هل الليبراليون في الخليج خلايا نائمة؟
عادل بن مليح الأنصاري
في بداية القرن التاسع عشر استخدمت كلمة (ليبرالية) على أولئك الذين تبنوا الانفتاح على الأفكار الجديدة في الإصلاح , الديني ثم السياسي لا حقا , ولكن الخضوع لتعاليم الكنيسة أساس كان قد أصابه شيء من الوهن خاصة في بداية الثورة الصناعية والعلمية , فتوجهت أدوات الليبرالية نحو الاقتصاد كمحرك أهم للحياة اليومية للعالم الجديد , ولو أمنا بدورها الباهت دينيا لن نتردد في القول أن الليبرالية عند ولادتها لم تكن إلا بنت السياسة أولا , ويجب أن نعترف أن الليبرالية لا يمكن أن ننظر إليها من وجهة نظر عالمية , بل هي ذات وجهين مختلفين من حيث البيئة التي تنمو فيها , وهنا نقصد البيئة الغربية التي احتضنتها والبيئة العربية التي تلقتها بكل تشوهاتها الواضحة وحتى الخفية , وهذا ليس بمستغرب , فالعرب بعد سباتهم العميق إبان أواخر الحكم العثماني وحتى غرقهم الأعمق في البحث عن الذات والبحث عن موضع قدم في هذا العالم المتفجر , تجمدت ثقافتهم ورؤيتهم للعالم والتي ذهب بها الحنين والتمسك بحبال الماضي من تواصل تاريخي للكيانات الإسلامية منذ العصر النبوي والخلافة الراشدة ومرورا بالعصر الأموي والعباسي ثم العثماني , وبين الخروج في موجات تحررية بدأت باسم العروبية وانتهت بالمناطقية البحتة , ربما حتمية التاريخ وفرضية التغيير التي كانت وما والت سنة الله في خلقه هي التي تمنعنا من الخوض في تساؤلات تاريخية ( ربما كلامية أو سفسطائية ) حول جدلية كون أيهما أفضل للعرب عبر تاريخهم المتأخر وبعد مرورهم بتغيرات تاريخية ربما بعضها مرير ومليء بالعظائم , من سقيفة بني ساعدة مرورا بموقعة الجمل وحتى احتلال صدام حسين للكويت , أيهما أفضل هل كان الأجدر بهم الوقوف مع خلافة بني عثمان وخاصة في أواخر أيامها ضد ما حاكته الصهيونية العالمية لها ( كونها قائدة ورمز الأمة الإسلامية والوارثة قيادة المسلمين منذ العهد النبوي مرورا ببني أمية ثم بني العباس ) كما علمونا في مدارسنا , وكيف تغنينا ذات زمن بمحمد الفاتح وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم " ولنعم الأمير أميرها " , والسلطان سليمان القانوني والسلطان عبدالحميد والذي درسونا أنه رفض بيع فلسطين للصهاينة رغم حاجته للمال وقتها ) , أم أنهم صنعوا تاريخا جديدا في حركات التحرر من بني عثمان ( والتي يراها البعض خيانة للإسلام قبل أن يكون خيانة لبني عثمان ) , هل نملك الرؤيا الصادقة والواضحة فيما كتبه التاريخ عن تلك الحقبة , هل أحسن العرب بتفجير حركات التحرر في الوقت الذي يجب عليهم الوقوف مع دولة الخلافة والحفاظ على التاريخ المتوارث للخلافة الإسلامية ؟
أم هل أحسن العرب في التحرر من قيود التخلف والتبعية والظلام الذي تسلل إليهم في أواخر عثرات دولة الخلافة ( حياة الرجل المريض ) ؟
هناك صورة ربما تكون غير واضحة المعالم لتلك الفترة يمكن استنتاجها من المنطق مع الكثير من الأحداث التاريخية الكثيرة والمتناثرة بين سطور كتاب التاريخ في تلك الفترة , فالصهيونية توارت عن وجه التاريخ طويلا في العهد النبوي والخلافة الراشدة ودولة بني أمية ثم بني العباس , وربما مما يُلفت النظر أن الضعف الإسلامي بدأ مع ظهور ( القوة الناعمة ) للفرس خاصة في أواخر الدولة العباسية , وكأنهم بدأوا مشروع إسقاط الخلافة لتكمله الصهيونية بعدهم بعدة قرون وخاصة في أواخر خلافة دولة بني عثمان , هنا نرى وجه أخر للتاريخ ربما كان ضبابيا أو حرص كاتبوا التاريخ على عدم تسليط الضوء عليه كثيرا , فبني عثمان ومن ورائهم أمة محمد إما أنهم ضحية مرحلة تاريخية غريبة رسمت سقوطهم وضعفهم , أم أنهم كانوا ضحية تخطيط شيطاني رسم تلك النهاية , ( وإن كنا نرجح الثانية ) , ففي أوج ظهور النهضة الأوربية وظهور المخترعات ( وخاصة الحربية ) وتفجر براكين العلوم والثقافة والتقدم والبناء الشامل في أوربا وروسيا , وظهور النظريات والدراسات النفسية والتاريخية والعلمية , وانطلاق السيل الجارف من العلوم الرياضية والفيزياء وكل مناحي الحياة العسكرية والثقافية والاجتماعية , في ظل هذه الغيمة التحولية في حياة الغرب , كان حراس الأمة الإسلامية مشغولون بوأد الثورات ومحاولات الخروج من العباءة الخلافية , وكل له مبرراته وأسبابه وظروفه ( وأشياء أخرى ) , وربما كما تقول بعض الدراسات أن منها انشغال حراس الخلافة بالتمتع بقصورهم وحياتهم الخرافية , ومحاولة فرض الطاعة والسخرة على الأتباع المقهورين في كل أرجاء العالم العربي ( خاصة ) , والحرص على الانتقام بأبشع الصور حرصا على لُحمة الأمة من التفكك .
