العلاج بالكي والحجابات والشعوذة في ريف فلسطين بقلم د. كاظم ناصر
تاريخ النشر : 2018-09-22
العلاج بالكي والحجابات والشعوذة في ريف فلسطين بقلم د. كاظم ناصر


لم يكن في معظم قرى فلسطين عيادات للاهتمام بالمرضى ومحاولة علاجهم حتى نهاية الستينيّات من القرن المنصرم؛ وكان أهل القرى يذهبون إلى المدن المجاورة التي تقدّم خدمات طبيّة طلبا للعلاج الذي كان متخلّفا ومكلفا للقرويين في ذلك الوقت؛ ولهذا فإنهم اعتمدوا، إلى حدّ كبير، على الطب الشعبي الذي يقوم على تجبير الكسور بطريقة بدائية موروثة، والأعشاب، والكي بالنار، والشعوذة، وبعض الممارسات التي تعلّموها من الآخرين بالخبرة.
كان أهل قرية عقربا وقرى المشاريق يذهبون إلى عيادات الأطباء في مدينة نابلس التي كان فيها عددا محدودا من العيادات الخاصّة والأطباء المشهورين محليّا، ولم يكن فيها سوى ثلاثة مستشفيات: المستشفى الوطني الحكومي الذي ورثته المدينة عن الأتراك، ولهذا كان معظم الناس يسمّونه المستشفى " العصملّي"، والمستشفى الإنجيلي الذي أسّسته وتشرف عليه الكنيسة الإنجيليّة، ومستشفى الطاهر الخاص.
كانت تلك المستشفيات صغيرة، وتفتقر إلى التقنية الملائمة، والمهارات الطبيّة المتخصّصة، والممرّضات اللواتي حصلن على تأهيل علمي كاف في التمريض؛ ولهذا كان بعض المرضى يموتون أو يصابون بعاهات دائمة نتيجة الأخطاء الطبية التي كانت ترتكب بحقهم في تلك المستشفيات وغيرها الموجودة في مدن فلسطين.
لكن معظم الأمراض في الريف كانت تعالج بعدد من الطرق البدائية التي لا علاقة لها بالعلم والطب الحديث منها: أولا، تجبير الكسور حيث كان يقوم به شخص من أهل القرية أو من قرية مجاورة تعلّم ذلك من آخرين وبالخبرة؛ وكانت عمليّة التجبير تتمّ بإحضار قطعة قماش ووضع سائل بيضة عليها ولفّها بشدة حول الجزء المكسور، ثم توضع قطع من " الشقايق "، قطع مستطيلة من الخشب حول الجزء المكسور، وتربط بشدّة بخيط صوف يلّف حولها، ويترك المريض حتى يشفى، ويقوم بعد ذلك المجبّر بفك وإزالة " الجبار"، وفي معظم الحالات يلتئم الكسر خلال عدّة أسابيع، ويشفى المريض، ويعود الجزء المكسور إلى وضعه الطبيعي. لكن هذه الطريقة كانت تفشل في علاج الكسور المركبة وكسور المفاصل وتعرض المريض للإصابة بمشاكل صحيّة دائمة.
ثانيا العلاج بالأعشاب: كان أهل الريف وما زالوا يستخدمون " الميرميّة " و " البابونج " واليانسون " ضدّ المغص وكمهدّئات؛ " والصبار والحلبة " لعلاج " السكري ": المرض الذي ينتج عن نسبة زيادة السكر في الدم، ومجموعة من الأعشاب الأخرى التي يعتقدون أن لها فوائد صحيّة، وتساعد في تخفيف الألم وعلاج بعض الأمراض.
ثالثا العلاج بالإبر: كانت هذه العمليّة تتمّ بإحضار مجموعة من الدبابيس الكرويّة الرأس، ويقوم المعالج بتعريضها للنار لتطهيرها؛ ثم يستخدم " سن " ثوم مقشور ومقطوع من الوسط لدهن الجزء الذي ينوي علاجه بعصير الثوم بشدة لتنظيف وتطهير وربما تخدير ذلك الجزء؛ وبعد ذلك يغرس عددا من الدبابيس، وينتظر بضع دقائق، ثم يسحبها وينظّف مكانها ويعيد الكرة عدّة مرات؛ وكان الناس يعتقدون أن هذه الطريقة، التي كانت وما زالت منتشرة في دول كثيرة من بينها الصين والدول الأكثر تطورا في العالم، تشفي آلام وتشنّج العضلات وعددا من الأمراض الأخرى.
