إنعاش الذاكرة لهامات وطنية بقلم بلال أحمد أبو السعيد
تاريخ النشر : 2018-08-03
إنعاش الذاكرة لهامات وطنية

في قراءة لمقالة "ذكريات داعبت فكري وظني" للكاتب الدكتور محمد المشايخ، والذي تبوأ مناصب عدة في اقسام وزارات أردنية، كما عمل محرراً ثقافياً في عدد من الصحف والمجلات وهو عضو في رابطة الكتاب الأردنيين، وعضو إتحاد الكتاب العرب، ونادي أسرة القلم الثقافي، ونادي خريجي الجامعة الأردنية، وعضو هيئة تحرير معجم أدباء الأردن (وزارة الثقافة) ، وله مؤلفات عديدة.
الأدب ملك للإنسانية كلها، وكل كاتب يرغب في تطويره لا بد من أن يتخلص من عقدة التبعية، وأن يستوعب المذاهب الجديدة، في أدبنا المعاصر، وأن لا يرفض أو يتجاهل ابداع غيره، وعظمة المبدع الحقيقية تكمن في قدرته على تجسيد نظرياته فنياً، ثم تقديمها إلى القراء كتجربة نفسية وجمالية وروحية لا بد أن تسري في وجدانهم وتغير من تفكيرهم وسلوكهم. لقد كشف الدكتور محمد عن عيوب يجب ان تتوارى من الحياة الثقافية لأن المفروض ان المثقف هو مرآة الوطن ،لقد تناول الكاتب في مقالته مسألتين.
المسألة الأولى
يقول الكاتب: " تسود في أوساطنا الثقافية ظاهرة أسميها التخويث الثقافي، فحين تطلب من ناقد قبل شهر من موعد ندوة أن يحدث الجمهور فيها عن موضوع محدد، وحين يصل متأخرا نصف ساعة او ساعة عن الموعد يبدأ بقراءة قصة أو قصيدة أو الحديث في موضوع غير المكلف به..والأمر نفسه يصدق على القاص الذي يقرأ شعرا..والشاعر الذي يقرأ قصة، أو الذي لا جديد له، فيقرأ للجمهور قصيدة كتبها قبل أكثر من نصف قرن لا علاقة لها بالحاضر ولا بالمستقبل، ولا يوجد فيها إلا النظم فحسب".
وعن النهفات والحكايات التي كانت تحصل في نشاطات الرابطة يقول الكاتب :" رحم الله القاص بدر عبد الحق، جاء مرة إلى اجتماع للهيئة الإدارية لرابطة الكتاب الأردنيين، كان عدد الموجودين خمسة وهم بحاجة إلى عضو واحد ليكتمل النصاب ويبدأ الاجتماع، اتصلت بأحد الأعضاء القريبين ليحضر ويُكمل النصاب، فوعد بالقدوم فورا..لكنه لم يحضر.. بعد مرور نصف ساعة، أعدت الاتصال به..فقال لي إنه لن يستطيع الحضور لأنه ما زال بالملابس الداخلية..قلت ذلك لبدر"رحمه الله"..فقال لي:علينا أن نجتمع فورا، وأن نتخذ قرارا بصفع هذا العضو على قفاه".
ويستطرد في مقاله قائلاً:-
"كثيرون من منظمي الفعاليات الثقافية، يعدون زملاء لهم، بإقامة مهرجان أو ملتقى أو حتى ندوة، ويشترطون عليهم، ألا يرتبطوا بفعاليات غيرها لأنهم سيكونون من المتحدثين فيها، وحين يظهر البرنامج، لا يجدون اسماءهم فيها..وبعد المراجعة والاستقصاء، وتقديم الكثير من الحجج الواهية التي تطلبت حذف الإسم.. يظهر البرنامج للمرة الأخيرة دونما اسم المبدع الموعود".
بعضهم شعاره"شاوروهم وخالفوهم"، يسألك أحدهم عمّن ترشح لندوة في موضوع محدد، فتعطيه اسماء المتخصصين بالحديث فيه، وحين يظهر البرنامج تجد أسماء لا علاقة لها به، لأن صاحبنا نفسه استشار غيرك من المختصين بجبنة الكشكوان، فأعطوه اسماء لها علاقة بعلم الباذنجان..أو بطائر الكركزان،بعضهم تحتاجه للمشاركة في ندوة، فيُظهر لك انشغاله بأمور أخرى، يرفض التنازل عنها..كيف لا وهو مرتبط من رموش عينيه مع منظمي فعاليات أخرى..بعدها يبدأ الرجاء، وتبدأ الوساطات ، لاتاحة الفرصة له للمشاركة، حتى هؤلاء تصدق عليهم مقولة"يتمنعن وهن راغبات.
