العقل العربي ومآلاته -36- "العقل والتنوير" بقلم الشيخ عبد الغني العمري الحسني
تاريخ النشر : 2018-09-12
العقل العربي ومآلاته -36- "العقل والتنوير" بقلم الشيخ عبد الغني العمري الحسني


بقلم الشيخ: عبد الغني العمري الحسني.
العقل العربي ومآلاته -36-
العقل والتنوير

       قد عرف العقل البشري مفهوم التنوير بالمعنى الاصطلاحي الفلسفي، منذ الفلسفة اليونانية؛ لكن أهم حركة تنويرية قريبة منا، هي تلك التي بدأت مع القرن الثامن عشر الميلادي في أوروبا. ولقد كان الغرض منها، التخلص من الخرافة الدينية، ومواءمة العقل مع العلوم الكونية التي على رأسها الفيزياء. غير أن بعض قومنا، صاروا يتكلمون عن تنوير بيننا، ويريدون استنساخ المسار الأوروبي لدينا، كما هي عادة المقلدين المنهزمين.

       وأما التنوير بالمعنى اللغوي، فقد بدأ مع الدين منذ ظهوره على الأرض مع كل نبي من الأنبياء عليهم السلام. ذلك لأن الأنبياء، ما بُعثوا إلا لتنوير العقول وفتح البصائر. فمن اتبعهم، فقد سلك طريق النور المفضي إلى الجنة؛ ومن خالفهم، فقد اختار طريق الظلمة المفضي إلى النار.

       والذي ينبغي أن نعلمه في البداية، هو أن الإسلام المحمدي، لا يجوز أن يقاس على اليهودية ولا النصرانية؛ لأنه المرحلة الخاتمة من الدين الرباني الواحد. ونعني من هذا، أن العقل الأوروبي، عندما نبذ الدين، فإنه قد نبذ الكفر الكتابي، لا الدين حقيقة. وهو عند تولية وجهه نحو الفكر والعلوم الكونية وحدها، فإنما استبدل ظلمة بظلمة فحسب. ذلك لأن النور اسم من أسماء الله، ومن لم تكن له معرفة بالله، على سبيل مشروعة منه سبحانه، فما هو على نور، وإن تسمى به وانتسب إليه.

       ثم إن كلمة تنوير كلمة مضللة من وضع الشيطان، ليغطي على الظلمة ويحببها إلى الجاهلين؛ كعادته عندما يسمي الأشياء بأضدادها. فمن ذلك على سبيل المثال: المشروبات الروحية بدل الخمر؛ والعقلانية بدل الكفر؛ والفن بدل الفسق؛ والأدب بدل الضلال؛ والموضة بدل البدعة؛ والأنسنة، بدل الحيوانية؛ وغير ذلك مما لا يمكن حصره... وكلمة التنوير في العصور المتأخرة، كان وراءها طائفة من الدجاليين الذين أرادوا تخريب الكنيسة من الداخل، ليعدوا العالم بحسب أمانيهم، حتى يتقبل حكمهم في النهاية، وليُعبد الشيطان عبادة صريحة.

       ولما أفلح الأمر مع النصرانية، وترك معظم الأوروبيين دينهم، لم يبق أمام هذه الطائفة إلا الإسلام. فأرادوا أن يكرروا معه، ما جربوه في أوروبا. والحقيقة هي أنهم لم يعلموا الفرق الجوهري الذي دللنا عليه سلفا؛ وبالتالي لم يدركوا أن الإسلام له نور، يكشف لأتباعه حقيقة ما سيُدعوْن إليه من تنوير جديد. ورغم أن جل المسلمين على أقل درجات النور في زماننا، إلا أنهم ينفرون من الدعوة الدجالية ولا يُقبلون. أما أهل النور من المسلمين (الخواص)، فإن حزب الشيطان لا يطيق الاقتراب منهم. وليس له معهم إلا الحرب الإعلامية والمالية الآن (الحصار)، بقصد قطع مددهم عن عموم المسلمين؛ حتى يبقوا أمامه من غير وقاية تردّ عنهم سهامه المسمومة.

