الحلقة الثالثة والأربعون من كتاب "ذاكرة الترف النرجسي" بقلم:د.حنان عواد
تاريخ النشر : 2018-07-03
الحلقة الثالثة والأربعون من كتاب "ذاكرة الترف النرجسي" بقلم:د.حنان عواد


الحلقة الثالثة والأربعون
وداعا معجونا بالدم.
الوفاء لأيام باشراقات نورانية أضاءت قلوبنا،رسمت دربنا المعتق بالوفاء،وسجلت الحضورالتثويري في زمن رسمت حروفه بالمرار.
فكيف نخط في سجلنا الوطني والنضالي أحداث ما جرى؟؟وكيف تحمل حروفنا وزر المؤامرات على زعيمنا الأوحد في رحلة قتالية بسلاح الروح والجروح،وباطلالات تعذيبية تلقي سهاما على كل منا،
توقظ جرحنا المضمد بالبهار الحارق،لنصرخ ويغيب الصوت..؟؟!
هي رحلة الموت في أروقة التدوين،وترسيم المشهد بعيون البنادق والمشانق والسيوف،وضبط الزمن المفترش آهاته على آلامنا..
الوقت يعبر أركان الحصار،ويعرج في أنفاس الروح ،ليرسم بعقاربه الملتفة في ساعات النفي،قصة نعجز عن تدوين ملامحها،وتصوير خطوات التعذيب التي سارت باتجاهنا،واعتمدتها الدول المساندة للاحتلال،وصمت عنها حتى أهلنا.
وقائع ما جرى يفجر فينا لواعج الألم،ويكسر أجنحتنا التي كانت محلقة في ودائع التكوين الثوري، لترتقي الى سماوات الابداع في الدفاع عن وطن ينهض في براعم الشوق والتوق الى الحرية،بأمانة حملها زعيم الأمة متفردا في رحلة العبور الى مطلق الحق من أنياب الممكن المنسوج على حوافي الوداع.
هي قضية العشق الموشى ،والانتماء المزركش باللحظات الوضيئة في العودة،وخفق الرايات،والاعلان.
كانت السنوات مريرة،انتشرت مرارتها في ربوع فلسطين،بنهج احتلالي مبرمج،واحلالي لقوى تدميرية لمنجزات ثورتنا ودولتنا..
يحار القلم أين يقف، وكيف يتوقف؟وكيف يرسم رحلة غروب الشمس، وهي بعيدة عن عناق البحر والأرض، مغيبة الاتجاه؟؟؟
كان المشهد عند الغروب في عناق الشمس للأرض وللبحر يسحرني،وأتوقف عنده طويلا وأرسمه في قصائدي..أما الآن،وأنا أرى مواكب الشمس تلقي أثوابها بعيدا،وينحسر النور فيها،ويعم الضباب..أعتزل الأصيل..
بعد شهر من عبور الصعب،أخذت الأنباء تتوارد عن فك الحصار عن السيد الرئيس..وخلال الحصار، استقبلنا عددا ضخما من الوفود المتضامنة،وفي اليوم الأول الذي رفع فيه الحصار،وصل بدعوة منا،وفد رئاسة منظمة المرأة العالمية للسلام والحرية،للقاء بالسيد الرئيس والتضامن معه-وكان أول وفد يزور الرئيس بعد رفع الحصار- برئاسة السيدة ايديث فالنتاين،وهي سيدة من أصل كندي ملتزمة، مثقفة،وسياسية بخبرات معمقة في مهام الأمم المتحدة،آمنت بحرية فلسطين،وأصدرت القرارات السياسية لصالحها.
تجمعنا في مدينة القدس،ثم توجهنا الى رام الله..الطريق صعب،تتناثر الحجارة المقاومة على جنباته،كان الوفد مؤلفا من ستة أشخاص قيادية من فروع متعددة بما فيها فرع أمريكا..
 السيارة تعبر الشوارع بحذر شديد ،الأرض مخاطة بالعجلات المحروقة،والحجارة المتناثرة،وأعمدة الجدار..سرنا بعيون يتوسدها القلق ،مشدوهة النظرات ،تتفرس في نقوش سوداء منقوشة على الجدران ..الشباب يرسمون المكان بصور القائد ،يقفون أمام الجنود دون خوف،ويهتفون للحياة..وصلنا على أنغام معركة الكرامة حاجز قلنديا،أوقفنا الجنود،وأخذوا بتفتيش السيارة بكل غضب،استنفار غير عادي،فتحت أبواب السيارة جميعها،ثم طلب الجنود الهويات وجوازات السفر،ولما نظروا الى الجوازات ،وأدركوا أن هذا الوفد  
أجنبي،حاولوا اصطناع الابتسامات،وتحسين الأجواء...ولكنهم لم ينجحوا بالتأثير.عبرنا الحاجز، وسرنا في الطريق الى المقاطعة..العيون تتساءل،وقلبي يعلو نبضه،والذهن شارد بالكيفية التي سنرى بها السيد الرئيس،انضم الى الوفد صحفي مصري حضر لتغطية أحداث فك الحصار عن الرئيس..عبرنا الركن المقدس،أخذت دموعنا جميعا تنساب كأنها أمطار شديدة،ولما وصلنا آخر درجة،واذا بالرئيس يقبل علينا بكل ترحاب،وجهه المشرق رغم علامات الارهاق ،يمنحنا الأمل..جلسنا،وقدمت الوفد..أخذ الأخوة المرافقون يحيون الرئيس،فخاطبته السيدة فالنتاين بكلمة مؤثرة جاء فيها:"حينما كنا في طريقنا اليك،كان القلق والخوف يغطي ملامحنا،وحين التقيناك بهذه البطولة،زال الخوف والقلق،وعبرت الينا أمواج الأمل ..اننا جميعا نصلي لأجلك ولفلسطين ".ثم أضافت:"حينما رأيتك أشعر بأنه قد رد قلبي الي،أشعر بسعادة غير عادية وأنا أراك أمامي بهذه الروح،"ثم تحدث الصحفي المصري وهو مرتبك :"تحيتي اليك وتحية الشعب المصري "..وخاطبه عدد آخر من الحضور، وظل ألقا مبتسما .انتظرنا ما سيخبرنا به الرئيس بعيون تلتف حول المكان..كان وجهه المتعب يشع باشارات التحدي،وعذوبة لقاء الضيوف...
واكراما للسيدة فالانتين،والتي كان قلدها الرئيس جائزة السلام قبل سنتين،أخذ يتحدث عن المرأة وصورتها في القرآن الكريم،ثم تطرق الى سورة مريم،وأخرج القرآن الكريم ،وطلب مني أن أختار الآيات المتعلقة بالسيدة مريم،أخذت أقلب الصفحات،وخلال ذلك،كان سيادته قد قرأ الآيات شارحا معانيها..صدم الوفد لهذه الفطنة والذاكرة..وتابعنا الحديث السياسي ،وودعناه لنلتقيه في المساء على العشاء،ثم توجهنا الى جنين الصامدة حاملين صورة الشهيد "أبو جندل".
عدنا في المساء،وجلسنا حوله على مائدة الطعام،نظر الى الوفد معتذرا، بأن هذا أقصى ما يمكن أن يقدمه خلال الحصار..المائدة عليها زجاجات ماء،وصحن مارتديلا وشرحات من الخبز،أخذ كعادته،يقدم بيده الطعام للضيوف بكل محبة.
غادر الوفد معانقا الرئيس مودعا،الحزن يعتصر الفؤاد،والفخر والاعتزاز بقائد الأمة.
حضر بعد مغادرة الوفد مباشرة،الوفد البرتغالي ،والذي يتكون من أعضاء برلمان ورئاسة النقابات.
ذهبنا الى المقاطعة،وزرنا ما حولها من مشاهد تدميرية لم تبق على شيء سوى الانسان والقائد والارادة الصلبة.وقلد الوفد الرئيس قلادة ورود.
وفود كثيرة استقبلناها خلال الحصار، وبعد فك الحصار،حضرت بارادة صلبة، رغم مضايقات الاحتلال..لم تخش البنادق ولا الحواجز ولا الجدار،هي رحلة الحب المعمق لشعب الجبارين في أمانة الحضور التاريخي لقائد أطلق رايات الحب في فضاءات العالم،وانتصر للحق والسلام،وظل أيقونة التفرد النوعي وقامة الكبرياء الوطني..هو نحن في الرحلة المعنونة بالنضال حتى النصر.