- كم من ندوة مقررة منذ شهر وربما أكثر، اكتشف منظموها لحظة إقامتها، أنهم لم يُعلموا المتحدثين فيها، فيتصلون بهم في اللحظة نفسها أن هلموا واقرأوا لنا قصة أو قصيدة أو تحدثوا عن الثقافي والسياسي، ويضطر الجمهور الحاشد للمغادرة، بعد أن اكتشفوا المقلب الذي وقعوا فيه والأسوأ، أن تجبرك هيئة ثقافية، على الحديث في موضوع ما، أنت لست خبيرا فيه، ولا علم لديك عنه، بحجة أنها لم تجد غيرك، ولا من هو أكفأ منك للحديث عنه..وأنت آخر من يعلم عن أثر السّمن الصيني على الدخان الهيشي..فكيف ستتحدث عن أحلام الرجل القاعد على الجاعد.
وفي قراءتي وملاحظتي كقارئ التميز الظاهر بطريقة سرد الكاتب، البسيطة والمعبرة الجذابة، والتي تصل أهدافها للقراء كيف لا وهو يُوظّف خبراته وعمق درايته في الكتابة ، ويدعو لإستنهاض الهمم الثقافية لتكون أشد تنظيماً وجديّة في زمن قلّ فيه القراء لأمة أقرأ.
المسألة الثانية التي يتناولها الكاتب وهو ينمّ عن امتلاكه الذاكرة التي تُنعش العقل والعين الثاقبة لدور النخب والهامات الوطنية في تربية الأجيال وتحصينها لحالة قصف العقول وكي الوعي الذي راهن عليه الصهاينة من حيث مقولة قاداتهم "الكبار سيموتون والصغار سينسون" ، من خلال عرضه وإضافة لما كتب عن العملاق التربوي المرحوم الأستاذ سلامه خليل على لسان ابنته الأديبة المتميزة الدكتورة سائدة سلامه خليل عبدو ابنة المناضلة الوطنية الرمز سنديانة فلسطين ( الخالة ام خليل)، والتي جمعت بين كل أشكال النضال الأسري والإجتماعي والوطني القومي الإنساني وكانت مثالاً للمراة الفلسطينية العربية الإنسانية، قاومت الإحتلال وكانت من أعمدة الجبهة الوطنية، سُجنت ولوحقت وفرض عليها الإقامة الجبرية ومنعت من السفر ولآخر أيامها كانت تحمل وتقبض على جمر قضيتنا الوطنية ، لقد كانت تمتاز بالحنكة السياسية والإجتماعية وقررت المشاركة في الإنتخابات الرئاسية لمنافسة عمود الحركة الوطنية الفلسطينية الشهيد أبو عمار ليس طمعاً بالمنصب بل لتؤكد على أن المرأة عليها أن تشارك وتعمل لتبوأ المناصب المتقدمة حتى الرئاسية، كانت خير ممثل لفلسطين وشاركت في العديد من المؤتمرات وكان لها الحضور المميز.
