نصفي المحترق بقلم:عادل بن مليح الأنصاري
تاريخ النشر : 2018-09-13
نصفي المحترق بقلم:عادل بن مليح الأنصاري


نصفي المحترق
( عادل بن مليح الأنصاري)

كثقب أسود تسعى إليكِ الذاكرة , وفي أقصى الحكايا مازال صوتي يبحث ترنيمة ألقتها ذات وجع أنثى ماكره , مشرد في أدنى الأرض أنا , أنزف ما تبقى من وقتي انتظارً لما لا يأتي .
لم ولن تكوني يوما محور وجودي , ففي داخلي تعصف الريح وتناجيني بصوتٍ قبيح , لا تنسَ حقائبك المهترئة وأنتَ تلملم سخافات عمركَ الأقبح .
هل كان عمري قبيحا فعلا ؟
توقفت ببلادةٍ بجوار شيءٍ عجزت أن أتهجى ملامحه , وبلا مبالاةٍ أكملت حواري الذي لا أعرف من أيّ أبجدية مملة صاغته ذاكرتي المتجهةِ نحو ذات الثقب الأسود , ولكن هل تستحق أنثى لم توجد إلا في تمائم العرافين أن تبتلع وجودي , ربما بالغتُ قليلا , إنه نصفي المحترق والذي لم يمنحني عبر عثرات حياتي غيرَ حكايا رديئة ولحظات ٍ تجاملني ضجرا وتراقب أوهامي غير عابئة بترهات الألم أو الندم أو الشفقة الماجنة نحو نصف إنسان رهن ذاكرته لنصفه المحترق .
لم يكن ذلك الشيء الذي لم ألتفت إليه يعبأ بثرثرتي , وفجأة سألني دون ان ينظر إلي :
اسمع يا هذا , بعضكم أنتم أيها البشر تهرولون في دروب الحياة ولكنكم تتجاهلون بعض المحطات التي تمنحكم بعض ضوءٍ والكثير من الأشياء التي لا تهمك الأن وأنت تجر خطاك عبر نهاية الطريق , تشتكي عبث الوقت بك , وعبث الذاكرة التي صفعتك فجأة لتقول أنها فارغة من كل أوهامك التي كانت رفيقة دربك البائس .
اسمع , تخيل أنك تقف عبر هذا الطريق وأنت تقف على عتبات محطته الأخيرة , انظر خلفك سأمنحك القدرة على تذكر أجمل تلك المحطات التي مررت بجوارها ولم تلمح تلك الأضواء التي أنارت ذاكرتك المحترقة لوهلة ودعتك للمكوث ولو قليلا علّكَ تجد نصفك المضيء , ربما لكنتَ تصل لمحطتك الأخيرة وأنت راضٍ عن نفسكَ وعن نصفك الأجمل , ولكن نسيت ان أسألك , ما كان نصفك الأجمل الذي عنيت؟
أحاول أن أستبين ملامحه الآن، ولكنه محترق ٌ وكأني به يسخر من نهايتك!
ورغم عجزي عن تأمل ملامح محدثي إلا أني أجبته وكأني أفاجئني بإجابتي :
لقد نثرت خطوات عمري عبر هذا الطريق وأنا أُقنع ذاكرتي أنها الأنثى التي خططت ملامحها وأنا في المهد صبيا , هي التي غرست في أناملي وقلبي وعقلي ابجديات الوله والشوق والأحلام , هي التي كنتُ أحفر حروف اسمها على جدار البيوت في حارتي العتيقة , ثم اقتحمت ذاكرتي عند ولادة أول بيت شعرٍ تنفس بين أوراقي , وهي التي أهدتني أول دموعي التي تسللت من عيني لأنها غنّت لي , كان نصفي الذي مارستُ معها صياغة أحلامي من بكاء أول طفل لنا وحتى ساعدها الذي أتكئ عليه عند هرمي .
ولكن رباه لماذا يحاول هذا المخلوق الذي أجهل ملامحه أن يعيد ذاكرتي لأنظر للوراء , لماذا بدأتُ أعيد صياغة ذاكرتي ؟
سأصدق القول يا هذا , وكأني بنصفي المحترق لم يكن أنثى يوما !
ربما كانت الأنثى تسكن محطاتي وهما على وهم , نعم إني أرى تلك المحطات وأنا أقف هنا بين ذاكرتي وبين حضورك المهيب , وكأنها تمرّ بي وأنا في خدرٍ وثمة صور تتمايل أمامي لأقدارٍ كانت تتلهف لاحتضاني , فهنا ثراء فاحش , وهناك سلطة ووجاهة , وثالثة شهرة ومكانة , ولكن أين نصفي المحترق ؟
كان يحتلُّ ذاكرتي ويرسم خطواتي , كان كلّ محطاتي !
كان نصفي المحترق مجرد أنثى !!!
هل كانت شيطانا عبث بأقداري ؟
هل كانت يا ربّ خياري ؟
من يمنحني العودة لأولى خطواتي ؟
لأتبعَ ضوءَ محطاتي , أحاول عبثا أن أرجع ,
عشرةَ أعوام ,
عشرة أيام ,
عشرَ ثواني ,
هل كُتبت اقداري لأعاني ؟
نبهني نصفي المحترق أن هيا نمضي , فنظرتُ إليه بأسىً بالغ , أين نمضي هي محطتنا الأخيرة , هيا نجلس حتى يمرّ بنا قطار الراحلين .
وتنبهتُ على يده الباردة وهي تربت على كتفي ويرسل صوتا كبحةِ ريحٍ كئيبة , وقال :
لا تلمْني على ما فاتك من أمانيك العظيمة, ولكن خطواتك يا صديقي كانت أسرع من أن تختار محطاتك الأبهى , واكتفيت بأوهامك وبنصفك المحترق .
وقبل أن يمضي ناديته متعجبا :
ولماذا ألومك يا صديقي ؟
فابتسم في أسىً وقال , أنا القدر يا صديقي البائس ,, ومضى