الليرة التركية واجهة حرب بقلم : نسيم قبها
تاريخ النشر : 2018-09-12
الليرة التركية واجهة حرب

بقلم : نسيم قبها

هاجم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرا, مؤسسات التصنيف الائتماني العالمي واصفًا إياها أنها مسيسة، ولا تتحلى بالصدق، ويقصد في تصنيفها للاقتصاد والبنوك والمؤسسات المالية التركية. وذلك بعد أن تحدث عن التلاعب بأسعار صرف العملات الأجنبية والتي من شأنها إثارة الشك في الاقتصاد التركي الذي وصفه بالقوي والمتين, جاء ذلك في الكلمة التي ألقاها في منتدى الأعمال التركي القرغيزي أثناء زيارته للعاصمة القرغيزية بيشكك.
كما هاجم الرئيس التركي في ذات الكلمة الحروب التجارية والسياسات الحمائية ودعا للتخلص تدريجيًا من هيمنة الدولار، داعيًا دول العالم إلى استبعاد الدولار في مبادلاتها التجارية واعتماد عملاتها المحلية.
وجاء ذلك في سياق استمرار انخفاض الليرة التركية, والتي عزا النظام التركي أسبابها إلى الحرب التجارية التي تقوم بها الإدارة الأميركية ضد بلاده. على أنه رغم التطمينات من المسؤولين الأتراك فقد تم تسجيل انخفاض جديد مستمر في سعر الليرة التركية. فبعد إعلان البنك المركزي التركي بيانات رسمية تظهر زيادة نسبة التضخم الشهر المنصرم إلى 17,9 % ، سجلت العملة المحلية 6.6500 ليرة مقابل الدولار، متراجعة أكثر من 1.5 في المئة عن الإغلاقات السابقة.
لقد كان القرار الذي اتخذه الرئيس أردوغان يوم 9/7/2018، وهو يوم أدائه اليمين لتولي منصب الرئاسة على ما يبدو مخالفًا لرغبة الإدارة الأميركية ومثيرًا لحفيظتها, وقد تمثل ذلك القرار في منح أردوغان لنفسه صلاحية اختيار محافظ البنك المركزي ونوابه، وكذلك تعيين أعضاء لجنة السياسات النقدية في الفترة القادمة.
وتكمن خطورة هذا القرار بالنسبة لأميركا في أنه يمثل أول إجراء عملي يتخذه أردوغان في طريق القضاء، أو على الأقل، السيطرة على لوبيات المال الذين يمثلون الباب الخلفي الذي ما زالت تدخل منه الدول الغربية وبخاصة أميركا للتدخل والتأثير في الوضع الداخلي التركي.
فبعد أن نجح أردوغان وحزبه وأنصاره في فرض سيطرتهم على الجيش والشرطة والقضاء والتعليم بشكل واضح، ونجح في محاصرة مناوئيه في الإعلام وفي بعض أحزاب المعارضة، بعد كل ذلك شرع في تطهير شبكات الاقتصاد والنقد من اللوبيات الموالية للغرب أو المعادية لتوجهاته. وقد تعهد أردوغان أثناء حملة الانتخابات الرئاسية في أيار/مايو الماضي أمام جمع من رجال الاقتصاد والأعمال، بمحاربة ما وصفه بـ"لعنة" أسعار الفائدة التي اعتبرها "أم الشرور".
إن رفع سعر الفائدة من منظور اقتصادي رأسمالي يساعد على المدى القريب في الحد من التضخم وإيقاف تدهور قيمة العملة لكنه على المدى البعيد يرجح أن يؤدي إلى ركود اقتصادي بسبب تراجع نسبة الاستثمار، ذلك أن رفع سعر الفائدة يصب في مصلحة أصحاب رؤوس الأموال الذين يضعون أموالهم في البنوك ويجنون من ورائها ربحًا ربويًا ضخمًا دون القيام بجهد اقتصادي. وهذه هي الكيفية التي يتم بها أكل أموال الناس وجهدهم ، ومن خلالها يتم تركيز الثروة في يد فئة قليلة تستعبد عموم الناس.
إن القطاع البنكي والسياسة النقدية اللذيْن يشرف عليهما البنك المركزي هما الجهة الوحيدة التي لم يصل إليها أردوغان وجماعته في إعادة صياغتها وتحريرها من النفوذ الخارجي بسبب سياسة السوق الحرة في عمل البورصات وتنقل أموال المستثمرين داخليًا وخارجيًا، وكذلك بسبب ما سارت عليه الحكومة التركية من عدم فرض رقابة على رؤوس الأموال.
أما قضية الجاسوس القس برونسون فلم يكتف ترامب باستغلالها للضغط على الليرة التركية بل إنه قام بمضاعفة الرسوم الأميركية على الصلب والألمنيوم التركيين ليدفع نحو انهيار الليرة كما صرح هو نفسه بذلك. وبالتالي فإن الدافع الأميركي الأول للهجوم على الليرة التركية هو إجبار أردوغان على عدم التدخل في السياسة النقدية والمالية للبنك المركزي التركي. ليس ذلك فحسب بل هناك دافع أميركي آخر من وراء الهجوم على الليرة هو: ضرب عملة أوروبا واقتصادها.
