في المنتصف بقلم:سفيان الروكي
تاريخ النشر : 2018-08-02
كان أبي على خطأ، عندما أخبرني أن الحياة ليست سيئة، بل الناس هم من يجعلونها كذلك ...

قال وليد والدموع تسيل من عينيه، كنهر لا ينقطع عن الجريان "الحياة مرعبة حتى من دون وجود البشر" هذه خلاصة تجربة حياتية امتدت إلى خمسة وثلاثين سنة، لم أحس في يوم من الأيام أن الحياة سوف تنزع عن نفسها هذا المعطف الذي ارتدته لمدة طويلة .
كان الليل قد بدأ يغلف المكان، معلنا عن انتصاره المؤقت على ضوء الشمس، أو ربما هو تنازل متواضع من جانبها لترضي غرور الليل ! كانت أصوات الحشرات، التي تستيقظ عادة في هذا الوقت لتحتل المكان، وتشرع في فرض سيطرتها المطلقة على هذا الجزء من الكوكب، قد بدأت تعزف سنفونية موسيقية غريبة، مما جعل المكان أكثر جمالا مما يكون عليه في النهار ...
في إحدى الأكواخ الصغيرة ذات الجدران الطينية، الواقعة على بعد خمسين كيلومتر من مدينة تطوان، والذي كان يملكه جد وليد، كان الكوخ لا يزال منتصبا كتمثال شهير أو معلمة تاريخية... رغم قسوة الظروف وغياب الإهتمام، ظل الكوخ كما بني لأول مرة، تغير كل شيء حوله وبقي هو كما كان ... دخل وليد رفقة صديقه الوحيد ألبيرتو؛ وتعود أسباب هذا الإسم إلى أصوله الفرنسية، حيث أن والده كان فرنسيا أتى إلى المغرب في رحلة سياحية في إحدى العطل الصيفية ، حيث تعرف على أم ألبيرتو،سارة، كانت سارة أنذاك فتاة جامعية، وكانت تكتري إحدى الغرف الصغيرة المشتركة رفقة صديقتين لها، وكانت تحب قراءة الروايات إلى درجة كبيرة جدا، فقد كانت متأثرة جدا بالأعمال الأدبية لكبار الكتاب الروس، خصوصا دوستويفسكي، فقد قرأت له كل أعماله تقريبا..كانت تقرأها ثم تعيدها مرات ومرات، إلى درجة أنها صارت قادرة على اقتباس بعض عباراته دون الحاجة إلى العودة إلى الكتاب. تعرف عليها "أنطوان" وكان عمره أنذاك إثنان وثلاثون سنة، بينما كانت هي لم تتجاوز التالثة والعشرين من عمرها، أبدى إعجابه بإحدى الروايات التي كانت تحملها بين يديها، وهي تجلس بأحد مقاعد الحافلة المتوجهة نحو مدينة طنجة، حيث كان أنطوان يجلس هو الآخر بجنبها، كان أنطوان يجيد الحديث باللغة العربية، التي كانت تميل إلى اللهجة المصرية؛ حيث قضى عدة سنوات من حياته. استمر الحديث حول كتابات دوستويفسكي بينهما، وقد أعجبت سارة به، كما أعجب هو الآخر بها، كان كما كانت تحكي الأم لابنها، حب من اللقاء الأول كما يحدث في الأفلام الرومانسية، وتضيف الأم، أنه لم يكن انجذابا للملامح أو الأجساد كما يحدث عادة، بل كان حب من نوع آخر مصدره القراءة والكتب، لقد رأيت فيه ذلك الرجل المثالي الذي لا يوجد إلا في أحلامنا، هو لم يكن يركب حصانا أبيض ولم يكن أميرا أيضا، لكنه جاء محلقا كالفراشات الجميلة، أتى من مكان أعمق بكثير من الأمكنة الإعتيادية،، لقد جاء من بين صفحات رواية العبقري الروسي دوستويفسكي، وبعد ثلاث سنوات قضيناها في فرنسا أنجبناك، وعدنا إلى المغرب، لكن الحياة أو ربما الإله لم يشأ أن تتعرف عليه بشكل أكثر قربا، فمات في حادثة سير لم يكن هو المسؤول عنها.. وتستطرد الأم بعد أن مسحت قطرات الدموع، التي كانت قد تمردت على إرادتها.. هكذا حصلت على اسمك الأوربي .

