الجزائر بلد الشهداء بقلم:أ.د. إبراهيم العاتي
تاريخ النشر : 2018-09-18
الجزائر بلد الشهداء بقلم:أ.د. إبراهيم العاتي


تذكرة وعبرة وان جاءت متأخرة:
الجزائر بلد الشهداء
لا يسيء الى من وقف معه ايام المحنة!
د. إبراهيم العاتي
(أكاديمي وباحث)
يومان في طفولتي لا اعتقد ان النسيان سيطويهما: الاول حينما زار مدينة النجف الاشرف في العراق وفد الحكومة الجزائرية المؤقتة برئاسة فرحات عباس ومعه كريم بلقاسم وآخرين، عام 1959، حيث خرجت جماهير هذه المدينة التي تعتبر العاصمة الروحية والثقافية للعراق، عن بكرة أبيها للترحيب بالوفد الجزائري، ومنهم طلبة المدارس من الابتدائية حتى الاعدادية، وكنت في الابتدائي فخرجنا ونحن نهتف: فرحات عباس اهلاَ بيك... شعب العراق يحييك!
وقد قدمت الحكومة العراقية برئاسة اللواء عبد الكريم قاسم (ت 1963)، الذي اطاح بالنظام الملكي في 14 تموز (يوليه) 1958، وفي تحد واضح للحكومة الفرنسية، مساعدات مالية وعسكرية قيّمة لحكومة الثورة، وقبلت عددا من الطلبة الجزائر في الكلية الجوية، وفي الكلية العسكرية، وفي كليات مدنية أخرى. مما اثار حفيظة الفرنسيين الذين لم يعترفوا بالنظام الجمهوري العراقي الا بعد مدة ليست بالقصيرة.
والثاني: بعد انتصار ثورة نوفمبر عام 1962 حيث زار النجف وفد جزائري آخر برئاسة العقيد هواري بومدين، وكان وزير الدفاع حينذاك، ليقدم الشكر للحكومة العراقية والشعب العراقي على مؤازرتهم للشعب الجزائري ابان الثورة، وكانت تحملهم طائرة مروحية  هبطت في (حي الحنانة) خارج المدينة القديمة، نظرا لوجود ارض صحراوية تحيط بها. وكان اول من هبط من الطائرة العقيد بومدين، ومازلت اذكر ملامحه... وقد زحفت الحشود لاستقباله والهتاف تحية لثورة الجزائر، وكنت معهم، ويومها زار العقيد بومدين سماحة المرجع الكبير الامام السيد محسن الحكيم (رضوان الله عليه) -انظر الصورة المرفقة-.
هذان الحدثان رسّخا عندي تشكيل الوعي عن الثورة الجزائرية ورموزها. وقد عمق ذلك الوعي تلك الطاقات الادبية الشعرية التي استخدمت سلاح الكلمة لنصرة الثورة الجزائرية، واكثرهم كانوا من شيعة العراق. واقربهم الي مثالا والدي العلامة الشيخ عبدالزهراء العاتي (طاب ثراه)، الذي نظم العديد من القصائد في الثورة الجزائرية منذ انطلاقتها الكبرى في الخمسينيات، منها قصيدة عن (جيش التحرير) وقصيدة عن المناضلة (جميلة بوحيرد)، وقد القاهما في الاحتفالات التي كانت تقيمها جمعية الرابطة الادبية لنصرة الجزائر، كما نشرهما الكاتب المناضل والدبلوماسي الجزائري عثمان سعدي في كتابه (الثورة الجزائرية في الشعر العراقي). ولو تصفحت هذا الكتاب لرأيت اسماء شعراء امثال: الاستاذ صالح الجعفري، والشيخ محمد علي اليعقوبي، ود. السيد عبدالصاحب الموسوي، ود. محمد حسين الصغير، والشيخ محمد الخليلي، والسيد هادي كمال الدين، ومحمد مهدي الجواهري، ومحمود البستاني...وكثيرين غيرهم ممن لم يتوصل اليهم المؤلف كالعلامة د.السيد محمد بحر العلوم، هم من شيعة العراق، الذين دفعهم التزامهم الوطني والقومي والديني لمناصرة الشعب الجزائري الذي كان يتعرض لابشع عمليات الإبادة والحصارعلى يد المستعمر الفرنسي، فكان بحاجة الى اي دعم مادي او معنوي، يأتيه من اخوانه، فهب الشعب العراقي للمساعدة، بالسيف والقلم، دون أن يسأل عن هوية هذا الشعب المذهبية او العرقية، فهل يجازى بمواقفه النبيلة والأصيلة بمثل تلك الهتافات الموتورة؟ وأين..في مباراة رياضية، والرياضة يفترض ان تتسامى على مختلف اشكال التعصب؟
وقد شاءت الأقدار أن اعمل في الجزائر استاذاَ  بجامعة قسنطينة وجامعة الامير عبدالقادر في الثمانينات، فالتقيت بشعب كأني اعرفه منذ  زمن طويل، وساهمت في تخريج العديد                                                 من الطلبة والطالبات الاعزاء الذين مازالوا يتواصلون معي حتى اليوم، وهم الآن من طلائع الأساتذة والاكاديميين في الجزائر. لقد كتب والدي عن الجزائر وهو لم يرها، لكني كتبت قصيدة القيتها في مؤتمر عقد في مدينة باتنة حييت في احد مقاطعها الثورة الجزائرية، وكانت تلك الثورة ملء السمع والبصر.