فقد ذكرت وزارة المالية الألمانية يوم 20/8/2018 في تقريرها الشهري أن "التطورات الاقتصادية في تركيا تمثل خطرًا اقتصاديًا خارجيًا جديدًا"، وأضافت الوزارة أن "المخاطر ما زالت موجودة لاسيما فيما يتعلق بالغموض بشأن كيفية نجاح انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى السياسات التجارية الأميركية في المستقبل".
فرغم أن ترامب قد بدأ منذ فترة بالهجوم على التجارة الأوروبية من خلال فرض رسوم جمركية على الصلب والألمنيوم المصدرين من أوروبا إلى أميركا إلا أن ذلك لم يكن له تأثير كبير على الوضع الاقتصادي لأوروبا. لكن هجوم ترامب على الليرة التركية قد جعل أكبر دول أوروبا، وبخاصة ألمانيا وفرنسا، تعلن وقوفها إلى جانب تركيا في أزمتها النقدية.
إن وقوف دول أوروبا الغربية إلى جانب تركيا في أزمة الليرة هو دفاع من أوروبا عن استثماراتها وقروضها الكبيرة الموجودة في تركيا. وهذا الوقوف مع تركيا أيضًا هو دفاع من أوروبا على عملتها التي استهدفتها أميركا بشكل غير مباشر عن طريق الهجوم على الليرة التركية.
ولبيان ذلك فإن حجم التجارة بين أوروبا وتركيا قد وصل إلى حدود 200 مليار دولار، وتعتبر ألمانيا من أكثر الدول المستثمرة في تركيا بمقدار 40 مليار دولار وبعدد 7 آلاف شركة ألمانية في تركيا، بينما تمتلك هولندا استثمارات بقيمة 22 مليار يورو في تركيا. وبالإضافة إلى حجم التجارة فإن هناك بنوكًا أوروبية كثيرة تقرض الحكومة والشركات التركية وتعد إسبانيا في مقدمتها بمقدار 38 مليار دولار.
ومن هنا فإن أكثر ما تخشاه هذه البنوك الأوروبية هو عجز الشركات التركية عن تسديد ديونها المستحقة لهذه البنوك في المواعيد المحددة. وإنه في حال عجز تلك الشركات التركية عن السداد في الموعد فإنه يخشى أن تسقط أسهم تلك البنوك الأوروبية. فالشركات التركية الخاصة تتحمل النصيب الأكبر من الديون الخارجية لتركيا والمقدرة بحدود 438 مليار دولار، أما الحكومة التركية فلا تتحمل سوى ما نسبته 28% من جملة الديون الخارجية.
ولذلك فلا غرابة أن تقف ألمانيا وفرنسا بشكل خاص إلى جانب تركيا في أزمة الليرة خوفًا من انتقال هذه الأزمة إلى منطقة اليورو بسبب الاستثمارات والقروض الأوروبية الكبيرة في تركيا. فالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، أكدت منذ انطلاق الأزمة أن بلادها حريصة على أن تكون تركيا "مزدهرة اقتصاديًا"، ومثلها فعل الرئيس الفرنسي ماكرون الذي أكد على أهمية استقرار الاقتصاد التركي وتعزيز الشراكة بين البلدين.
وبما أن الاتحاد الأوروبي أهم شركاء تركيا التجاريين، فإنه لا مصلحة لدوله فيما تقوم به أميركا من زعزعة وضع الاقتصاد التركي وانهيار الليرة. فهذا الوضع سوف ينعكس بالضرورة على الوضع الاقتصادي لدى العديد من دول الاتحاد، مثلما صرح بذلك وزير الاقتصاد الألماني الذي انتقد بشكل حاد الحرب التجارية الأميركية مشيرًا إلى أنها "تبطئ النمو الاقتصادي وتدمره وتؤدي إلى عوامل جديدة لعدم الاستقرار".
ومع أن أهم دول أوروبا تقف إلى جانب تركيا في أزمة الليرة، إدراكًا منها بأنها هي المستهدفة من أميركا أيضًا، ودفاعًا عن اليورو وسوق الأسهم في أوروبا، لكنها أيضًا تقوم بالضغط على أردوغان من أجل الاقتراض من صندوق النقد الدولي وتضغط عليه كذلك حتى يبقي وضع البنك المركزي مستقلًا في رسم سياساته النقدية بعيدًا عن خطط مؤسسة الرئاسة التركية.
فقد حثت الحكومة الألمانية تركيا على قبول برنامج مساعدات من صندوق النقد الدولي؛ للخروج من أزمة انهيار الليرة التي تهدد بانهيار الاقتصاد التركي. وذكرت مجلة "دير شبيغل" الألمانية، أن هذا الموضوع تطرق إليه وزير المالية الألماني أولاف شولتس خلال محادثته الهاتفية مع نظيره التركي بيرات البيرق ( صهر اردوغان) يوم الخميس 16/8/2018.