تابعنا بتنظيم المظاهرات والوقفات التضامنية أمام الضغوط التي انتهجتها أمريكا واسرائيل في الضغط على الرئيس عرفات..معارك مستمرة،اجتماعات وقرارات مفروضة في محاولات لتغييب صوت عرفات عن شعبه.
احتشد الفلسطينيون في المخيمات الفلسطينية في لبنان دعما للرئيس،بقوة انتماء وعزيمة الصمود..وخاطبهم عبر الهاتف أبا حنونا وقائدا صامدا،وكان لكلماته صدى كبيرا.
في تلك اللحظات،وأنا أتابع الكلمات والمواقف،شدني الألم،وشعرت بأن هنالك شيئا ما غريبا يعبر آفاقنا،قرأت ما بين السطور،وازداد القلق..
استمرت اللقاءات السياسية بروح خفية، سرب الاسرائيليون شيئا منها،وشعرت أننا على حافة مفاجئات.الضغوط تشتد على الرئيس،حملته أمريكا واسرائيل خطايا الكرامة وخطايا أن نكون...الكل حوله ،بعضهم يدري ويسري في شرايين المؤامرة،وبعضهم لا يدري...والأنقياء يصرخون باحثين عن منقذ..لا تكفي المظاهرات ولا الهتافات،لا يكفي الحب الساكن في الفؤاد،ولا العناق،ولا الوقفات المؤقته المرسومة بعلامة رد الفعل..بل لا بد للفعل أن يأخذ مداه،ولا بد للجماهير أن تشتد وتقف كالطود...
ولا بد من حشد القوى المتضامنة علها تستطيع فعل شيء على جانب من الأهمية،وحضرني السؤال:أين المفكرون وأهل الرأي؟؟
أين الكتاب الملتزمون الذين حملوا أرواحهم على راحاتهم؟؟؟
أين الكلمة البندقية؟؟،وأين الرجولة والبطولة والقرار؟؟.
هل غادر الشعراء الأنقياء،وتبعثرت الرواية وسممت الحكاية؟؟..
وأطلق شعار الزيف،وحمله الكثيرون في سلالم الخوف؟؟
أين القادة والسادة؟؟أين اليقين؟والنص الأمين بنسج الروح؟؟..
رمال متحركة تحت أقدامنا وكأننا لا نحسها،مياه تسري من وراء الغيب،وكأننا لا ندرك سريانها باتجاهنا،ضغوط وقرارات وكأن فارسنا يقف وحده،ويهتف الصوت في محاولة للاسناد في زمن انهيار المدائن..وأي اسناد يكون؟وقد تمرغت الظنون،وحملت ألوية العبور الى الطريق الآخر قبل اطفاء الحريق..غاب الرفيق والصديق..وتوارت أصوات الزعماء والرؤساء،وابتدأت مباراة السكون،والصمت على ما كان.
 غاب الزمان واستعبرت أرواحنا
فجر النقاء،وصوت البنادق والرجال،"توفيت آمالنا"في وضح النهار،وصار الطريق معبدا بقطيرات دمنا وبأشواك المؤامرة.
لم يحصل في التاريخ أن يحاصر زعيم أمة وفارس سلام!ولم يحرك الكون ساكنا الا ضغوطا قاتلة،وكأنه يطأطيء الرأس لصناع المؤامرات وقاتلي السلام ..لا أمم متحدة تصدر قرارات داعمة،بل اتحدت على حصارنا وسلب حريتنا،لا دولة كبرى تلقي عصا الموقف لتوقف هذا الاجرام بحق زعيم حمل كل قيم السلام والعدل ،وكأنها تجذبها سادية مشاهد الموت والدمار،وانتهاك القوانين وحصانة الزعيم .
فكيف كان الحصار؟وكيف لم نرفع الصوت مدويا يفجر المواقف؟وكيف لم يأت زعيم من دمنا ومن عمق ثورتنا،يشد يده ويسانده ويتحدى معه كل الأيدي الملطخة بدمنا..
ما جرى ليس أسطورة أنتجها المبدعون!
ولا كابوسا تراءى في أحلامنا!
ولا خرافة رويت لنا!بل حقائق مفروشة على أرضنا،ترمي سيوفها الى قلب فارسنا وقلبنا،لتواري البطولة وأحلامنا في زوايا التدبير التآمري على فارس فلسطين.وهو اليقين والمحكم الحضور...
وحينما تعبر الذاكرة الى وقائع ما جرى،تعصف بي أمواج الدهشة،وتفترش ذاكرتي بتلك الصور المريعة التي التقطت واقعنا المرير على سريرالوداع للحظات عشناها، كانت هلالا خصيبا ودرب ارتقاء.
أعبرمرحلة الحيرة والتحير،في محاولة التفسير، لأطلق صفارات الانذار وناقوس الخطر..
هل غادر الضمير الجمعي؟؟،وانحاز ضمير الأمة الى حصان طرواده؟؟
وتعقد المسير؟؟.
وكيف يصير النص تاريخا على أروقة الغياب،وضياع الرجال..
أختزن الألم في الروح الجريحة،وارتسمت علاماته على وجهي..أبحث عن تقية تخفي ملامحي المكسرة الحضور،وأدور على ذاتي ،وكأنني حلقة يدفعها الهواء الى اللاشيء...
هذا اعجاز الوطن في رحلة العشق المسكون على ترابه.
ماذا علينا أن نفعل،وكيف نواجه الحقائق المريرة؟؟أين الرجال؟؟،وأين أجهزة الأمن؟؟،وأين المحافظين ورؤساء البلديات؟؟،وأين الجموع الغفيرة الغفورة في رحلة الدفاع عن كبرياء زعيم الأمة؟؟..
أراها هناك ولا أراها،أسمع تمتمات مشبوهة،والحانا بايقاع التنفيذ..
يعوم الصوت القادم من هناك،وتنتهك حرمات المقر،وتتسرب الأوراق،وتشتعل قرارات الادانة،لترفع جدران الحصار أكثر...
فمن تجرأ في تكتيم الصوت باطلالة الموت وظل واقفا؟؟
ومن حمل أمانة التغيير في ظلال التعبيرعن ارادة الغرباء؟؟
وظل مرتكزا على لعبة الألوان؟؟.
ومن أطلق شعارا معجونا بالأوهام؟؟
وظل يقاوم المقاومة على سفوح جبال التنحي..
التمس الحضور على قبلة الأمجاد،لأعيد بوصلة التغني بوطن،والدفاع عن فكرة الوجود وكبريائنا ورمزنا...فهل أستطيع عناق المجد في حضرة الزيف؟؟.
اذن لا بد من وقفة صلبة للروح!وتضميد الجروح،وعبور الممكن المطلق.
أخذت على عاتقي رسم برنامج تثويري ودفاعي،واتصلت بأركان عديدة في العالم،رؤساء وسفراء وكتاب وأصدقاء،وتوليت تحضير برامج تضامنية بأرفع المستويات...مسافات بعيدة علي أن أقطعها،مراسلات وكلمات،مظاهرات واحتجاجات.
نظمت برامج تضامنية في أبعد القارات...ذهبت الى الرئيس أعلمه بسفري الى أستراليا،ولم يوافق قائلا:"هذا مكان بعيد وأخشى أن يصيبك الارهاق"،فأجبته:"لا يمكن أن اسمح بتغييب قرار سياسي لصالحنا".كان الوقت أياما معدودة قبل عيد الأضحى،سافرت الى استراليا،ووصلت المؤتمر في اللحظات الحاسمة التي تناقش بها القضية،صدم المؤتمرون، ولم يتوقعوا حضوري نظرا لظروف الحصار..قدمت كلمة فلسطين والبيان السياسي وتمت المصادقة عليه..استأذنت رئاسة المؤتمر بالرحيل،وكنت قد نظمت مع سعادة السفير علي قزق برنامجا تضامنيا مع الرئيس عرفات..كان مهرجانا حاشدا نظمه الأخ أسعد العابدي مسؤول حركة فتح هناك،حضره الآلاف في هذه الأصقاع النائية،وكان وقعه كبيرا على الرئيس..أراد السفير أن ينظم لي لقاءات سياسية واعلامية،ولكنني أعلمته أنه يتعين علي أن أعود الى فلسطين .فاستغرب السفير قائلا:"تقطعين كل هذه المسافات ليومين فقط؟"..سافرت،وبعد يومين وصلت،كان مساء العيد يلقي بظلاله،دخلت عند الرئيس فلم يصدق،ظل ينظر الي لدقائق مستغربا...