يقول الكاتب :
" بعد مطالعة الأديبة الدكتورة سائدة سلامة خليل عبده، ما نشرته أمس، عن والدها رائد التعليم في فلسطين المرحوم سلامة خليل، قالت:"كل فتاة بأبيها معجبة"، وأوردت المزيد من المواقف، إضافة إلى التي ذكرها استاذي اسماعيل الصيفي، وقد رأيت أن أعرضها هنا، ومنها قولها::
"إن ما كان يميز والدي هو ما قد اسميه "التطرف" الى اقصى الحدود في الاستقامة ،والى حد لافت، ومنها: أخبرني الاستاذ د. عطيه محمود احد مساعديه الفاضلين انه رفض ان يقل أخواي "سمير وسميح" بسيارة الاونروا في شتاء يوم شديد إلى البيت اثناء عودته ووالدي من اجتماع في القدس، واللافت في الامر ان هذين الطفلين كانا عائدين الى البيت في نفس الوقت الذي كان الوالد ود. عطية عائدين اي انهم جميعا كانوا في نفس الاتجاه الى البيت! تعحب د. عطية واستنكر موقف والدي الذي اجابه: فليبتلا! وكرر ليبتلا، وأمر السائق بالمسير دونهما، وابتلا من اعلى الراس الى اخمص القدمين مع شتاء رام الله وبردها القارس في تلك الايام، وأضافت: طلب أحد الكبار جدا ومن ذوي المناصب الرفيعة من والدي ان يلتحق احد الطلاب بالمركز، وكان الالتحاق به صعبا للغاية،ويشبه معاناة طلبة التوجيهي وأهاليهم هذه الايام بل أكثر وأشد ألماً، حيث لا طريق للفلسطينين بعد النكبة الا العلم للنفاذ من المحنة القاسية والمحرج أن ذوي الطالب نفسه حاولوا مع والدي محاولات جبارة من خلال وسائط عليا عديدة في الضفة الغربية دون جدوى، فاتجهوا إلى واسطات أعلى شأنا وبالضغوط والإحراجات ارسل أحد كبار القوم في تلك الحقبة وفي تلكم الازمنة الصعبة سياسياً إلى والدي كتابا رقيقا يطلب منه أن يساعد في الامر ليلتحق الطالب بالمركز، رد والدي على الكتاب بكتاب فيه كلام يليق بالمركز، واضاف كلمة واحدة"الالتحاق حسب المعدل" ، وتقول د.سائدة: وضعت والدتي وجميع اعضاء لجنة اختيار الطلبة والمعارف والاصدقاء وهم كثر، يدهم على خدودهم! وقالوا "الله يلطف" وجاء رد ذلك المسؤول: موافق مع احترامي أبا خليل الاستاذ سلامة خليل ونقطة اول السطر، ولم يلتحق ذاك الطالب بالمركز وناله غيره الذي فاقه بالمعدل.
وتضيف د.سائدة: كان والدي ناصريا: جاءه الاخ "يحيى يخلف" كما حدثني يرتجف وقال: رأيت نفسي مطرودا لا محال من المركز اذ ضاع مستقبلي، انقضى علي! يا ويلاه! دخل المكتب وجد والدي صامتاً صعباً مرعباً، وقال له:ادخل فدخل، قف أمامي، فوقف اقترب فاقترب، ثمّ مشى إليه والدي حتى وصله، وأصبحا وجهاً لوجه، صمت والدي، وبعد هنيهة أضاف: ضربت زميلك!!!! خمعت جلده! اركعته! اسمع: بقي أن تلعن والديه!!! اسمع اذهب والعن افطاسه! يشتم عبد الناصر يا ولد! اذهب والعن ابوه، اذهب، يقول الاستاذ بحيى يخلف ضاحكا: ذهبت وقضيت عليه
وقالت د.سائدة: كان والدي يقول لاخوتي الاربعة ولي: لا تـُحرر "فلسطين" إلا بالكتاب عليكم بالكتاب وكنا نرتجف رجفاً، وذلك عندما نعود من المظاهرات؛ إخوتي وأنا بناء على تشجيع الوالدة، واحتراماً للوالد ولرؤيتها كذلك كانت تأمرنا فورا للعودة الى كتبنا المدرسية وبأمر من رئاسة الأونروا ومركزها "جنيف" - كان والدي انذاك يشغل مركز "رئيس قسم التعليم في الضفة كافة وقطاع غزة" ومركزه في القدس- أقيل من عمله ونقل بقرار عالٍ لتولي إدارة التعليم في غزة دون الضفة وفي موعد اقلاع الطائرة والأسرة، وبقرار توقف الاقلاع بسبب اعلان حرب الخامس من حزيران عام1967، في ذات اليوم عادوا إلى رام الله وعاد الى عمله. أما عن سبب النقل وتخفيص المسؤوليات الوظيفية والراتب كذلك فكان عقابا للوالد لأنه رفض خطيا تسليم اسماء الطلبة المشاغبين للاحتلال كما ذكروا في كتابهم! ولولا استثمارعدم المساس به قانونيا(لحصانة) بسبب المركز لكان الحال غير ذلك! كان زماناً مشرقا صحيحا ونقيا وجريئا وعلى الساكت ودون بهرجة،
وتقول د.سائدة:هؤلاء هم رجال فلسطين، والدك ووالدي وغيرهم من الاباء الرجال الرجال، والامل بالجيل القادم، وجيلنا جيل مناضل على مختلف الصعد
ثمة شريط "مشروع فيلم سينمائي" عن والدتي (خالتك ام خليل) كما كانوا يُطلقون عليها؛ الكبير قبل الصغير، كان يناديها "خالتي" فتحول اللقب مع سير السنوات حتى اضحى لها وعلى مقاسها. فعندما تقول في فلسطين "خالتي" يعرف الجميع أنها المقصودة بالنداء، وتضيف: صفحات والدي رحمه الله كثيرة، وأذكر انهم قالوا فيه: "انت في سلامة ما دمت بعيدا عن سلامة"، كان حادا صامتا كالحديد ، ولأنه كان يملك السلطة خاصة في سلك التعليم الذي قدسه الشعب الفلسطيني -اقصد سلك التعليم- فقد مارسها اي السلطة ولم يقصر. مارس رصف شوراع في حقلة ؛ حقل التعليم تحكي القيم والاخلاق والاستقامة العنيفة. نعم لقد كان مرعبا، لكنه كان محبوبا وان بعدت مسافات زمنية جاءت لاحقا.
