الإستشراق من رومنسية دي لاكروا إلى رمزية فانيسا ستاوفورد
تاريخ النشر : 2018-07-28
الإستشراق من رومنسية دي لاكروا إلى رمزية فانيسا ستاوفورد


بشرى بن فاطمة

الاستشراق من رومنسية دي لاكروا إلى رمزية فانيسا ستاوفورد

تأثير الخيال في ألوان الفكرة صدمة الصورة في انعكاس الواقع

حمل الشرق منذ حضاراته الأولى سحر التاريخ المعتق بتلاوينه الإنسانية والأسطورة الخارقة في خيال الخلود وغموض الماضي والبحث فيه عن جمال مسكون بالتفاعل مع البيئة والأرض التي حمّلته قداسة ورؤى وطقوسا، فكان حضوره ساحر الجغرافيا عبق التاريخ عميق الأدب والفكر والقصص والحكايات والرؤى والخرافة التي سكنت الرحالة والباحثين والكتاب والفنانين لاكتشافها.
*لوحة الحي اليهودي قسنطينة متحف فرحات Farhat Art Museum


فكان الاستشراق ظاهرة وتحول إلى مثار جدل عن مدى تأثيره الاجتماعي والسياسي وتحول مصير الشرق من خيال إلى واقع من جغرافيا متينة التنوع إلى تنوع صادم التلون من رومنسية إلى واقع من نظرة حالمة إلى أخرى قاتمة وضبابية من أمان وقصص وبطولات وملاحم إلى حروب وعنف

*نساء الجزائر الحرملك دي لاكروا


ذلك التناقض بين ما رسّخه المستشرقون القدامى وما لامسه المستشرقون الجدد واقعا خلق تناقض حالات من التجاذبات والصدامات الحضارية حوّلت الاستشراق من تبادل وتثاقف وتأثير إلى اتهامات غمسته في كل واقع معتم كما فسّر الكاتب ادوارد سعيد موضوع الاستشراق بأنه يقع على حافتي الفكرة جانب منها مظلم وآخر إيجابي والايجابي كان بدرجة أولى في الثقافة مثل جمع المخطوطات والحفاظ عليها تفكيك رموز الحضارات القديمة تعلم اللغة العربية  والترجمة والتعرف على الادب والروايات، فنون الاستشراق رسم تصوير هندسة موسيقى، ورغم الايجابية التي تحدث عنها سعيد في الاستشراق الا أنه اعتبر أن الإيجابية تصب في مصلحة الغرب باعتبار أن كل ما خطط له في خلق الاستشراق الثقافي كان لمصلحة اقتصادية سياسية حققت أثرها وحضورها نحو هيمنة وسيطرة وتفعيل لدور وسلطة ما على حساب أخرى فبين تهويل وتقزيم تكمن السيطرة اللامباشرة والتأثير المقنّع بهيمنة ثقافة وحضارة على حساب أخرى، وبالتالي كان الصدام بين عالمين وهذا الصدام كان سببا في الامبريالية والاحتلال والتقسيم وتحويل الشرق من جنة إلى غنيمة ولعل الواقعية العلمية التي حاول سعيد الحديث عنها وتحليلها تعتبر الاستشراق سياسة، ولهذا لاقت كتبه الكثير من الأطروحات التي توافقت مع آرائه وصدتها في العالمين الشرقي والغربي.

صفحة من دفتر ديلاكروا المغرب 1832


*طنجة 1838 ديلاكروا



ولا يمكن الحديث عن الاستشراق دون التوغل في ظاهرة الرسم والفنون التي مازالت تؤثر بلوحاتها في رؤى الفن التشكيلي الغربي وتياراته الفنية مثل الواقعية والتعبيرية والرومنسية وكذلك التيارات الحداثية مثل التجريد والتكعيب والسريالية.

*ديلاكروا



وتبقى الرومنسية بكل لوحاتها أهم وأبرز لوحات المستشرقين في مختلف مراحل الاستشراق الفني وأبرز روادها أوجين دي لاكروا الذي سافر في بعثة ديبلوماسية إلى المغرب سنة 1832 ثم الجزائر قضى فيها ستة أشهر أشبع فيها دي لاكروا فضوله وشغف اكتشافه لعالم مختلف ومتنوع عن فرنسا وأوروبا التي سئم مشاهدها أوحى الشرق لديلاكروا بلوحات رسمها قبل زيارته الحقيقية ولكن ما شاهده في الشرق جعله يرسم العديد من اللوحات بلا توقف معتمدا على القلم الفحمي في سكتشاته الأولى وبالالوان المائية وكان يدوّن بدفتره كل مشهد وكل مكان وكل ملاحظة عنه بالتفصيل لتوثيقها كمواضيع شرقية لأعماله وبقي ينفذ تلك المواضيع كمخزون رسم من خلاله حوالي 100 لوحة بمواضيع شرقية فقد كان يقول في المغرب كل خطوة تعني لوحة وموضوعا قادرا على إرواء شغف أجيال من الفنانين.

تميز أسلوب ديلاكروا بالعاطفة الملونة بالحركة المشحونة بالحياة فكانت لوحاته مكثفة الخيال بما حملت من جماليات استنطقت البيئة والمشاهد الطبيعية والملامح والتفاصيل اليومية والفضاءات العامة خارجية وداخلية والملابس والحلي تفصيل المرأة جسدها عالمها، ملامح الرجال باختلاف المستوى والمقام، رسم الفضاءات الساحات الشوارع والبيوت الأسواق، كل ما يهم الطقوس والأفراح بتنوع مناطقها وأجناسها معتقداتها وانتماءاتها.