وعند انطلاق أزمة الليرة صرحت المستشارة أنغيلا ميركل أن ألمانيا تريد أن ترى "اقتصادًا تركيًا مزدهرًا"، و"أن على تركيا السعي وراء ضمان استقلالية البنك المركزي". وقد جاء ذلك في تعليق لميركل جوابًا على سؤال طرح عليها يوم 13 آب/أغسطس 2018 حول الوضع في تركيا، مؤكدة بالقول: "لا أحد يريد عدم استقرار الاقتصاد التركي".
إن هذا الوقوف الأوروبي مع تركيا ضد الولايات المتحدة ليس خاصًّا بتركيا فقط، بل بدأ يتوسع في وقوف أوروبا مع إيران في أزمتها مع أميركا بخصوص الاتفاق النووي. فأوروبا تدرك أن شركاتها وتجارتها وعملتها هي المستهدفة من أميركا في هجومها على الليرة التركية وفي عقوباتها التي فرضتها على إيران بعد خروج ترامب من الاتفاق النووي. ولذلك ليس غريبًا أن تقود ألمانيا حملة أوروبية من أجل إنشاء أنظمة مالية مستقلة عن واشنطن.
فقد ذكر وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، في مقال كتبه بصحيفة "هاندلز بلات" الألمانية الاقتصادية أنه "لابد أن تدشن أوروبا، أنظمة مالية مستقلة عن الولايات المتحدة إذا أرادت الحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران والقوى الكبرى التي تخلى عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب". وتابع الوزير أنه من أجل " تعزيز الحكم الذاتي الأوروبي" فإنه "من الضروري تقوية استقلالية الاقتصاد الأوروبي عبر تدشين قنوات مالية تكون مستقلة عن الولايات المتحدة، على سبيل المثال إنشاء صندوق النقد الأوروبي".
هذه هي أهم الأسباب وراء انهيار الليرة التركية وإن كان السبب الرئيس هو بنية اقتصاد البلاد القائمة على اسس رأسمالية وأخطرها القروض الخارجية التي تضع جزءًا مهمًا من اقتصاد البلاد بيد الأجنبي مما يمكنه من التأثير على مصيرها.
أما بقية الأسباب التي يتم تداولها في وسائل الإعلام ومن قبل المختصين الاقتصاديين حول انهيار العملة التركية فهي موجودة قبل انطلاق أزمة الليرة، وفوق ذلك فإن كثيرًا من دول العالم تعاني من هذه الأسباب ولم تتعرض إلى انهيار عملتها وأسهمها أو إلى إفلاس شركاتها وبنوكها.
إن خلاف أميركا مع تركيا لا يقف عند قضية الهجوم على الليرة بزعم حبس الجاسوس برونسون بل هو خلاف عميق يتعلق برفض تركيا الحالية أن تكون مجرد قاعدة متقدمة لحلف الناتو وتابعة في سياستها الخارجية لأميركا. فالأزمات المتوالية بين تركيا وأميركا بدأت منذ أن أخذت تركيا تشق لنفسها طريقًا مستقلًا بعيدًا عن الدور الوظيفي الذي كانت تسير عليه منذ سقوط الدولة العثمانية.

وبناءً على ما تقدم فإن التقارب التكتيكي بين روسيا وتركيا في عدد من الملفات الإقليمية في الشرق الأوسط والبحر الأسود والقوقاز وصفقة صواريخ أس400 وبناء المحطة النووية التركية ومشروع السيل التركي، كما أن الخلاف الأميركي التركي حول الكيان الكردي في شرق الفرات والموقف التركي من العقوبات الأميركية على إيران وملف تسليم فتح الله غولن وقضية الجاسوس برونسون وتسليم طائرات أف35 والهجوم الأميركي على الليرة التركية، كل هذه القضايا الخلافية وغيرها إنما هي انعكاس لرفض أميركا وعدم تقبلها أن تسعى تركيا للاستقلال وترك التبعية لها, وتسير في سياسة داخلية وخارجية تحددها أولويات الأمن القومي التركي والمصالح العليا لتركيا الجديدة.
إن زعماء العالم الذين يرتجفون من سطوة أميركا هم في الحقيقة من يمكنونها من استعباد شعوبهم ومحاربتها في لقمة العيش, رغم أن أميركا تخشى تفلت دول العالم من سيطرتها فهي برغم خضوع معظم زعماء العالم لإرادتها فإنها لا تأمن من حصول ما يؤثر على تفردها في القرار الدولي, ولذلك فهي تحرص على اتخاذ كافة التدابير لعدم حصول ذلك, فإدارة ترمب مثلًا والتي دفعت بها الدولة العميقة في أميركا للواجهة لتنفيذ ما سبق أن خططت له, إلا أن ما يلاحظ من تسريبات ودلائل على إمكانية التخلص من الرئيس ترمب إنما يشير ذلك إلى إمكانية وضعه كبش فداء لو اقتضى ذلك للحفاظ على إحكام سيطرتها على دول العالم, وبخاصة بعد القرارات الصادمة من إدارة ترامب لمعظم الدول الفاعلة في العالم وبخاصة دول أوروبا وروسيا والصين وتركيا وغيرها.