قدمت التقرير،وجلسنا على العشاء،وأخذ يناكفني،ثم تابع مناكفة صائب عريقات كما اعتاد أن يفعل دائما.
اللقاء مع الأخوة في حضرة الرئيس يحمل أبعادا جميلة وخاصة،تشعر خلاله معنى الأبوة والأخوة ومفهوم الأسرة السياسية والتي افتقدناها بعد رحيل القائد.
وفي اليوم التالي التقيته لأعلمه بالتحرك الدولي للتضامن معه،واستأذته للسفر...بارك خطواتي وسرت ثابتة الخطى.
توجهت الى القاهرة لتنظيم مهرجان تضامني حاشد ،بالتعاون مع حزب التجمع،والحزب الناصري ونقابة المحامين وعدد من الأحزاب الهامة في مصر...
شارك في المهرجان الآف من المتضامنين،وأطلقت الهتافات الداعمة،وقدم الأمين العام للمحامين العرب سامي عاشور كلمة تاريخية هامة،ثم قدمت كلمة فلسطين،ونقلت تحيات الرئيس من خلف الحصار،تبع كلمتي عدد من برقيات التضامن والتي تنادي بفك الحصار عن الزعيم الفلسطيني وعن الشعب...كان مهرجانا حافلا،فبعد انتهاء المهرجان،خرجنا معا في تظاهرة مميزة رفعت فيها صور الرئيس عرفات.
أجواء نضالية وتضامنية تنتشر في ربوع مصر،وتمتد لتشمل عواصم عربية أخرى.
ثم تحركت مباشرة الى بلد المليون شهيد،للمشاركة في مهرجان تضامني حاشد..اجتمع ممثلو الفعاليات الثقافية والسياسية في قصر الثقافة،مع حشد ضخم من المواطنين وممثلي الأحزاب،بحضور سفير فلسطين وطاقم السفارة،وكذلك ممثلي البعثات الدبلوماسية ،في موقف مشرف يساند الثورة ويدعم الرئيس، وينشر رسالة المقاومة الخالدة..حماك الله يا جزائر.
قدمت كلمات سياسية وابداعية،وكلما انطلق صوت من الجزائر ينقلنا الى تلك الدولة الحرة والمناضلة التي قهرت الاستعمار،نعيش جوا ثوريا بامتياز،وبحب طاغ لفلسطين .

ومن الجزائر،الى الوطن الجميل اليمن، الشق الثاني من فلسطين كما أسماه الرئيس ياسر عرفات.
وأنت في اليمن،تشعر بعظمة الانسان،ومستوى الثقافة وروح التاريخ..نظمت مع سفارة فلسطين،ومؤسسة كنعان الداعمة لفلسطين،والتي يرأسها نجل الرئيس علي عبد الله صالح،ومع اتحاد الكتاب، الحزب الناصري وأحزاب أخرى أيضا،مهرجانا ضخما دعما للرئيس وللشعب الفلسطيني في توقه للحرية.
مظاهرة ضخمة يشارك فيها الآلاف،وينطلق الصوت جهوريا لا يقبل الصمت ولا الردة،ترتفع فيه الأعلام الفلسطينية خفاقة ويسير ركب التحرير بكل مكنونات الشعب اليمني.أتوقف هنا لأحمل لليمن عتق الحب والامتنان،والدعاء بأن يحفظها الله.
العجلة تسير بسرعة حتى أنني لا أستطيع مجاراتها،المسؤولية السياسية والتنظيمية تعيش بي،والفكرة المحكم لا تتوارى،واذا كان جسدي صغيرا قد لا يقوى على كل هذه البرامج التي أعددتها،فان الارادة الصلبة تيسر الطريق وتعزز الفكرة.
السؤال يحاسبني ،ويقف على أبواب البرامج المعدة،لماذا كل هذا الحراك غير العادي؟أقف أمام ذاتي باشتعال الأفق الأرجواني الذي ارسمه للوطن المعزز بشعبه وقائده،لأراها مسافرة الى حيث يكون الدعم والمساندة للرئيس..ولكن!هل شعرت بأن الوقت قصير ولا بد من التعجيل؟؟أم فاجأني الترهل في بعض المواقف لأشعل العواصف وأزيل الصمت؟؟أم أنها اطلالة الهية في روحي تدفعني للعمل الدؤوب،وأنا المحملة بعمق الانتماء؟؟،أم أنها ارادة السماء؟؟.
كلها تتشابك معا لتعطي معنى العلاقة التلاحمية بين الأرض والانسان،وماذا اذا كان انسانا ملاكا مملوكا لأرضه وشعبه،في مقاومة نص الاجرام والحرام،والاحرام الا عن البطولة والفداء...
هذا نص السماء،وآفاق الفضاء،وأنوار المصابيح والتسابيح.
عدت ثانية الى فلسطين،والتقيت الرئيس، وكنت قد سجلت له الهتافات بحياته وصور المظاهرات..عبر السكون الى قلبه،ونادى عدد من القيادة العسكرية والسياسية ليطلعهم على التسجيلات...
وفي اليوم التالي وأنا أعبر المقاطعة،أوقفني أحدهم سلم علي بحرارة يتخللها اللوم،ثم قال لي:"أنت تحرجينا مع الرئيس بهذه الفعاليات الكثيفة"،ابتسمت وفهمت بأنه يريدني أن أصمت،ولم أعلق،وتابعت الصعود الى الرئيس.
الأيام محسوبة بدقائقها،الحوارات الاسرائيلية الفلسطينية تسير بلا خاتمة ولا تنفيذ..شارون يتصدر المشهد، وينافس الاله في صنع القدر،واحتساب الأيام.ويرسم تعاويذ النهاية التي أصابته أيضا.
حرصت على طباعة كتابي في البدء أنت فلسطين-يوميات الحصار،والذي كنت قد نشرته حلقات في مجلة المصور..لأسلمه للسيد الرئيس في الحصار.نشرت دار الشروق الكتاب في رام الله،وحملت النسخ الأولى بسرعة البرق وتوجهت الى الرئيس.
استقبلني الرئيس بكل حرارة،سلمته الكتاب،تصورنا،وارسل التقرير الى وكالة الأنباء الفلسطينية وفا لنشره،وغطت الصحف الوطنية هذا الانجاز.
وبعد اسبوعين،اتصلت بي محافظات جنوب ايطاليا لتعلمني أنه تم اختياري لجائزة الابداع .طلبوا الكتاب وبعض القصائد والسيرة الذاتية،وأخذوا يعدون لهذا الحدث الهام..سافرت الى ايطاليا،واستقبلني السفير نمر حماد،ورافقني الى الاحتفال الأخ القنصل أمين النابلسي..كان لقاء حافلا،استقبلني رئيس البلدية والمحافظ،وعقد على شرفي أمسية شعرية لكبار الكتاب..
وفي اليوم التالي،أخذتني سيارة المراسم للاحتفال..أمام الجماهير وممثل الرئيس والشخصيات السياسية والأدبية،تم استلام الجائزة بحفل مهيب،وهتافات داعمة للكلمة الفلسطينية والموقف الفلسطيني..استلمت الجائزة وكان من ضمنها زجاجات زيت أصلية رمزا للمنطقة..واستضافني هناك أيضا،الجامعة،ومنظمة المرأة والعديد من الأصدقاء،وفي ختام الحفل توجهنا الى مطعم لتناول طعام الغداء.كان الجو حارا جدا،جلست مع الأخوة ،وأنا ذهني شارد باحثا عن فاكس لارسال معلومات للرئيس،سألت صاحب المطعم،فأرشدني الى فندق قريب.المنطقة التي جلسنا بها مدينة قديمة لا تعبرها المركبات،اذن ما العمل؟،اقترح علي صاحب المطعم أن يأخذني بالدراجة الهوائية،تسللت بهدوء،وبسرعة البرق سرنا،وارسلنا الفاكس،واذا بالرئيس يهاتفني ويبارك لي..
عدنا بسعادة بالغة،أنجزنا المهمة بهدوء دون أن يشعر بنا أحد..
وكان محافظ الجنوب قد نظم لنا رحلة في ساحات خضراء،ومراكب خيل،سعدت جدا بهذا البرنامج.
