مياو... مياو بقلم د. كلارا سروجي-شجراوي
تاريخ النشر : 2018-07-10
مياو... مياو
بقلم د. كلارا سروجي-شجراوي

سمعا وقعَ ضرباتٍ خفيفة على الباب. اندهشا. مَن يمكنه أن يأتي لزيارتهما في مثل هذه السّاعة المتأخّرة من الليل، وبيتُهما منعزلٌ في غابة ملتفّة الأشجار؟ صوتٌ يشبه المواء رافقَ القرع الضّعيف على الباب. لعلّها قطّة تائهة جائعة.
فتحا الباب. طفل صغير لا يتعدّى عمره السنتين يقف أمامهما. لم يريا أجمل منه. خدّاه حمراوان من شدّة البرد، دون ثياب تغطّي جسمه الصّغير الأبيض. تعجَّبا.. كيف يمكن أن يضيع طفل جميل مثله، ولماذا تركته أمّه دون ثياب؟ لا بدّ من أنّه طفل شقيّ قد هرب ليلا من نافذة بيته بعد أن تخلّص من ثيابه ليكون طيرًا حرّا لا يقيّده أيّ شيء. لعلّ أمّه قد حدّثته قبل أن ينام بقصّة الطفل الذي ربّته غزالة فأراد أن يقلّده.
حملاه برفق وحنان عجيب، وأخذا يلثمان خدّيه ويدفّئان جسمه الصّغير بجسدهما قبل أن يُدخلاه إلى الحمّام ليفركا جسده بالصّابون العطر والماء الدافئ. نظر إليهما بعينيه البنيّتين الواسعتين دون أن يتكلّم لكنّه أحسّ بعطفهما.
كانا يلاعبانه وهو في البانيو غير مصدّقين. تمنّيا دومًا أن يرزقهما الله بطفل أو طفلة دون فائدة. هل أشفق الله عليهما بعد عشر سنوات من الانتظار فأرسل لهما هذا الملاك الصّغير؟ أم أنّه مجرّد طفل تاه من والديه وسيقلبان الدنيا على رأسها بحثا عنه ليستردّا منهما هذا الكائن اللطيف الجميل؟
سألاه عن اسمه، فلم يفهم. سألاه أين يسكن.. ما اسم أبيه.. ما اسم أمّه.. لكنّه لم ينطق بل نظر إليهما بدهشة ثمّ قال: مياو.. مياو. اعتقدا في الوهلة الأولى أنّ هذا هو اسمه، ولو كان الأمر غريبا، فهم يسكنون في مكان ينأى عن مركز مدينة تل-أبيب. لم يسمعا أنّ أحدًا قد أطلق على طفله مثل هذا الاسم العجيب في أيّ مدينة يعرفونها.
بحث الزوجان في كلّ مواقع الإنترنت عن خبر يرشدهما، واستمعا إلى نشرات الأخبار كلّها علّهما يكتشفان عائلة قد أضاعت طفلها. مرّ أسبوع.. أسبوعان.. ثلاثة.. شهر.. شهران.. ثلاثة دون أن يطالب أحد بهذا الطفل. اتّفقا ألاّ يخبرا الشّرطة، فحياتهما قد صارت أسعد وأجمل بوجوده. قرّرا أن يطلقا عليه اسم ناتان (נָתָן) فهو عطيّة من السّماء وتيمُّنا بالنبيّ ناتان.
عاش ثلاثتهم كأجمل عائلة. يلاعبون الطفل، يعلّمونه أولى الكلمات، يشترون له أجمل الثياب والألعاب، لكنّه لم يكن راضيًا تماما، بل ينظر إليهما باستغراب وكأنّه ليس من عالمهما، إلى أن جاء ذلك اليوم.
في تمام السّاعة العاشرة صباحًا عندما أخذا الطفل ليلعب في الحديقة العامّة ظهرت قطّة غاية في البياض، بصورة لافتة للأنظار. ركض إليها الطفل.. احتضنها.. لعقها بلسانه.. لعقته بلسانها.. سالت دموعه على وجنتيه لأوّل مرّة.. تمرّغت في حضنه.. نظرت إليه بعينيها الخضراوين الجميلتين.. تلامَسَ الرأسان بلوحة يصعُبُ على فنّانٍ رسمُ التناغم الوجوديّ والوجدانيّ في نظرتهما.
تعجّب الزّوجان من المشهد. مَن يكون هذا الطفل العجيب؟ ما هويّته؟ ما أصله؟ هل يمكن أن يكون عربيّا تسلّل من إحدى القرى؟ أزعجتهما الفكرة. لكن، كيف استطاع أن يعيش دون مأوى ودون أكل ورعاية؟ نبذا الفكرة وتابعا ينظران إلى ناتان والقطّة العجيبة. ثمّ ابتسما: لعلّه ابن القطّة أو لعلّه قطّ مسحور. ارتاحا للفكرة وقرّرا أن يصطحبا القطّة البيضاء إلى البيت معهما.

(من مجموعة القصص بعنوان: ميلانخوليا الوجود – رَجفات ولوحات قصصيّة قصيرة. صدرت عن مكتبة كلّ شيء في حيفا، 2018).