بها عبثت بواسطتها بوعي الناس، ينبغي لدعاة تجديد الخطاب الديني اقتحام كافة ميادين نشر الثقافةن من الكتاب، والبحث العلمي، إلى المحاضرة والفيديو المصور، والمواقع الالكترونية، والخطبة والمسجد والمدرسة والجامعة، والمنابر الإعلامية المختلفة.
لم يكن تركيز الوهابية على مصطلحات ذات الإيحاءات العميقة عبثا، بل كان ذلك ضمن خطة منهجية اتبعها كل الطغاة في التاريخ الإنساني، للعبث في وعي الناس، وجعلهم يمارسون الخضوع للاستبداد باعتباره عمل مقدس، بل وواجب ديني، فيخضعون أنفسهم، في ابشع أشكال الخضوع وأشدها رسوخا، ولن يتحقق الخلاص من قيود هذا الوعي المزيف إلا بمقاطعة المصطلحات الجاهزة، وابتكار مصطلحات واعية تلائم تيار التجديد الديني.