كان تكريما مميزا يتدفق ابداعا وعراقة العلاقة التي تربطنا بمن حمل معنى مسؤولية النضال..أشرفت الشمس على الغروب،جلسنا في مطعم راق جدا يحوي صور الأدباء الايطاليين ،وفوجئت انهم علقوا صورتي وصورة محمود درويش...
غادرت المكان استعدادا للسفر،وفي قلبي أمواج من الحب للأصدقاء الذين التقيتهم..عدت الى فلسطين،واجتمعت بالرئيس،وقدمت له نماذج من الهدايا التي كرمني بها المؤتمر...وتحدثنا بالتفصيل عن هذا الحدث الهام،وأمر بكتابة شكر الى المحافظين ورؤساء البلديات.
وبعد اسبوعين أيضا،جاءتني دعوة من البرتغال لتمثيل فلسطين في المؤسسات الدولية للمرأة،عقدت العزم للرحيل،وأخرت يوما لزيارة الرئيس،ذهبت في المساء وألقيت عليه السلام فقال لي مبتسما:"مش انت اليوم لازم تكوني في البرتغال؟؟!"،ضحكت وقلت :"نعم، ولكنني تأخرت لأتبارك باللقاء معك قبل السفر"،ضحكنا سويا وتحدثت اليه عن المؤتمر،وشحني وقال لي:"على بركة الله".
سافرت الى البرتغال،وقمت بمهامي على أكمل وجه،ثم عدت الى فلسطين،كان الجو ربيعيا تعبر نسمات الصبا،ولما وقفت على سلم الطائرة استعداد للخروج،وعبرت نسمات عذبة الى روحي،طاف الشعر في الركن المسكون،وتكاثفت صور الحصار المؤلمة،وأنشدت هذه القصيدة بصمت،وأنا أتفجر غضبا:
ماذا يعني أن تحيا في زمن الموت
وأبواب مفتوحة للرحيل
وتراتيل؟؟!
ماذا يعني أن تصير الحياة ذاكرة وذكرى
وتفاصيل،
في ظلمة الليل الطويل؟؟!
ماذا يعني أن تكون فلسطينيا
أو أن تصير فلسطينيا
أو تصر بأن تبقى فلسطينيا؟؟!
ولحمك ممزق الأشلاء،
باهت الألوان،
مرفوعا على المقصلة،
أتكون طائرا
ماردا
أم سيدا مفقودا فاقدا؟؟!
وماذا يعني الصمت المرسوم على دمي
ماذا يعني الصمت؟؟!.
عبرت فلسطين في لحظات الصعب،وغادرتها في اللحظات الأصعب،وسرت في الطرق الشائكة علني أرى الضوء في آخر النفق الذي طالما تحدث عنه الرئيس..
وفي الرحلة اليه،طريق منقوش بالكرامة،مفترش بالهوية،منسوج بخطى العائدين الصابرين..تمضي السنون، والأمل مسكون في الأعماق،والشوق المخضب بالأماني يتوسد أحلامنا ومواقفنا،
هي رحلة للعاشقين على حوافي البوح،يلقون بخفقات قلوبهم وديعة في السماء،وتنتشر المشاعركلمات بنبض الروح وعبق المقاومة،ليطل الصوت في مراكب الشهداء،وفي :أزاهير الدم " .
هي أرضنا المباركة بأريج الشهادة،وقوة الارادة...
وفي معرض الكتاب في تركيا،كنت ضيف الشرف،حيث قامت دار النشر المعروفة"أفرنسال" ومقرها استنبول-بترجمة كتابي "في البدء أنت فلسطين-يوميات الحصار"الى اللغة التركية،ونظموا مهرجانا حاشدا بالتعاون مع فرع فلسطين للرابطة الدولية للقلم،ومع فرع تركيا،لمساندة الرئيس عرفات وتكريمي بما استحق.أشرفت على الفعاليات سفارة فلسطين في تركيا،حيث استقبلني السفير الصديق فؤاد ياسين بكل الحب والاعزاز،وهو شخصية رائعة الحضور واسع الثقافة،وتتمنى دائما وأنت تتحدث اليه ان لا ينتهي الحوار.كان السفير معتزا بهذا التكريم وتجليات الحضور الفلسطيني النوعي،والجهد الذي قام به الكتاب الأتراك بتقديمي وتكريمي..
ابتدأ الحفل بكلمة الكاتب التركي المعروف ِشكرا كوردكل،قدمني الى الجمهور بلغة خاصة متميزة بها من أريج الروح،واطلالة النص السياسي،والدعم الدائم لفلسطين،وفي ختام كلمته ردد"أستقلال..استقلال"مبشرا بالحرية والنصر لفلسطين.
ثم تحدث الشاعر المميز جنكيز بكتاش،بكلمة أدبية وسياسية هامة،أشاد بالعلاقة المميزة التي تربط رابطة القلم التركي برابطة القلم الفلسطيني،ثم استعرض كتاب يوميات الحصار..
قدمت كلمة الرئيس محملة بكل الحب والتقدير لرابطة القلم ومعرض الكتاب وافرنسال..ثم تحدث سعادة السفير برسالة شكر وتقدير لكل من نظم هذا الحفل الخاص..ثم بدأت بتوقيع الكتاب..
بعد هذه الاحتفالية،تجمعت الجماهير من كل صوب بناء على تعليمات المنظمين..تلفت حولي لأرى آلافا حضروا لدعم فلسطين.خاطبتهم وألقيت عليهم قصيدة "دثريني يا ساحات الأقصى"،قرأتها بالعربية،ثم قرأها بالتركية الشاعر جنكيز..كان لها وقع كبير على الحضور..وبعد دقائق حضرت الكشافة التركية لتشارك في الحدث،ثم اعتلى المنصة شاب طويل القامة،جهوري الصوت ليبدا كلمة التضامن،وفي تلك اللحظات،اتصلنا بالسيد الرئيس ليستمع.
أخذ الشاب يهتف اولا باسم ياسر عرفات،ثم باسم فلسطين،ويرد الحاضرون معه،الصوت القادم من عمق تركيا الينا بدفق عاطفي وايمان معمق..امتد الهتاف لأكثر من ساعة،ثم سار الثائرون في شوارع استنبول لينضم اليهم جمهور آخر...ونحن نعيش اللحظات ونستمع الى ذاك الأفق الوردي الذي يطل علينا بالحصار،شعرنا بأمواج من الفرح تعبر الينا رغم كل الصعوبات..شعرت أنني في بدء انطلاقة الثورة،والجموع الغفيرة في كل مكان تهتف للنصر وللكلمة المقاتلة.
ما أرقى هذا المهرجان،وهويعانق الثائرين ويضمد الجراح..انني أعتز بهذه الفعالية التي كلما استعدت تسجيلاتها،يشمخ رأسي،وتطمئن روحي لقيمة الأداء..
كان الرئيس مبهورا وهو يستمع اليهم يهتفون،وتمنى أن يحتضنهم جميعا،وخاطبهم هاتفا لهم"على القدس رايحين شهداء بالملايين".
رددوها معه دون توقف،وما أجمل كلمة القدس وهم يلفظونها"قدوس"،ويتباهون في لفظها وعظمتها..
عدت ثانية الى مقر الرئاسة،جلست معه في حديث مطول،وقلت له:"لقد تخلى عنا الزعماء العرب"،فأجابني:"انني أستند الى شعبي الحر"..صمت قليلا وأنا أحدثه بتفاصيل المهرجان..قام عن المقعد،وأخذ بيدي،وسار حول الطاولة الممتدة في غرفة العمل،وفجأة قال لي:"مش حرام عليك يا حنان،كان يمكن أن يكون معنا الآن ستة أولاد،اضافة للابداع الوطني الذي تقومين به".
طأطأت رأسي،ثم نظرت اليه،وكانت تلتف حول عنقي الكوفية الفلسطينية،تلمستها قليلا،وعاودت النظر وأنا أرجع الى أمانةنقل ذاكرة الحوار في بداية اللقاء، والحديث عن حب الأنبياء والوفاء،أدركت حينها-كما كنت متأكدة-ان اللقاء كان اسطورة العبور الى أبراج النفس في أرقى صورها،وأن أمواج القلب ظلت في دائرتها لم يغيرها الزمان..وأن التواصل النفسي والصوفي بيننا اخترق كل جدران الصعب في أمانة الوصل بكلمات تسلك عبير الذات في تشكل وعي اللحظات على قوافل الانتماء لوطن وانسان....