ماتت الأم سارة، بعد أن بلغ ألبيرتو الثامنة عشر من عمره. كان هو الآخر وفيا لنوعية الأفكار الأدبية والتوجهات المعرفية لأبويه، فقد أغرم كثيرا بإرث والدته، والذي كان عبارة عن أعمال أدبية وفلسفية لأكثر الكتاب الأوربيين عبقرية " دوستويفسكي، جوستاين غاردر، ألبرت كامو، نيتشه، كانط، هيجل... والكثير غيرهم .
تعرف ألبيرتو على وليد بإحدى مكتبات مدينة الرباط، وبدأت صداقتهما من هناك، كانا يتفقان من حيث المبدأ "الحياة سيئة للغاية، حتى من دون وجود البشر فيها ". وليد هو الآخر لم يسلم من بطش الحياة، فقد حرمته من كل اللحظات التي كان يمكن أن تحببه في الحياة، أغلقت في وجهه كل السبل نحو السعادة، أخذت والديه وهو في سن العاشرة، حيث كان لا يزال صبيا، عاش مدة قصيرة في بيت جده من جهة أمه، حيث لم يكن مرحبا به، ويعود ذلك الرفض الذي كان يتلقاه من طرف جده، إلى كونه كان رافضا تماما زواج ابنته من الرجل الذي سيصير أبا لوليد فيما بعد... هكذا وجد وليد نفسه مضطرا إلى الخروج إلى الشارع في سن مبكرة، اشتغل في كل شيء وجده أمامه، فعل كل شيء ليستطيع مواصلة رحلته في الحياة، عاش الماضي والحاضر والمستقبل في نفس الآن . يتكلم عن نفسه وهو يتحدث إلى ألبيرتو، كونه لم يسبق أن ابتسم يوما أو أحس بسعادة من أي نوع بعد وفاة والديه، وحتى هذه اللحظة لم يكن يعرف كيف يستطيع أن يجد طريقا نحو الإبتسامة، حتى ولو كانت كاذبة .
جلس الرجلان اليائسان في الكوخ، بينما كانت الأمطار في الخارج قد بدأت تتهاطل محدثة سنفونية موسيقية رائعة، تبعث على الارتياح وتغري بالاسترخاء ساعات طويلة، لكن كل ذلك كان بدون معنى، لم يكونا يشعران بأي راحة حتى في هذا الكوخ الريفي الهادئ.. كانت أرواحهما تائهة لا مستقر لها...
بينما كان وليد يقوم بإعداد الشاي خاطبه ألبيرتو وهو ينزع معطفه الأسود:
ـ لم أعد قادرا على أن أفرق بين الخوف والمعاناة ! أحس في أعماقي كما لو كنت تحت تأثير تعويذة ساحر محترف، لا سبيل لوقف تأثيرها إلا بالموت. حقا فالموت أنقى من الحياة في كثير من الأشياء ... ربما هذا هو السبب في عدم إقدامي على الزواج ! أخاف أن أورث لأبنائي من بعدي هذه اللعنة، فعوض أن يرثوا الثروة تجدهم يرثون سبب هلاكهم، كما ورثته عن والدي .
التفت وليد صوبه، وفي الوقت الذي كان يشعل سيجارته، ابتسم وقال :
ـ أتعرف يا ألبيرتو، أنا أوافقك الرأي، يبدوا أن فكرتك منطقية وذات بعد مقبول بالنسبة إلي، لكن لتقوم بهذه الخطوة فأنت تحتاج إلى شجاعة قل نظيرها... أضاف وهو يستدير نحو إبريق الشاي ليضع قطع السكر :
ـ إذا وجدت طريقا سهلا، أرجوك أخبرني، أود أن أكون رفيقك حتى في تلك الرحلة التي لابد منها ...
بعد ثلاثة أيام كتبت الجرائد عن حادث مروع، راح ضحيته رجلان كما جاء في تقرير الطبيب الشرعي، حيث نقرأ في المقالة المرفوقة بصورة لكوخ صار هيكلا فارغا من الداخل، كجسد تحلل فاستحال عظاما يابسة ..

_ { لقي رجلان في الثلاثين من عمرهما، حتفهما ليلة أمس بعد الساعة العاشرة ليلا بقليل، وذلك باحتراق الكوخ الذي كانا يتواجدان فيه وقت وقوع الحادث. انتبه سكان القرية للحريق، لكنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا غير الإبلاغ عن الحادثة، وقد وصل رجال الشرطة رفقة رجال الإطفاء بعد ساعتين من اندلاع الحريق، حيث كان الآوان قد فات. لم يجدوا هناك شيئا غير عظام متفحمة، وكأنها لم تكسى يوما باللحم. نقلوا الجثتين إلى مستودع الأموات بمدينة تطوان، وقد تعرف رجال الشرطة على هوية الرجلين من خلال بعض السكان، أما أوراقهما الثبوتية فلم يعد لها من أثر، احترقت مع جثتيهما وصارت رمادا يتطاير بين ثنايا الرياح...}

انتشرت الإشاعات بعد ذلك، بين سكان القرية حيث روى البعض أنهما قتلا، لأنهما كانا على علاقة بتجار المخدرات، بعدما اختارا أن لا يواصلا في هذا الطريق، وخوفا على أسرار المهنة قتلوهما، فيما يقول آخرون أنها إرادة الله، وما شاء فعل، بل انتحرا؛ يروي فريق ثالث... الكل كان قادرا على صياغة النظريات حولهما، لكن لا أحد كان بمستطاعه أن يؤكد صحة أطروحته بشكل يقيني... وحدهما كانا قادران على فعل ذلك، لكنهما لم يعودا هنا.. لقد ماتا .

النهاية

سفيان الروكي