ما بين الفِلاحة والسياسة بقلم د. أكرم إبراهيم حماد
تاريخ النشر : 2018-06-20
خيال الحقل أو خيال المآتة أو الفزّاعة :
ثلاثة مصطلحات لمجسم واحد، عرفه الكثيرون بخيال الحقل وعرفه آخرون بخيال مآتة ، وعرفه غيرهم بالفزّاعة، وهذه المصطلحات المعروفة لدى مزارعينا وفلاحينا منذ مئات السنين ، والتي تعبر عن ذلك الشكل الذي يأخذ هيئة دُمية أو مُجَسم ، والتي تأخذ شكل الإنسان وهي مصنعة من القش أو الأعواد ومُخبأة في ثياب لتظهر كما أنها شخص حقيقي لإخافة الطيور من الاقتراب لهذا الحقل في ظل خوف المزارعين من أكل الطيور للمحصول الخاص بحقولهم، كما أن خيال المآتة يستخدم في أغراض التدريب على الرماية والقنص وغيرها من الأمور التي يتم استخدام هذه الفزّاعات أو خيال المآتة لها. وفكرته العامة تقوم على جمع خشبتين على شكل صليب وإلباسه قطعة قماش قديمة أو ثياب وطاقية ليكون مظهره وكأنه شخص عادي.
أما عند الحديث في السياسة فقد نجحت الأحزاب السياسية عندنا في خلق ما يمكن أن نسميه بالفزّاعة أو خيال مآتة في أروقة العمل السياسي الذي تمارسه على أرض الواقع. وربما لا يوجد في قاموس السياسة مُصطلح نُسميه الفزّاعة، أو خيال مآتة ، ولكن المقاربة الكبيرة لحبكة العمل في المجالين الزراعي أو إن شئت فقل الاجتماعي ، والسياسي قاربت بين خلاصات العمل الذي يقوم به الفلاح في استغلاله لخيال الحقل، والسياسي في استغلاله لشخوص خيال الحقل المتعددة في عالم السياسة والتنظير الحزبي .
واصطلاحأ طبعاً هذه الكلمة تعني الشخص الذي يُصفق ويُهلل ويُكبر دون أن تكون له دِراية أو عِلم في الموضوع، وينبري مُدافعاً بالصح أو الخطأ أو التلفيق أحياناً مُبرِراً ما يحصل بالابتلاء والامتحان والاستهداف الخارجي للمشروع الوطني أو التحرري الذي يرعاه الحزب أو التنظيم السياسي .
وحالنا هذا يشبه حالنا عندما كنا صغاراً ونكثر من شِقاوتنا وغلبتنا مع والدتنا تحديداً ، أو نرفض تناول الحليب مساءً، أو نرفض النوم مبكرين ، أو نصحو في عتمة الليل باكين ، وتطلب منا الكف عن البكاء، فتلجأ إلى إخافتنا بالغول أو بأبو رِجل مسلوخة.
وبالعودة للحديث عن الفزاعة فالملاحظ أن هذه الفزاعات أو الدُمى بها عيبٌ خلقي فهي عادة ما تكون بذراع أطول من ذراع أو بساق أطول من ساق ، وكأن طبيب الولادة عندما استولد خيال الحقل حدثت له حالةُ خلعٍ لذراعٍ أو ساقٍ أو رقبةٍ ، أو أثرت عملية التوليد تلك على عينيه ، فأصبحتا تعانيان من انحراف حاد في النظر والرؤية .
والغريب في الأمر أن الساسة يحتفظون بهؤلاء الفزاعة ويبقون عليهم رافعين الغصن بينما هم يقطفون الثمار ويأكلونها ، والفزاعة يقبلون ذلك بطيب خاطر .
يُنصِب المُزارع خيال الحقل في المكان الذي يعتقد بحُكم خبرته الطويلة في الزراعة أنه الأنسب لتثبيت الفزاعة فيه ربما لأنه المكان الذي تكثر فيه الثمار أو لأنه المكان الذي يتوسط المزرعة أو لأنه المكان المشرف على المزرعة من علو فتراه الطيور قبل هبوطها على الثمر، وهي مُحَلِقة في سماء المزرعة فيصيبها الخوف والذعر، فتحلق بعيداً عن ثمار تلك المزرعة كي لا تُعرِض نفسَها للإيذاء والقنص أو الصيد .
وتبقى هذه الفزّاعات على حالها هذا تتحمل لهيب حر الصيف، وبرد ومطر الشتاء دون أن تشكو أو تئن حتى تُمزِق رياح الشتاء العاصف أقمشتها وتَخطِف طاقيتها لتأخذها معها إلى حيث يتجه هبوبها ، أو يُبلِيها حر الصيف لتعود إلى حقيقة صنيعها قطع خشبية أو أعوادُ قشٍ تبدأ في التساقط مع مرور الأيام .
ويعود المزارع في عام جديد ليصنع فزّاعة جديدة في موسم زراعي جديد، دون أن يُشكِله ما تبقى من عيدان أو هياكل خشبية لخيال حقل عرّاه الزمن .