ابتسمت قليلا،وحرت كيف يكون الجواب بين جدران الحصار،في حضور منبعث في الروح، ساكن الوديعة الالهية التي تمنحنا هباتها الانسانية لنأخذ بها ونحميها..ثم خاطبته بهدوء:"المعجزة أننا روح واحدة تمتطي القوافي والمنافي والهوى العذري،وتشع نيرانها بلهب تقديس الانسان الحر،الذي يشكل في نفسي لغة خاصة،وبقاء دائما..وأنت لي روحا ولغة تفوق لغة البشر،حملتني أمانتها برعايتك لي والتي غمرتني بها،و شكلت بحضوري السياسي والانساني علامات فارقة،  تضاف الي ،أودعتها في أعماق الفكر وشرايين دمي ،وأطلقت حضورها الوضيء الأزلي في كل خطواتي .. وارتديت عباءة الترهب في محراب الهوى،وصغتها رسالة مطلقة لا يمسها الغبار،ولاتنطفيء قناديلها مهما اشتدت العواصف..
وكنت لتكون أنا.
أسعدته كلماتي،وظللنا ندور حول الطاولة الى أن عاد وجلس على مقعده،قدمت له بعض التقارير الهامة وودعته بشيء من خوف تلمس روحي،ولما غادرت المقاطعة، التفت ثانية اليها،وشعرت بوخز مخيف في داخلي..هي رحلة المحبة والحفاظ على كنهها في عتمة الليل واغتراب الغد..وهي رحلة المجهول الذي أخذت علاماته تداهمنا.
وبعد يومين عدت الى مكتب الرئيس،كان الحرس مستنفرا،دخلت المكتب ووجدت الأخت مي الصواف تجلس على مقعد أمام غرفة انتظار مكتب الرئيس،وكان عدد محدود من الزائرين بالانتظار. سلمت على الأخوة والأخت مي،وأخبرني الحرس بأنها تتواجد كل يوم..وشعرت بشيء من علامات الضيق على وجوههم. لأن الوضع كان صعبا وتحركات الحراسات حول الرئيس تسير بنهج خاص قد يؤدي الى الاحراج بعض الوقت..دخلنا عند الرئيس واجتمعنا به،ودخلت مي معنا شاكية الحراس للرئيس بأنهم يمنعوها من الدخول،فجاء الأخ والصديق منير الزعبي وقال للرئيس :أسأل الدكتورة حنان وهي المثال المميز الذي ندرك مدى تقديرك لها، "،ثم التفت الي الأخ منير طالبا مساندته في هذا الموضوع،
حل الأمر بهدوء،حضرت في اليوم التالي لأجد الأخت مي جالسة في نفس المكان،واستمرت على هذه الحال طيلة الحصار،ولم أستطع تفسير الموقف، الى أن التقيتها بعد رحيل الرئيس.
لا يمكن تجاهل لعبة الحب والكره لبعض القادمين من قبل أعضاء مكتب الرئيس،وهي قضية تساهم أحيانا في حجب الكثير من الضيوف عن مقابلة الرئيس،هذا بالاضافة الى بعض الروابط الخاصة ما بين أفراد من مكتب الرئيس وما بين شخصية يرون من خلالها مصلحة معينة،قد يتم تسهيل لقاء تلك الشخصيات مع الرئيس..الكل بشر،والأمزجة الشخصية أحيانا تتجاوز أمور العمل الجاد،ولكن نظرة الى كثافة العمل وحساسيته أجد لبعض الأخوة العذر..كان الرئيس يدرك ذلك،لذا كان يخرج من غرفته أحيانا يسأل عن زائريه ويدعو من طلب مقابلته..
ربطتني بأخوتي أعضاء مكتب الرئيس وشائج خاصة من الاحترام والتقدير،وكنت في كثير من الأحيان، أتوسط لهم عند الرئيس وأسهل لهم الحصول على مساعدات خاصة،والتقيهم بكل محبة،ولا زالت وشائجها تعيش في روحي حتى هذه اللحظات،رغم تفرقنا...
اشتعلت نيران المؤامرة،وازدادت كثافة العمل والامتثال لمتطلبات الطواريء،اريد أن أتابع نهج الاتصال بالعالم،ولكنني حينما كنت أغادر،كان الألم يعتصرني،والقلق لا يفارقني..فالمرحلة كانت عصيبة، ونحن نسير بها ونعبر آفاقهاولا ندري مفارقاتها ،وترسيم المواقف التي تحمل الرئيس مسؤولية كل ما يجري،والموقف الدولي صامت الا من تمرير الفروض والضغوط،والموقف العربي المنحاز للمعلم الأول وتعليماته..الأمل أصبح بعيدا،والرقية المسدلة من قلوبنا واجهتها تفجيرات الموقف المعد سلفا.استمرت التهديدات والحصار، ومنع الرئيس من المغادرة الا بشرط عدم العودة..
والسؤال:
هل نحن بشر
أم نحن اضاءات قدرية ممنوعة البقاء؟؟!
هل لنا حق في الحياة
أم أن حقنا مرسوم في توابيت الموت
بلا أكفان؟؟!
الجزار يقف شامخا،
مفاخرا برداء ليس أبيض،
وقارورة العسل الأسود،
وصهاريج للحرق.
اشتد الحصار على الرئيس والشعب الفلسطيني،رغم خارطة الطريق التي اعتمدها الفلسطينيون ورفضها الاحتلال،زيارات للسيد الرئيس محدودة،لقاء مع مساعد وزير الخارجية الأمريكي وليم بيرنز،وزير الخارجية الأردني مروان المعشر،وزيري خارجية تركيا واليونان،سولانا ووفد الاتحاد الأوروبي وعدد من القناصل،اضافة الى زيارات زيني وكولن باول،ورحلة المباحثات التي لم تثمر كثيرا،فما طالبت به أمريكا من رفع الحصار،لم ينفذ،بل أصر شارون أن يمضي بخطوات التنكيل ووضع الشروط التعجيزية،ومنع الرئيس من التحرك ليكون في حصارين،حصار الموقع وحصار الزمن...
وظل الرئيس صامدا،على جنبه مسدسه مطلقا تحديه بأن أية محاولة اغتيال لاتخيفه،فروحه على راحته،والمسدس بيده وحلم الشهادة.
تم في السويد عقد الكونجرس الدولي لمنظمة المرأة العالمية للسلام والحرية،وفلسطين تمثل فرعا رسميا بها،وكنت مرشحة لرئاسة هذه المنظمة الدولية..نظمنا على هامش الكونجرس مهرجانا تضامنيا هاما بحضور خمسمائة امرأة من مختلف أنحاء العالم،وقفن يحملن الأعلام الفلسطينية، ويهتفن بالحرية للرئيس عرفات والشعب الفلسطيني..اتصلت بالرئيس من السويد،وكان متعبا حينها،وخاطبته السيدة ايديث فالانتين الأمين العام للكونجرس-
والتي كانت قد التقته قبل عدة أشهر في رام الله عند رفع الحصار- بتدفق عاطفي لافت:"أبو عمار!كلنا فداك،ابق معنا فأنت رمزنا،اننا في حاجة اليك،وشعبك في حاجة اليك والبشرية جمعاء".كان صوتها مفعما بالحزن،ترافقه الدموع.
فأجابها بصوت غير معتاد:"الله يبارك فيك وجميع الأخوات"..التفت الأخوات حول الهاتف بهتاف ودموع.
ولم نكن ندري بأنها المرة الأخيرة التي تخاطب فيها الرئيس...
وفي طريق عودتي تذكرت ميلاد الرئيس،تجمعنا في المقاطعة نضيء له الشموع ونهتف له.كان في ابتساماته مرارة يحاول مداراتها.
أخذت الأنباء تتسرب حول صحة الرئيس وآلامه،وعيادة الأطباء له مرارا.وكانت الأنباء تسير بهدوء، وحينما نلقاه،ننفي عنه المرض أو الضعف،لأنه يبدو أمامنا بقوته التي اعتدناها،الى أن كان يوم زرته قبل السفر الى البرتغال للمشاركة في مهرجان آفنتي الذي ينظمه الحزب الشيوعي،ويحضره حوالي مليون شخص..
التقيت به وكان خده الأيمن منتفخا،والشعيرات البيضاء تتكاثف على خده،علمت أنه بسبب التهاب في الأسنان،كان صوته خافتا وابتسامته لا تكاد ترى،
استأذته للسفر،فأجابني:"خليك لبكرة وظلي اليوم عندي"..