       ولقد استهوى الدجاليون فئة من أبناء الأمة، قاموا يدعون إلى التنوير في قومهم. منهم من أعلن الكفر صراحة، وباع آخرته بدنياه؛ ومنهم من غُرر به، لنفوره من التخلف الذي يرتكز عندنا على الدين، بحسب العرض الفقهي القاصر والسقيم. فأعلن بعضهم الحرب على السنة، يشككون فيها، بغية التخلص منها على التمام. وتمادى البعض الآخر، إلى القرآن، يشكك في ألوهية مصدره، تصريحا أو تلميحا. وهذا كله، إما يُدخل صاحبه في الكفر البيّن، وإما يلحقه بالفسق بسبب الجهل وعدم التبصر؛ بحسب نيته ومجال خوضه. وكل هذا الفعل، هو من الدخول في الظلمة التي يسمونها زورا بالنور.

       ومما زاد الأمر استفحالا، وجعل بعض الضعفاء يصغون لمثل هذه الدعاوى الباطلة، ضعف فقهاء الزمان عن الرد بما يكون معتبرا عند أولي الألباب، ونطقُهم بسفاهات في فتاواهم، هي حقيقة خرافات وأباطيل، تشبه بعض ما كان لدى النصارى في "عصورهم" المظلمة. والفقهاء، لم يقعوا فيما وقعوا فيه، إلا بعد انقطاعهم عن النور النبوي، الذي صاروا يعدّون طلبه شركا، عند انقلاب المعاني لديهم، بفعل البعد عن الأصل في التديّن.

       قد يعجب المرء من "التنويريين"، عندما يدعوهم إلى سبيل التنوُّر، فلا يستجيبون؛ أو يعرضون ويفرون!... إن حقيقة النور واحدة، من كان يطلبها، فإنه يحرص على نيلها من كل طريق وبكل طريقة. أما إن رأينا المرء يتقصد سبيلا مخصوصة، ليس لها من النور إلا الاسم؛ فهذا سيجعلنا نتوقف ولا بد. إن دعوة التنويريين إلى العقل، باعتباره النور المركزي لديهم، لا تستقيم منهم، لكونهم ليسوا على إدراك أعلى من إدراك عموم الناس. فهم على الأقل، أقل رتبة من الفلاسفة المعتبرين، الذين لم يزعموا لأنفسهم نورا ولا تنويرا. فإن قيل إن هذا الاعتراض ينطبق على الدين أيضا، من كون الداعين إليه ليسوا أعقل من سواهم! قلنا: إن الدين لم يُجعل في مقابل العقل، حتى تصح المطابقة؛ ولكنه سبيل يسلكها العقل، يجد فيها من المدد (الإسعاف)، ما يكون خارجا عن كسبه المعهود. هذا فحسب!... ومعرفة مدى نجاعة الدين، إنما تعرف من التجربة والذوق؛ ولا يمكن أن يحصلها المرء من الدراسة الخارجية المفارقة. ولو كانت الدراسة تنفع أحدا، لنفعت الفقهاء الذين أصبحوا عالة على الدين، كما لا يخفى.

       إن إرادة التنويريين تحكيم عقولهم السقيمة على الوحي، قرآنا وسنة، هي كمن يريد أخذ رأي الأعمى فيما يعود إلى الألوان وتفصيل الأثواب. بأي عقل سينظر التنويري في الوحي؟... بالعقل المعاشي الذي لا يجعل همه يجاوز بطنه؟!... أم بعقل شبه مفكر، تناول خليطا من الأقوال، فعسر عليه هضمها؟!...

       إن مسألة التنوير، أصبحت لدينا أمرا متعلقا بالشعوب والأمة؛ لتخرج هذه الشعوب من ضيق السياسات التضليلية التي تستهدفها من كل جهة، إلى المحجة البيضاء التي تركها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها. وهل كانت هذه المحجة بيضاء، إلا بالنور؟!... يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ.»[1]. فعلى من يريد أن يكون من أهل النور، أن لا يكون هالكا أولا!...
 
________________________________________

[1]  . أخرجه أحمد في مسنده وابن ماجة عن العرباض بن سارية رضي الله عنه.