وهناك صورة خيالية وربما ( سينمائية ) لدولة الخلافة في حال لو أنها حافظت على قوتها وكسبت قلوب الرعية بالخلق الإسلامي الرفيع والتواضع والعدل ونشر السلام وبناء الأخلاق والإنسان والمدن , ومع كونها القوة العظمى الوحيدة في هذا العالم المتحضر الحديث وخاصة في بدايات نموها , حين كانت تملك مفاتيح العلم والثقافة والتصنيع والمساحة الهائلة والتنوع العرقي والثقافي والمعرفي , والثروات المختلفة عبر تلك المساحات الشاسعة , واستأثرت بظهور النظريات وتطبيقاتها والتصنيع الحديث والدراسات الحديثة وأطلقت براكين التحول العلمي والثقافي والإنساني في هذا العالم الحديث , وتفرغت لفتح معاملها وجامعاتها ومكتباتها لكل عبقري يظهر في أي مكان , هل هناك أدنى شك في ظل هذا التصور الخيالي أن تسيطر دولة الخلافة على العالم قبل ظهور أمريكا وروسيا وبريطانيا وألمانيا وغيرها من دول الشرق الصناعي الحديث ؟
هو مجرد خيال إنساني , ولكنه ليس بمستحيل الحدوث , فكل الشواهد والدلالات كانت تهيء صفحات التاريخ لتلقي تلك الظواهر , أليس من الممكن أن بعض العقول ( الشيطانية ) تخيلت هذا السيناريو وقررت الوقوف ضده ومحوه من خيالات التاريخ ؟
نحن لا نأتي بجديد (هنا) فهناك دراسات وأراء وتحليلات تعرضت لشيء من هذا القبيل ( ربما ) فهذه أفكار وتأملات ليست حكرا على أحد , وهي ليست من الواقعية ببعيد أو تخالف المنطق البسيط .
نعود ونقول لن نسترسل كثيرا حول تلك التأملات فيمكن للخيالات أن تنطلق بلا نهاية في تلك الطريق (المؤلمة والمؤسفة ) , فمن منا يُجزم أو يتسلل إليه الشك في أن الصهيونية العالمية انتصرت على أمة الخلافة ووضعت بروتكولاتها الخفية فوق بروتكولات التاريخ والمنطق .
ولكن سنة الله في البشر ماضية ولن يقف ضدها عقل أو بشر , يقول تعالى : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ ) , ولن تتوقف الحياة عند أعتاب مجتمع أو نظام أو دولة , فلنا في خير عصور البشر خير العبر , فالمجتمع النبوي وبوجود خير البشر انتهى ولحقته صنائع البشر وصراعاتها كأي مجتمع أو نظام أو إمبراطورية مرت تحت عجلات التاريخ .
نعود لمحور فكرتنا هنا , لن نتتبع فلسفة الليبرالية ولا تعريفاتها ولا تاريخ ظهورها فكل ذلك ميسر في خيوط الشبكة العنكبوتية , ولكن سنتطرق لملاحظات (ربما) تكون هامشية حول أفكار الليبرالية و (ربما) تكون ذات مدلولات معتبرة .
فالليبرالية ظهرت كفلسفة سياسية أطلقها الأوربيون كمفردة مديح للسياسيين التقدميين والحريصين على حقوق الإنسان في التمتع بحريته , أما في أمريكا فأول ما ظهرت كانت تعني الأفراد الذين يحاولون استغلال السياسة لتمرير مصالحهم , وإن كان البعض يراها كما يراها الأوربيون , فالليبرالية تكاد تتفق الرؤى نحوها أنها تتبنى الدفاع عن الحريات وخاصة حريات الأفراد ضد ( استغلال السلطة ) .
ربما من المهم وباختصار شديد , الإشارة هنا إلى أن تنظير كل من (لوك) و ( هوبس) أدى إلى تحرير الفرد عبر الثورتين الفرنسية والأمريكية من الخضوع ( للملك ) و ( الكنيسة ) .