قضيت اليوم بجانبه،كان يتألم ولا يشكو،يتابع كل المهام،ويتفحص التقارير،لتخال أنه بكل قوته وصحته.
عصف الجرح الدامي في قلبي،وكلما ازداد العصف،تشكل في وعيي شعور يغيب عنه المرض والضعف.
 كنت، وكنا ننفي عنه المرض،ولم يرد بذهننا يوما، بأننا يمكن أن نفقد قائدنا،رغم ادراكنا لكنه الحياة.
فقد كان لنا خالدا مخلدا لا يصيبه الضيم ولا الألم،يطل شامخ الهامة بألق دائم موصولا بالمجد.أنها
 النظرة الالهية التي رسمناها له.
سافرت الى البرتغال،واستقبلت بحفاوة،وكنت قد أعددت البيان السياسي الذي سيعرض في المهرجان..ابتدأت المراسم وتقاسيم عبور الوفود الى المنصة بالأعلام الفلسطينية..وقفت على المنصة الى جانب رئيس الحزب الشيوعي، وخلفنا الوفود الدولية المشاركة،قدمني الفاروكونيال رئيس الحزب آنذاك، لأخاطب الحضور،وما أن ابتدأت،فاذا الهتافات تعلو والاعلام ترفع،ويمكن تصور المشهد بكثافة مليون يهتفون بحياة الرئيس وفلسطين..كان المشهد في وضح النهار،وسماعات الصوت توصل الهتاف الى أبعد مدى،والوجهة فلسطين..
ثم تحدث رئيس الحزب الفارو كونيال،مخاطبا الرئيس والشعب الفلسطيني مصدرا البيان السياسي الداعم.
عدت الى فلسطين بروح متجددة، يحملني الأمل بأن الغد لا بد أن يكون أفضل...
أخذت الأنباء تتوارد عن صحة الرئيس، وأنه يعاني من مشاكل لم يستطع الأطباء التوصل اليها،كان دكتوره الخاص أبو دقة يطمئنني دائما عليه ويهديء من روعي..زرته ثانية وكان متعبا،ولكنه يظل بنظري ،كما بنظر الكثيرين، القوة الجبارة التي لا تغلب،وهذا كان يمنحني الطمأنينة النسبية.
عدت ثانية اليه بورود الشوق،واطلالة اكتمال العمل الجاد،نقلت اليه نتائج مهرجانات التضامن والعمل الدولي له،كان يسمعني ويقول:"شكرا..شكرا..شكرا يا حنان،لأجيبه بكل عزم،لا أشكر على رسالة أودعتها بي ،وحباحملته لأجلك ولفلسطين، يقينا لا يقبل الشك،وما قمت وما سأقوم به ما هو الا نقطة من بحر العطاء الذي تستحقه.أنت تعرف أنك رسول حريتنا وقائد ثورتنا ونبض قلوبنا، فكيف نكون بلا صوتك وحضورك الملائكي...كيف نكون؟؟!
واريت دموعي، وتأثر الرئيس بكلماتي وعاتبني وطلب أن أكون بقربه يوميا..وأنا في حضرة حضوره،تلقى مكالمة من السفير الأمريكي،وكأن الرسالة أزعجته،أخذ يحرك رجله الحركة المعهودة حينما يغضب،نادى على الحرس، وطلب منهم تجميع الصحفيين ليخاطب الشعب في جميع أماكن التواجد...
عقد المؤتمر الصحفي،ووقف الرئيس متحدثا صلبا يطمئن أبناء شعبه،ثم جمعنا الجماهير حوله لدعمه ومساندته..وقف على درج المقاطعة،عدل كوفيته وأخذ يهتف الينا ثانية:"على القدس رايحين شهداء بالملايين"،يخاطب الأطفال ويستذكر فارس عودة ومحمد الدرة،الروح تنطق والجرح ينزف،ثم أضاف قائلا:"ترونها بعيدة وأراها قريبة".استوقفتني العبارة برؤية فارس التجربة الفلسطينية، يبعث فينا الأمل الذي تكسرت أجنحته،ثم صعد الى مقصورته..
وجهني الى سويسرا لتمثيله في المؤتمر الدولي للمنظات غير الحكومية- وقد اعتاد سيادته المشاركة حتى قبل العودة،لأن الاجتماع هذا كان فرصة للقاء قيادات الساحة في الأرض المحتلة وفلسطين التاريخية. يشارك بالمؤتمر ممثلون عن المنظمات الفلسطينية والدولية،قدمت كلمة الرئيس ولما أنهيتنا،حصلت زوبعة في المؤتمر،فقد وصلت أنباء عن تدهور صحة الرئيس،وارتبك السفير وغادر القاعة،وأخذ الحضور يناقشون المشهد..
زلزال أصابني ورعب،وكان علي أن ألقي كلمة ثانية في اليوم التالي،قدمت اعتذاري وسارعت الى المطار باحثة عن امكانية السفر وتغيير التذكرة،وقفت ساعات طويلة في انتظار أن تنجح شركة الطيران السويسرية بتوفير مقعد لي بأية طائرة متوجهة الى فلسطين،وبعد ساعتي انتظار،توفر المقعد،غيرت التذكرة ودفعت الفروق،وجلست في غرفة الانتظار باحثة عن طمأنينة..تمر الدقائق كأنها ساعات،حلقت الطائرة في الساعة العاشرة مساء،استغرقت الرحلة أربع ساعات،مرت علي كأنها كابوس،أهمس في نفسي لأدفع الطيارة للاستعجال،أو أقفز منها،وتتشابك الذاكرة بصور عديدة واحتمالات..
وصلت القدس في الساعة الثانية صباحا،أودعت الحقائب في المنزل،وانطلقت الى رام الله،وصلت باب مقر الرئاسة الساعة الثالثة صباحا،طرقت على جرس الباب الخارجي للمقاطعة،فرد علي الحارس، عرفته بنفسي،واستهجن حضوري في هذا الوقت،ولكنه أدرك عمق العلاقة والانتماء.. اعتذر عن امكانية اللقاء في هذا الوقت...توجهت الى بيت شقيقتي الملازم للمقاطعة..فارقني النوم،تابعت الأخبار،وما كاد النهار يطلع حتى توجهت الى هناك..الساحة مكتظة،وأخبار تتردد عن تدهور صحة الرئيس،اتصلت بالدكتور الخاص أشرف الكردي،وفوجئت أنه يتحدث من عمان،وتساءلت،"هل يعقل أنه ترك علاح الرئيس؟"..رد علي بصوت خافت لا يكاد يسمع،لم يكن الوضع مطمئننا،ولم يعلق...فهمت ما بين السطور..تابعنا التجمهر في المقاطعة،جماهير غفيرة حضرت..في المساء صعدت الى غرفة الرئيس،لأراها مكتظة بالوزراء ورؤساء الأجهزة الأمنية،ذهبت الى الأخ حسام الدباس مدير العلاقات العامة، وطلبت منه أن أزور الرئيس في غرفته الخاصة،فقال لي:"كل هذه الشخصيات ترغب أن تزوره،لذلك لا أستطيع،فكان جوابي ودون أن أدري قاسيا لأقول له:"لا توجد قوة في الكون تمنعني من زيارته"،أدرك حسام مدى شوقي للقاء،فقال لي:"عودي الى القاعة،وسأعطيك اشارة..عدت الى القاعة،وجلست قرب الحاج مطلق والذي التقاني بترحاب قائلا:"لم أر وفيا مثلك"،تحدثنا قليلا،وكان الضجيج والأحاديث المتنوعة والتوقعات..مر الأخ حسام،وأعطاني اشارة، تحركت خلالها بسرعة الى غرفة الرئيس.
وقفت على باب الغرفة،فاذا بقلبي يهبط،شعرت بشيء ما غريب،ورعب شديد،وغبار وغبار وغبار...اتلمس خطاي التي أخذت ترتجف..طرحت السلام،كان أمامي الرئيس بثياب نومه جالسا على مقعده،وبقربه زوجته تلقي يدها على كتفه،وقربه من الجانب الأيمن الدكتور رمزي خوري رئيس مكتبه،وعلى اليسار جلس طبيب تونسي وطبيب الرئيس الخاص.