وتعليقاً على ما جاء إن ما يُميّز الدكتور محمد الذاكرة التي تختزن الشحنات والتي يُطلقها بقصد الإضاءة على هامات وطنية أكاديمية تربوية كالعملاق التربوي المرحوم الأستاذ سلامة خليل (أبو خليل) ، ليضيء على محطات في تاريخ شعبنا النضالي وبعد النكبة وهزيمة الجيوش العربية وتشويشها على أبناء شعبنا وحتى بشكل متآمر للدعوة للإنسحاب من بعض المناطق إضافة لبطش الصهاينة وارتكابهم للمجازر وان المسالة بضع شهور وتتحرر فلسطين من رجس الصهاينة بعد هذه الهزيمة والنكبة التي ما زالت مستمرة اتى دور الرواد القادة التربويين لدعوتهم للعلم والتمسك به كسلاح للمحافظة على وحدة نسيج مجتمعنا وكرد على الهزيمة ، والمسالة الاخرى التي أود الإشارة إليها ان مسالة الإدارة مسالة في غاية التعقيد ولها مدارسها ومشاربها المختلفة المتعددة في كل الحقول فكيف إذا كانت في التربية والتعليم وشخصية الإداري ليس بالضرورة أن تُعبّرعن شخصيته الحقيقية وقد تتسم بالحدّة والتسلط والأبوية بهدف إيجابي هو المحافظة على شبابنا لينهل ما يستطيع من العلم والمعرفة وبالنهاية الإداري التربوي يُنفذ قرارت وتوجهات سلطات تربوية اعلى منه مرتبةً،والمسالة المهمة مقاومة الفساد بكل اشكاله وتجلياته رغم كل الضغوطات يُعطي ثماره ونكران الذات ففاقد الشيء لا يُعطيه ، الحس الوطني والتربوي يسيران بخطين متوازيين فكل التحية لعمالقة التربية الذين ربطوا جدلياً بين النضال التربوي والنضال السياسي الوطني والإجتماعي في ظروف صعبة للغاية مهددين بلقمة العيش ، وهم يواجهون أشرس عدو إجلائي استعماري استيطاني . وانا متأكد ان ما قالته الدكتورة سائدة عن والديها هو غيض من فيض ولكنه الوفاء للوالدين ودورهما رحمهما الله وطيب ثراهما ، كيف لا وهي التي نهلت من والدها روايات عن مسقط رأسه "طيبة بني صعب –المثلث" مدينة الثائر عارف عبد الرازق والبرانسي ومن والدتها صلابة جبال عنبتا مسقط رأسها التي تعانق توأمها جبال نابلس جبال النار،من غزة العزة والكرامة حيث عمل والدها نهلت القيم والاخلاق من بيرة رام الله إلى القاهرة عهد عبد الناصر إلى الجامعة الأردنية
وفي الختام لا بد من كلمة إن الكاتب يحفظ الذاكرة من أجل أخذ العبر والدروس والإستخلاصات ، ويدعو لتجاوز العثرات التنظيمية في العمل الثقافي لتكون الكلمة طلقة في وجه التآمر المستمر المتصاعد على شعوبنا ،ويدعو لقراءة التاريخ لقامات وطنية للنهل من تراثهم ومدارسهم التربوية .
بلا أحمد أبو السعيد