وانطلقت تفاعلات النظريات الليبرالية أولا في تغيير وجه الاقتصاد وترك الحرية للأفراد في إدارة مشاريعهم والتمتع المطلق بثرواتهم , كما وضع رموز الليبرالية الخطط لتغيير المناخ السياسي والاقتصادي في أوربا , فتفجرت الثروات نتيجة لحرية التجارة , ولكنها انصبت بين يدي كبار التجار والصناعيين وتركت العمال أكثر فقرا , هنا ظهرت سياسات اليمين الجديد التي سخرت من الليبرالية باعتبارها طائشة ومندفعة .
الذي يهمنا هنا أن الليبرالية ( بوجهها الاقتصادي ) أثبتت فشلها كنظريات وكتطبيق بشكل تحرري بعيد عن القيود التي حلم منظروها بأن تُكسر على أيديهم , ولم يكن ( وجهها الديني ) مؤثرا كثيرا في تلك الحقبة أو البيئة الصناعية المتفجرة .
ولكن هل نكون غير منصفين لو قلنا أن الليبراليين (الخليجيين) أقحموا ثقافة الليبرالية في عقولهم بعد أن ( استفرغها ) الغرب ؟
( الليبرالي الخليجي) وفي ظل أنظمة حكم وراثية قبلية قبلتها شعوبها بكل ما فيها من أنظمة وتاريخ كميراث عائلي وثقافي وبيئي وجدوا أنفسهم تحت عباءته أبا عن جد , لم ولن يتجرأوا في إظهار الوجه ( الليبرالي ) , ولكنهم تسللوا للوجه الباهت من النسخة الغربية لليبرالية ألا وهو ( الدين ) , فعزفوا بخفاء وتدرج وحياء على أوتار مثل ( المعتقدات , الموروثات , وأحيانا الدين بكامل كيانه ولكن بطرق إيحائية يمكن التنصل من تبعات طرحهم إذا ما بلغت القلوب الحناجر , ولا يخفى على أي متابع من تسليط أفكارهم الليبرالية نحو خلخلت بعض القيم الدينية المتوارثة منذ عقود , وأحيانا يتعللون بعدم وضوح الأدلة عليها , وهم يعلمون أن العرف والمجتمع لن يتخلى عنها , ولكنهم يثملون بكأس المقاومة والتحدي وربما الإصرار لإثبات الذات والفكر ووجهة النظر , وقد ساعدهم في ذلك نمو قاعدة تمكنت من وسائل إعلامية مختلفة تساندهم وتتبنى فكرهم , وهم غالبا ( جبناء ) فبمجرد أن تُسلط الأضواء على بعض طفراتهم يسارعون بالتنصل من فكرتهم ويحاولون تغيير مسار مقاصدهم ( طبعا في حدود معينة ) , أما الوجه الآخر لليبرالية ( السياسي ) والذي يُعتبر الوجه الأكثر بروزا في الليبرالية الغربية , فهم يخفونه جملة وتفصيلا , ولكن من فلت منهم بأفكاره وتبنيه لتلك الليبرالية التي ترنحت حتى في بعض الدول الغربية فهو أطلق العنان لذلك الوجه ( السياسي ) دون مواربة , بل وحتى أظهره بعنف واندفاع يرقى لدرجة الانتقام والتشفي والتمني بزلزلة الأرض من تحت أقدام مجتمعاتهم البعيدة .
لا يمكن لأي عاقل أو منصف أن يجزئ الفكر الليبرالي بين ( سياسي أو ديني ) فهما وجهان لعملة واحدة , بل ربما الوجه ( السياسي ) أكثر وضوحا من الوجه ( الديني ) بمراحل كما تبين من رموزهم البعيدة عن يد السلطة .
ويبقى السؤال الأهم , هل ( الليبراليون الخليجيون ) يتسكعون حول فكرة التجديد والتحديث ونبذ بعض العادات الدينية والقبلية والثقافية التي تعود من وجهة نظرهم لفترات مظلمة أقحمتها بين ديننا و بين عاداتنا , وينبغي للمجتمع اتباعهم في نبذها , وينأون برقابهم عن التعرض لأفكار التجديد والتغيير (السياسي) خوفا من السلطة القوية والمتمكنة من ولاء المجتمع ؟
ليس هنا مكان لمناقشة هل يملك ( الليبراليون الخليجيون ) الحق في تغيير مجتمعاتهم ( دينيا وسياسيا ) , وهل نظرياتهم الليبرالية أساسا هي مثالية وذات مردود ثقافي وحضاري مهم لمجتمعاتهم التي مازالت تتمسك بعادات وتقاليد توارثوها أبا عن جد ونمت في نظام أسري لم يتغير منذ الآف السنين , وهل يملكون الحق في فرض نظرياتهم على المجتمع رغما عنه ؟ هل يعتقدون أنهم يملكون ثقافة وتحضرا يفتقده أغلب أبناء تلك المجتمعات ؟
أخيرا ,,,
هل ( الليبراليون الخليجيون ) خلايا نائمة تنتظر الفرصة لإظهار الوجه الأخر لتطبيق نظرياتهم ؟
هل الليبراليون في الخليج خلايا نائمة؟ بقلم:عادل بن مليح الأنصاري
تاريخ النشر : 2018-07-10