اقتربت خطواتي من الرئيس،عانقته بكل حرارة ابنة،كان ينظر الي،ويحدق بي مبتسما،فقلت له دون تردد:"يا والدي! عهدا أن أسير كما علمتني،وأن أحمل رسالتك الوطنية النضالية الى العالم حتى آخر يوم في حياتي..كان الرئيس مبتسما،والحقيقة أنني لا أدري اذا كان يسمعني..قبلت جبينه ويديه،وأعدت عهدي ثانية،ورسمت الطريق،والكل ينظر الي مندهشا،وكأنني لا أرى أحدا سواه.أردت المغادرة، ووصلت الباب،ثم عدت ثانية لأعانقه وأودعه، وألتمس الدعاء،كررت هذا الفعل عدة مرات،فقال لي الطبيب:"يكفي يجب أن يرتاح".خرجت ووجهي أمام الرئيس، وظللت أعود الى الخلف،الى أن غاب المشهد.
عدت ثانية الى غرفة الانتظار،وجلست مع الأخوة،وصمت طويلا،التفت الى الحاج مطلق وسألته:"ما حقيقة ما يجري؟"حاول طمأنتي وظلت الطمأنينة بعيدة.
قال أحدهم:"ان الرئيس بخير،دعونا نذهب الى فندق جراند بارك،نرتاح قليلا،نأخذ شيشة ثم نعود..خرجت مجموعة من القاعة..وظللت بالانتظار.
وبعد ما يقرب من الساعة،تأكدت الأنباء أنه سيتم نقله الى المستشفى في باريس.
وفجأة دخل القاعة محمد دحلان ومحمد رشيد وهم في زي غير رسمي،يرتدون ثياب الرياضة،اتجهوا الى رأس الطاولة حيث تتراكم أوراق الرئيس،وجاءوا بأكياس كبيرة سوداء، وبدؤوا يضعون الأوراق فيها ليرحلوها معه،حملوها ثم غادروا.
استغربت !صعقت من المشهد،وشعرت بلطمة على الوجه هي الأقسى،وظللنا جالسين الى أن طلب منا المغادرة حتى ينام الرئيس ويستعد للسفر،
لنودعه في الصباح متجها الى فرنسا بالسلامة..حضرت المروحية،ووقف الأخوة في لحظات الوداع الأخير،وصعد الرئيس الطائرة وقلبه يرف حولنا،وأخذ يلوح لنا بالوداع،صورة اعجاز بشري يرتقي بنص الحب الجارف لأبنائه وشعبه من فوهة الألم .
ارتفعت الطائرة في السماء لنواجه الحقيقة.
مرارة الرحيل والوداع صعبة جدا،تساءلت في نفسي بعدكل ما شاهدته بالأمس،هل سيعود الينا ثانية فارس فلسطين؟؟،وظل السؤال حائرا...
أخذنا نتابع صحة الرئيس والبيانات التي تصدر من فرنسافي أحوال نفسية يصعب وصفها،هل حقا غادر الرئيس؟ولم أحتمل الانتظار،وبينما كنت أعد نفسي للسفر الى هناك،أصدر المفتي العام بيانا بأن صحة الرئيس في تحسن،فعاد الي التفاؤل،توجهت الى عمان،اشتريت التذكرة وغادرت الى المطار،وفي الطريق الى المطار،نشرت الأنباء تصريح السيدة سهى الطويل زوجة الرئيس، تعلن فيها عن مؤامرة محبكة،ولكنها لم تتابع..اخطلتت الأوراق وتشابكت التصريحات بوجود القيادة العليا.. اتصلت بسفيرنا هناك الأخ أحمد عبد الرازق،أعلمه بقدومي،ونصحني أن لا أحضر،لأنه يمكن أن لا تتسع اللحظات،وأضاف قائلا:"الكل منا يجب أن يحافظ على أعصابه ويصبر، لأننا لا نعلم ماذا سيجري وما القادم الينا".اربكتني العبارات،وفهمت دلالاتها واحتساباتها،والتدابير الاحترازية التي استند اليها البعض في لحظات الوداع في تغليب الفكرة والواقعية،مغفلين أهم الحقائق،بأن الانسان هو الأغلى، وفقده خسارة كبرى لا يعوضها ما نملك أو ما لا نملك.
طارت الطائرة،ولما وصلت مطار باريس، علمت من اتصال مع مكتب الرئيس أنه قد أعلنت وفاة الرئيس، وهوالآن و بعد الجنازة الرسمية، سيتوجه الى القاهرة..جلست في المطار واتصلت بالمستشفى وتأكدت أن جثمانه قد نقل الى القاهرة،فقررت أن أرجع فورا الى عمان، ثم الى فلسطين لأستقبله هناك..ساعات عذاب،ومطارات،وزمن يركض.بعد ساعة وجدت طائرة متجهة الى عمان، جلست وحلقت بعيدا،والتهبت روحي، فاذا أنا أحمل قلمي الموجوع آخذة في الكتابة،كانت الكلمات جداول أنهار تنبعث من الفؤاد،وبينما كنت غارقة في كتابة النص،لاحظت أخا يتابعني من المقعد الخلفي، يحاول أن يقرأ ما أكتب..دقائق قليلة وصفحات كثيرة..اقترب مني الرجل وطلب أن يقرأ النص ،أعطيته الأوراق وأخذ بقراءتها وشعر بمستوى الألم والنقد،فقال:"هذه القصيدة أقرب الى أسلوب مظفر النواب". شكرته وتابعت الكتابة الى أن اكتمل النص ..سألني ثانية:"كلماتك تتفجر حزنا ونقمة الهذه الدرجة تحبونه أيها الفلسطينيون .؟؟!
وصلت الى عمان وفي الصباح الباكر توجهت الى المقاطعة...
الجمع الغفير يتوافد،الجماهير شاردة،وحشد كبير ينتظر الطائرة،زملائي في مكتب الرئيس على أهبة الاستعداد،وصلت المروحية، واشتد البكاء والصراخ والهتاف،تجمع القوم بكثافة لمواراة الجثمان في المقاطعة، بعد أن رفضت حكومة الاحتلال دفنه في مدينة القدس..أتممنا طقوس الجنازة،وصعدت الى المكتب،جلست قليلا بحزن، ثم نزلنا الى الغرفة المعدة لتقبل العزاء..استقبلنا الجماهير المعزية لفترة طويلة،وأعد المكتب الطعام،ودعيت اليه الجماهير..خاطبني الأخ الطيب عبد الرحيم قائلا:"تفضلي يا حنان"،فقلت له :"وهل أستطيع"؟
شعرت أن المقاطعة وكأنها يتراكم فيها الثلج لشدة انحسار الحضور الأسطوري، فلا الدار دار،ولاالمكان مكان..ومر في ذهني شريط الذاكرة المؤلم،يوم فقدت أعز الرجال والدي،وفاضت في روحي أنهار الآلام، حين أدركت أنني بفقد والدي فقدت بوصلة الكون، وشعرت أنني في صحراء قاحلة..والآن يعاد مشهد الفراق، لأفقد والدي الروحي ورمز ثورتي وأمتي.
ولما سارت جنازة الرئيس،كان يوم الوقفة،أي ليلة العيد،بقيت في المقاطعة في متابعة مراسم الحداد،صدمت يوم اعلن  العيد،ومارس القوم طقوسهم، وكأننا لم نفقد شخصية تعجز الأيام ان تأتي بمثلها.

وكان وداعا معجونا بالدم...
دم يراق على أبواب ربيع العمر
والدم فلسطين
والمجد أنت فلسطين.
أشباح الفراق تدنو،عصافير الجنة تعلو الى هناك،أمواج فضاءات فلسطين ترقى الى صرح الملائكة،الأشجار تعانق السماء،والأرض تتحدى بكبرياء..وصوت الآذان ينطلق من المسجد الأقصى، ينضح روحه بآيات القرآن الكريم وبجموع المصلين ودموع العاشقين...
الله أكبر..الله أكبر..الله أكبر
وداعا يا فارس فلسطين.
لم أكن أدري بأنني سأفتقدك الى هذا المدى،
لم أكن أدري!.
الكلمة الثائرة المقاتلة تعيد حضورها الي،تسجل ملحمة البطولة والرحيل بايقاعات الهجير المر،وبحور الشوق
،
النص الجهوري-ايقاع الفراق.
كان ايقاع الفراق حارقا
التهبت الروح
وامتطت الروح جراح الروح على أغصان غصين التجربة الأولى،
انكسر الغصن،وعلقت الشجيرة ببقايا مركباتها المنقوصة العدة،
وازداد ترنح الشرخ ما بين غصن يتدلى،ابتدى محياه يبوسا
وما بين شجيرة تحاول احتضان ما تبقى..