رابعا العلاج بالكي: العلاج بالكي معروف عند معظم شعوب العالم، وكان من الطرق العلاجيّة المتّبعة في علاج الجروح ومنعها من الالتهاب قبل تطوير العلوم الطبية الحديثة. كان الكي في عقربا وقرى فلسطين يتمّ بطرق مختلفة من أهمها 1) الكي " بالصوفانة ": نبتة جبليّة تنمو في المناطق المحيطة بالقرى؛ كانوا يجمعونها ويجفّفونها، ثم يفركونها ويضعونها بشكل دائري على موضع الألم، ويشعلون عود كبريت ويضعونه على الصوفانة لتشتعل وتحرق الجزء الذي تحتها ببطء؛ وخلال أيام قليلة يلتهب الجزء المحروق" ويعمّل " يبدأ بإخراج صديد كانوا يعتبرونه دليلا على الشفاء؛ وبعد الشفاء، ولإيقاف خروج الصديد والتئام الجرح يضعون" فلقة " نصف حبة حمص أو فول في منتصف " المكوى " المنطقة الملتهبة، ويغطّونها بورقة توت خضراء، ويربطونها لتمتص الصديد وتعجّل في التئام الجرح؛ وكان هذا النوع من الكي يستخدم في شفاء آلام البطن والظهر والركب والأرجل ورأس المعدة. 2) الكي بالمخرز أو المسلة لعلاج آلام الكتف واليد والصدر: كانوا يحضرون مخرزا أو مسلة ويعرضوها للنار حتى تحمر " وينخزوا " يلذعوا بها مكان الألم لإشفائه.
خامسا علاج الأطفال بقراءة القرآن الكريم والدعاء، والحجابات، والحرز، " والطاسة" الحجازية: عندما يمرض أحد الأطفال، أو لا يأكل جيّدا، أو لا ينام بانتظام كان الآباء والأمهات يبحثون عن تفسير أو سبب لما حدث ويحاولون إيجاد وسيلة لعلاجه، ويلجؤون إلى أحد شيوخ القرية أو رجل متديّن يقرأ ويكتب ليقوم بقراءة آيات من القران عليه والدعاء له بالشّفاء، أو يقوم بعمل " حجاب" أو " حوطه " للطفل.
كانت الأم تزوّد كاتب الحجاب أو الحوطة بأثر للطفل " قطعة بالية من " خلقته أو قمبازه " أو ملابسه الأخرى، وكان كاتب الحجاب لا يطلب شيئا، لكن بعض الأمهات كنّ أحيانا " يصرين " يضعن في الأثر " شلن " خمسة قروش أردنية، أو يرسلن دجاجة مقابل الخدمة. كان الحجاب يحتوي على سور من القرآن الكريم كالفاتحة، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الناس إلخ، وبعض الأدعية؛ وبعد أن ينتهي الرجل من كتابته، يقوم بطيّه على شكل مثلّث، وتأخذه أم الطفل وتغلّفه بقطعة قماش بيضاء، وتعلّقه على مهد الطفل. أما الطفل الذي كان يشكو من ألم في أذنيه أو حلقه أو لوزتيه، فكانوا يحضرون خرزه زرقاء يسمونها " أم لحلوق أو ذيبه " ويعلقوها في رقبته لتشفيه؛ ولمعالجة الطفل الذي كان يخاف من الظلام أو يرتعب، فكانوا يجلبون " طاسه" صغيرة من الحجاز يسمونها " طاسة الرجفة " مكتوب عليها آيات قرآنية ويضعوها في " جرّة أو زير " الماء الذي تشرب منه العائلة دون أن يعلم الطفل المقصود علاجه بوجودها، ويشرب من ماء " الجرّة أو الزير " ويشفى! ولحماية الطفل من العين الحاسدة، كانوا يعملون له " حرز" يتكون من قطعة قماش بيضاء يضعوا فيها " شبّه " وخرزة زرقاء ومعها لوزتين مقشورات " ملزكات " في بعض ويعلقوه على كتف الطفل.
سادسا العلاج بالشعوذة: كان يقوم به المشعوذون والمشعوذات لعلاج " الإصابة بالعين، والسحر، والجن، والأمراض النفسية والعقلية" التي تصيب الصغار والكبار؛ لقد تواجد هؤلاء في كثير من قرى ومدن فلسطين وتكوّنوا من مجموعتين: الأولى تقوم بهذه الخدمة كصدقة ومساعدة للناس، بينما الأخرى تتقاضى أجرا مقابل خدماتها. وكانت طرق علاج هذه الأمراض تختلف من مشعوذ لآخر؛ فعلاج طرد الجن كان يقوم به رجال ونساء يدّعون أنهم قادرين على الاتصال مع الجن ويعرفون كيف يطردونهم من أجسام المصابين بمس جنّي، أو كما كان يقول القرويون " لابسه أو لابسها جن"؛ فمنهم من يقرأ آيات معيّنة من القرآن الكريم ويتفوه ببعض الأدعية، أو يستخدم مفردات غامضة أو غير مفهومة ويدّعي أنه يتصل عن طريق هذه المفردات مع الجن لإقناعه بالخروج من جسد المريض، أو يغطي نفسه بعباءة أو بطانيّة ويقرأ ويتمتم، أو يضرب المريض ضربا خفيفا بمطرق لطرد الجن، أو يطلب من أهل المصاب على سبيل المثال أن " يذبحوا دجاجة حمراء ويدفنوا ريشها، ويطعموا صدرها الأيمن ورجلها اليسرى للمريض!" أو يصف شيئا معيّنا غريبا يجب القيام به لطرد الجن وفك السحر ورد كيد الحسود.