أما بالنسبة لصدام فالشعب العراقي هو من اكتوى بناره، طيلة خمسة وثلاثين عاما وهو الذي يقيّم افعاله، فأهل مكة ادرى بشعابها، ولكن هل سأل بعض من اطلق تلك الهتافات نفسه: من قتل وزير خارجية الجزائر محمد بن يحيى ولماذا؟ ارجعوا الى ما ذكره السيد حامد الجبوري وزير شؤون رئاسة الجمهورية العراقي في عهد (البكر-صدام)، من ان طائرة بن يحيى المدنية قد اسقطتها طائرة مقاتلة عراقية، باوامر من صدام، وان اللجنة التي شكلتها الحكومة الجزائرية في حينها برئاسة وزير النقل الجزائري صالح قوجيل والتي عاينت موقع الحادث عثرت على صاروخ لطائرة ميغ روسية قد تفجر واخر لم ينفجر وفد نقلت الى الروس فدققوا في الارقام واجابوا انها قد بيعت للعراق!!
لقد ادرك مشعلوا الحرب ان الوزير بن يحيى لو استمر في وساطته سوف ينجح فيها، وهو الدبلوماسي المحنك، كما نجح في حل ازمة الرهائن الامريكان في ايران، فصدر القرار بتصفيته وغاص العراق، لمدة ثماني سنوات، في حرب كارثية كلفته خسائر بشرية قاربت المليون بضمنهم الجرحى والمعاقين، وخسائر مادية قدرت بمائة مليار دولار بقيمتها في الثمانينيات، ناهيك عن تدمير شامل للبنى التحتية، ولم تنقض سنة تنفس فيها شعب العراق الصعداء، حتى احتل صدام الكويت، وصار يتودد للمسؤولين الايرانيين وبعث برسالته الشهيرة الى الشيخ رفسنجاني عارضا عليه العودة لاتفاقية الجزائر التي مزقها قبل الحرب!!
لقد تعرضت الجزائر لضغوط كبيرة لجرها للتحالفات (الصهيو-امريكية) ومن يدور في فلكها في الشرق الاوسط، لكنها رفضت ذلك باصرار، فسلطوا عليها ارهابهم الاسود في التسعينيات، الذي فشل بفضل حكمة القيادة ووعي الشعب الجزائري. لكن الاعداء لن ييأسوا وسيواصلون زرع الفتن المذهبية والعرقية والدينية، لإحداث القطيعة بين الشعب الجزائري وبقية الشعوب العربية والاسلامية، وسوف تفشل مخططاتهم أيضا، لأن العلاقات بين القيادات الدينية لم تنقطع، فقد زار الشيخ البشير البراهيمي (رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) مدينة النجف الاشرف عام 1954، والتقى الامام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (رض) الذي عرف بمواقفه الوطنية المناصرة للقضية الفلسطينية والمتصدية لمشاريع الاستعمار في المنطقة التي لا تميز في مخططاتها العدوانية بين الشيعة والسنة (انظر الصورة المرفقة). فهل ان من يشعلون نيران الفتنة الطائفية اعلم من الشيخ الابراهيمي بحقيقة المذاهب الاسلامية ام انهم اكثر منه التزاما بكتاب الله وسنة رسوله؟!
وكلمة اخيرة: إن ما تهدف له القوى المعادية للجزائر ليس هو الصراع السني الشيعي، لان هذا امر لا وجود حقيقي له في الجزائر، وانما هذه الفزاعة مجرد قنابل دخان تخفي مخططات تحضر لاستغلال التباينات الموجودة فعلا على الارض الجزائرية، والتي لا يخلو منها اي بلد او مجتمع، من اجل ضرب وحدته وتقسيمه، الامر الذي يتطلب اقصى درجات الحيطة والحذر. (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).