كانت الذكرى تسترسل من عينيك وتغفو على حضن فؤاد ذاكرتي الدافيء،
المكان خال أيها الحضر الغائب.
حضورك يجمع حرارة الكون على ذاك المقعد الغارق في سكون اللحظة،
أفتقدك مع اللحن الناعس الذي انكسر ايقاعه
حينما خلا المكان من كينونتك.
أراك مقبلا مدبرا كعجلات الأقدار الحادة،
تحملنا الأمانة وتكتب الوصية..

فمن يعوضني فقدك من؟؟!
من يعوض الشعب الفلسطيني ذاك الفقد وذاك الفراق؟؟!
ومن يصب سوائل التخدير على جراح الآلام؟؟!
ومن يسائل،من يحقق ومن يدقق؟؟
لقد تكسرت كل أجنحتي.

يا والدي!يا فكرتي الوطنية وصوتي الأجل،
يا والدي!يا صورة المجد في ثوب الأمل،
كيف وصلت الينا الساعات بايقاعها المر؟؟
وكان الفقد وكان الوداع الأليم.

ثم أخذت أصف حقيقة الفقد المر،والغياب الموشى بالعذاب..
فقدناك يا والدي
حينما نامت عيوننا عنك،
والتقت عيوننا باغراءات الفناء،
فقدناك يا والدي حينما تحسسنا ذاتنا قبلا منك
وانتصرنا اليها،وتعلقنا بها شعارا وغناء،
فقدناك ،قتلناك يا والدي،
ونحن نعبر اليك
ولا نرى سوى توقيعك الأحمر
"وأنت معلق وحدك على مشانق القيصر"...
فقدناك،وتركناك وحيدا صامدا
عظيما صابرا،كبيرا كبيرا
وجعا،مفتوح الجراح....
ثم أبدا بالنقد الشديد للكل الفلسطيني،واللوم على الصمت والسكوت على ما اقترفه الاحتلال ضد الرئيس.
واحر قلباه!
وهل للقلب من نبض؟
وهل للنبض ايقاع؟؟
ونحن نودع الايقاع؟..
ثم ترتفع نبرة الغضب أكثر..
هل تكفينا محاكم التفتيش والتأريخ؟؟
هل تكفينا كل القرارات والاعتذارات؟؟
وهل تكفينا دموع العين والقلب؟
وانحيازنا دون انحياز؟.
ثم أتساءل بمرارة:
وكيف يصير الوداع وداعا وداع؟؟
وكيف تجرأ تراب الأرض أن يتراكم صوب يديك؟؟
وكيف تجرأت الأصوات بعدك،
 أن تترفع بذاتها الى الركن الأعلى فيك؟؟
وكيف تجرأ كل المراقبين،
السفراء،الشعراء،الأمراء والأصدقاء،
أن ينشروا نبأ الرحيل
 قبيل ساعات الرحيل؟؟!
ثم أسهب في تصوير المؤامرة،وأصفة المجد الملازم له في كل المراحل ،وخاصة في موقفه تجاه القدس..
أيها المعمد بالقدس ترابا وعبق،
والمخضب بالمجد والوفاء،
والمنتخب لألوهية العطاء.
انه الوصف الخاص الذي يليق به، حاملا الأمانة، والتي تعجز الجبال عن حملها،ولكنه حملها بكل قوة وصلابة وكبرياء.
انني أشتم رائحة غريبة انطلقت من هناك!
انني أشتم رائحة الرعب هناك
انني أشتم رائحة العار والدمار
والصمت المتعمد
والفرار الى الفرار
ويسدل الستار.

تعجلوا كل أداءات الرحيل!
تعجلوا في تكميم الذاكرة!
تعجلوا في نص الوداع!
تعجلوا في العشاء الأخير.

وبعد وصف مطول،تعزف سيمفونية الوداع،ويرتسم عهد الوفاء الخالد،تسير الكلمات في ايقاع النبض،وترسم حروفها روائع الصور لعملاق الثورة الذي لا يغيب.
أتحسس وجهك الأبدي النظرة،
وعينيك التي تطلق نظراتها وتحدياتها،
وأعدوا..وأعدوا..وأعدوا..
"لا تخجلوا
ولترفعوا عيونكم الي
لأنكم معلقون بجانبي على مشانق القيصر،
لا تخجلوا!ولترفعوا عيونكم الي،
لربما،اذا التقت عيونكم بالموت في عيني،
يبتسم الفناء داخلي
لأنكم رفعتم رأسكم مرة
لأنكم رفعتم رأسكم مرة."
وعلى حافة بئر الوداع،تتوقف الكلمات بايقاع وميض الذكريات،ترنو الى هرم الثورة وصانعها،لتصيغ نصا خالدا يمتشق عهدا لا تمزق أوراقه،ولا تتوارى نبضاته في عصف الرياح،يطوف بنا وعلينا في كل صباح...ويحلو النداء:
يا ياسر..يا أبا عمار
لا تغادر
لا تغادر..
امنحنا هيبتنا فيك
امنحنا سويعات أخرى
لا تغادر..
امنحني ايقاع الحضور اليك
واقبلني سيف الحماية لعينيك
لا تغادر ..لا تغادر..لا تغادر.
وحينما تأتي ساعات الوداع برسم القدر،
يهتز الكون وتصرخ الجبال،
يستيقظ الشهداء الأبطال ليكونوا معك بأرواحهم،يعزفون لحن الرجع ........
الوداع ..الوداع
يمضي في عمق الجراح
الوداع..الوداع يحاسبنا..يحاسبني
والضوء في المطلق ضوؤك....
يا أيها الوداع تمزقني،
والكلم في الكلمة دم الغزال المتوج..

لن تكون راحلا أبدا
لن تكون غريبا
لن تكون الا حبيبا قريبا
وأنت الاشارة في سرنا
وأنت الصفاء ومنك الوفاء
وأنت الضمير الذي لا يموت
وانك شعب أبى أن يموت.

وداعا أيها الرجل المقاتل في مدن البراكين،
وداعا أيها المحكم في زمن التشابه،
وداعا أيها الرجل الأغلى قاهر المستحيل،
وداعا لعذاب الجدران
وداعا لعذاب الحصار
وسلاما اليك
رجلا معجزة
فيضا،
خلودا،
ويقين انتماء....
هذه مقطوعات من نص مطول،نشرت أجزاء منه في تليفزيون فلسطين في لحظات الوداع الأولى، وأعيد نشره في أكثر من صحيفة وأكثر من موقع.
 كتبته في زمن القراءة المعقدة بنص سياسي، يختزن وقائع مريرة لسنوات ظلم تركب قواعد أيامها قوى الشر،وتشدو ألحانها على غياب صوتنا وعذاباتنا،وتشرب نخب دمنا وتصحو ،وكأن رحلة الدم اشراقة نور!                   
وكل الكلمات تتسمر أمام المشهد،وأمام روحي الجريحة لتخط نصا موازيا لهذا الزمن الاجرامي المكبل بالأحقاد. .
في محاولة قد تستطيع الكلمات أن تضيء قناديل الروح المجرحة بأشواك الظلم؟؟
وأن تهزم الشر المرصود لنا..
 وحينما يتفجر قلمي لينقل صورا لم تظهر حتى في أساطير الأولين،
ولا في جرائم التاريخ المسجلة بحروف القهر؟؟
 و أنهار الدم التي تسيل في دروب المقصلة؟؟
 ينطق الصوت الجهوري ليسجل وقائع ما كان...
ويمضي شرف الأمة على موائد التجمع والتمنع والتخدير،
وتحضير العشاء الأخير..
عار علينا أن ننسى الرجال
ونمضي مثل أشباه الرجال
فمن يجرؤ؟؟!
*****
أنت مولود فينا عند كل فجر
وعند كل أمنية
فلن يكون فراق
لن يكون فراق.
ودعت الرئيس وودعت المرحلة،
 وأنا لا زلت أعيشها حتى هذه اللحظات،بلحظ
واقعها ونبضها وتجليات شخوصها وبحور عطائها
 وخيوط شمسها،
واطلالة قمرها
 وثورة البركان،
وكأن الزمان توقف هناك،
 ووقفت معه .
أودعتها في قلبي وفي ذهني،
وعلقتها على أغصان غصين شجرة الخلود.