كان معظم الناس في ذلك الوقت يؤمنون بوجود هذه الحالات وبقدرة المشعوذين على إشفائها؛ لكن الحقيقة هي أن المشعوذين كانوا يدّعون القدرة على علاج حالات موروثة وأمراض نفسيّة وعقليّة لا علاقة للسحر والجن والعين والشياطين بها، ومن الصعب التحقّق من أسبابها البيولوجيّة أو النفسيّة، وإن تشخيصها وعلاجها يتطلّب تخصّصات مميّزة في الطب وعلم النفس؛ لكن التخلّف والجهل بأمور الدين والدنيا أتاح الفرصة لهؤلاء المشعوذين والمشعوذات أن يقوموا بمهام تتنافى مع العلم والعقل والتفكير المنطقي السليم، ومكّن بعضهم من الحصول على مردود مالي مقابل خداع الآخرين، وللأسف الشديد ما زال الكثير من الناس يصدّقون هؤلاء المشعوذين ويقعون ضحايا لكذبهم واحتيالهم!
ومن وسائل الشعوذة التي كانت تمارس في قرية عقربا وغيرها من القرى العلاج " بالنذر" حيث ينذر والد أو والدة أو زوج أو زوجة شخص أو مريض، أي يقطع على نفسه عهدا لرب العالمين سبحانه وتعالى بأنّه سيذبح ذبيحة ويوزعها على الفقراء، أو يوزع شيئا عينيّا على المحتاجين. والدتي التسعينيّة " فهميّه " أطال الله عمرها، أخبرتني أنها أنذرت بأنها ستذبح عجلا إذا شفيت من المرض العضال الذي أصبت به في طفولتي. وبعد أن شفيت وكبرت وتزوجت وأنجبت ذكّرتني بأنها ما زالت " بتحلم في النذر في الليل ولازم توفيه" وإلا فستكون النتيجة سيئة ولا ترضي الله، فاشتريت لها عجلا ذبحته ووزعته وأرحتها من الكابوس الذي كان يؤرّقها!
ومن الطقوس التي حضرتها حفلة إيفاء النذر الذي أنذرته والدة أحد الأطفال بأنها ستقص شعره في مقام النبي نون في قرية " يانون " الواقعة إلى الشمال من عقربا لتجنيبه الحسد والإصابة بالعين. لقد ذهبنا نحن الأطفال إلى المكان لنتفرّج على تلك الممارسة؛ فبعد أن تجمع الناس في المكان قام شخص بقص شعر الطفل بمقص؛ كانت القصة دائرية للجزء الأسفل من الرأس؛ لكن هذه الممارسة توقفت في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين.
أما عن طب الأسنان فحدّث ولا حرج؛ كانت ثقافة الأسنان متخلّفة جدا في ريف فلسطين، والعناية بها عن طريق تنظيفها بالمعجون والفرشاة قليلة جدا أو شبه معدومة، وكان شائعا بين الرجال والنساء الذين كانوا في منتصف العمر أن يفقدوا أسنانهم وأضراسهم باكرا بسبب التدخين وعدم الاهتمام بها؛ ولهذا كان معظمهم يخلعونها، ويركّبون " طارات " أسنان اصطناعيّة وهم ما زالوا شبابا وفي منتصف العمر.
كان في قريتنا رجلا طيّبا خدوما كمعظم أهل القرية يخلع اسنان أهل القرية مجانا ب" كماشة " صغيرة لا أعرف كيف وجدها أو من أين حصل عليها، لكنه استخدمها لخلع أسنان وأضراس أهل القرية؛ كان الرجل يأتي أحيانا إلى بقالة حامولة بني جابر؛ لقد شاهدته أكثر من مرّة وهو يقوم بدور طبيب الأسنان؛ وكانت عملية العلاج تتّم كما يلي: يقول أحد الحاضرين " أبو علي طاحونتي بتوجعني إخلعلي ايّاها وريّحني منها." فيخرج أبو علي " كماشته " الصغيرة من جيب " قمبازه " ويقول للشخص " افتح ثمك وقلي وين الطاحونه الي بتوجعك!" يضرب أبو علي بالكماشة على الضرس الذي حدّده الرجل، ثمّ يطبق عليه بكماشته ويسحبه بقوة ويخرجه من فمه، ويقوم الرجل بوضع كميّة صغيرة من الملح في مكان السن المخلوع الدامي لإيقاف النزيف وينتهي الأمر.
كانت العناية الطبيّة في ريف فلسطين متخلّفة تتّسم بالبساطة وتفتقر إلى العلوم الطبيّة الحديثة، لكن الناس كانوا راضين عمّا توفّر لهم في بيئتهم، وسعداء بنمط حياتهم الذي كان مثالا حقيقيا على أن البيئة المتخلّفة تنتج إنسانا متخلّفا، وتفرض عليه أن يتعامل ويتكيف معها بما توفره له من مصادر علاجيّة وماديّة ومعرفية تلائم خبراته ومعتقداته وعاداته الموروثة.