 ما قدّمه ديلاكروا ساهم بشكل ملفت في زيادة الوافدين على الشرق فقد لامس الحرفية الفنية وأحدث لغة تشكيلية مشحونة بالشغف العاطفي المسكون بالتفاعل ومعايشة الحياة بالإحساس المرهف.

ساهمت أعمال ديلاكروا في إيصال الحياة الشرقية بتفاصيلها وتعمّقت نظرة الأسلوب لتتحول من الرومنسية إلى الانطباعية وبذلك خلق أسلوب المزج بين الألوان وتفعيل الفكرة والخطوط.

مثّلت المرأة هاجسا للمستشرقين في لوحاتهم "عالم الحرملك" صوّره ديلاكروا بدقة واقعية المشاهدة خيالية الصور زاهية بألوانها عالمها مليء بالإثارة بالحياة بالفرح بالغموض الجمالي بالأثاث بالأقمشة والزخارف والزينة بالعطور والبخور بالطبيعة بالخصوبة.

غير أن شرق ديلاكروا ظلّ الشرق الحالم الذي تحوّل إلى عتمة بأحداثه وظروفه ما جعل بعض التشكيلين الغربيين يتحوّلون بفكرة الاستشراق إلى مصطلح "المستشرقون الجدد" الذين عاشوا واقعا مختلفا.
*مفاوضات فانيسا ساوفورد



 فكرة المبالغة في الحلم واللون والخيال والبحث حمّلت الفن صيغ التأثير والتجدد والمفاهيم فتغيّرت أساليب التعبير عند الغرب خاصة بعد الحرب العالمية الثانية إذ تحوّلت بفكرة الفنون وقيم الجمال وتفجّرت الأفكار الإنسانية التي كسرت قواعد المدارس الكلاسيكية وحوّلت الفن من المتاحف إلى الشوارع وتحوّلت بدوره من التزيين الباذخ إلى التعبيرعن واقع وجودي وفلسفة جمالية اقتربت أكثر من قضايا الشعوب وحاولت رسم مآسي العنف والحروب والتفرقة والعنصرية فكانت الحداثة وما بعد الحداثة في الفن ونذكر من بين المستشرقين الجدد تجربة التشكيلية الامريكية فانيسا ستاوفورد.

*فانيسا ستاوفورد


تحصلت فانيسا على الاجازة في الفنون الجميلة والتصميم تخصصت في أساطير الشرق بتفاصيلها من الهند والصين والثقافة الإسلامية وحضارات العراق ومصر تابعت فنون الاستشراق بالبحث والتحليل وتبنت القضايا الإنسانية في فنها ومن غرابتها ابتكرت تصاميم لوحاتها من أيقوناتها ومن ماورائياتها الغيبية حاولت تفسير الواقع والتزمت بالدفاع عن الحقوق عبّرت عن العراق ومصر وفلسطين وحوّلت الرموز الهيروغليفية في البردي القديم إلى تشكيلات وظّفتها حسب الموقف والحدث والفكرة فكانت لها تفاعلاتها في التعبير الإنساني عن الصدام الحضاري.

*أبوغريب فانيسا ستاوفورد



*فانيسا ستاوفورد فانتازيا

تبنت أسلوبا مبتكرا للدفاع عن القضايا المعاصرة من خلال تصورات لونية وشكلية ومفاهيمية ألوانها تداخلت مع الخيال وأشكالها غارقة في الأرض والتاريخ وعمق الشرق بدلالات رمزية جمعت الأرض والسماء والانسان في فكرة الخلود والبقاء والأمان والطبيعة.

في الأعمال الفنيّة التي قدّمتها فانيسا ستاوفورد لم تحاول أن تكون مباشرة بل صوّرت بشاعة الممارسات في سجن أبو غريب باعتماد أسلوب السرد البصري الهيروغليفي للصورة وذلك من خلال توظيف التاريخ الشرقي في مشهدية رموز الكتابة القديمة، حيث انطلقت منه لتشكيل الرموز البديلة عن الشخوص القديمة برموز تصف بشاعة السلوك الأمريكي اللاانساني الذي يدّعي نشر الحرية فغيرت الأشكال وتلاعبت بالأيقونات التاريخية كما عبّرت عن الخلافات الصدامية الثقافية والحضارية في الصراع بين الأديان لتبدو في تجانس ضوئي لوني شبيه بالرسوم الفرعونية.


إن تغير ملامح الشرق وحضوره لم يمنع جدليات البحث تلك التي بنت فكرا وبحثا وتجاذبات ونبشا في كل البحوث القديمة وتفسيرا في كل أثرها لمحاولة فهم الصدام الثقافي والبحث عن منافذ لا تجعل من الشرق مجرد صور تتماهى بين الحلم  والكوابيس إن المطلب الأساسي والإنساني من التحليل والتفسير والبحث هو انعكاس تبادل ثقافي أثّر ويؤثر لحد الآن، فكما أثر الغرب بحضورهم في الشرق تأثروا بدورهم وحملوا أفكارا وعادات وحياة وزخرفات تطوّرت بدورها حسب البيئة التي انتقلت إليها رغم كل التباعد الذي خلقته السياسة، فالسياسة وحدها هي التي خلقت الصدامات الحضارية وهي التي زجّت بالمستشرقين مع حملاتها العسكرية وهي التي جعلتهم عيونها.


*الأعمال المرفقة:
-متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections
لوحات فانيسا ستاوفورد
لوحة أوجين ديلاكروا "الشارع اليهودي قسنطينة"

-لوحات أوجين ديلاكروا متحف اللوفر فرنسا