رحمّ القلب بقلم:سعيد أبو غــزة
تاريخ النشر : 2018-06-17
رحمّ القلب

الكاتب/ سعيد أبو غــزة

أوقات عصيبة من القلق الحزين تلف الممر المحاذي لقسم العناية المركزة، حيث ترقد أمه السبعينية المتهالك قلبها إثر عملية قلب مفتوح، مرَّ ثلاثة أيام و لا تزال خراطيم النجاة الطبية المتعددة مُعلقة بأجهزة الحياة الصناعية تحاول بث شحنات من الأمل لتجاوز الأوقات الحرجة.

لم يبرح مقعد الإنتظار الباردة لحظة، ما بين دمعات حارة تحرق الكبد و قراءة القرآن و تراتيل الأدعية لأمه الحبيبة، درجة إلتصاقه بها تعدت مرحلة العشق الرحمّي و القلبي وصولاً لدرجة العلاقة الملائكية المتوحدة.

في ساعة متأخرة من الليلة الثالثة توقفت نسائم الهواء الربيعية المتسللة عبر النافذة الخارجية، شعر بريح حارقة داخلية تصعد إلي صدره، وضع يده جهة شمال الصدر ضاغطاً، كان يشعر بأن قلبه يأن بحرقة، ما هي إلا لحظات ثقيلة حتى أُعلن عن عجز اجهزة الإنعاش الصماء من تحويل الموت إلي حياة، من ترجمة أنفاس الأم العجوز البطيئة إلي أهازيج فرح، توقفت أخر دقات القلب الذي حاول الصمود و الخروج للهواء مرة أخري.

ما أن تلقي الخبر حتى جثم على ركبتيه في ممر الأنتظار صارخاً كطفل صغير فقد جميل جلاسه و أبهي ناسه، صرخة شقت جدران المشفي، و إهتزت لها غيمات السماء الحالمة و باتت منزوية و بعيدة على غير المعتاد.

تقدمت زوجته العاشقة و إلتقفت جسده المتناثر من على الأرض، إحتضنته بقوة، بكي على كتفها، إنصهرت دمعاته مع مسامي جسدها اللين، وهبته كامل قلبها لتضمد جرحه الغائر شديد الألم بعد رحيل عاشقته الأولى. همست في أذنه و هما في حالة إحتواء و إلتصاق تامة داخل جسد واحد، تُلملم إرتعاشاته المجنونة قائلة:

كنا أنا و هي نُحبك بشغف لا حدود له،

هي إرادة الحي الذي لا يموت،

أنا الأن أُمك و حبيبتكَ و زوجتك،أنا أُمكَ حتى و إن لم أستحق، أو لم أقدر،

و لكنني سأحاول، سأحوّل قلبي لرحمّ لك.

لملّم دمعاته الساخنة الغزيرة و نشيجه المؤلم بعدما زاد من قوة إحتضانه لها قائلاً:

إنا لله و إنا إليه لراجعون، رضيت بكِ أُماً حانية و زوجة محبّة عاشقة، و سنداً بهياً متزنا، رضيتُ برحمّ قلبك سكناً يداعب رحمّ أمي، و رضيتُ بكتفكِ رفقة لا تزول.

هي إمرأة راقية المشاعر، و زوجة حنون عذبة الموقف، حوّلت دموع الفقد إلي عناقيد شهد عذبة، و جعلت من صدرها غيمة يرقد بها في طمأنينة و حُب.

هي تعرف أنَّ الحِمّل العاطفي ثقيل، كيف ستحل مكان أمه؟

أُمه لم تكن يوماً إمرأة عادية، قوية الشخصية و الحِجّة، ثاقبة التفكير، جميلة الكلام، بهية المبسّم، متوازنة الإنفعالات، قلبها يتسع بإنبساط الكرة الأرضية، جميلة الروح و الوجه، مُحبّة و عاشقة و متدينة.

كان يختبئ في حضن أمه حينما يتعثر فيزداد قوة و ثبات، يُحارب الياس بإبتسامتها ذات العذوبة التى تأسّر ألباب القلوب المتألمة، يري نجاحه في بشاشة وجهها، أي حُب يستصغره بالمقارنة مع شلالات أحاسيسها الدافئة العذبة، أُو مع حبه و عشقه الأول و الأزلي برغم حُبنا الجميلة الذي تزينه أُمه لكيلانا، يستظل بفيّ أشجارها الوارفة، كل إنجازاته و نجاحاته و إبتسامته الدائمة و عذوبة حياتنا الزوجية كانت بسبب رضي أمه.

أعرف أن المهمة معقدّة و لكنها غير مستحيلة، سأحاول و أحاول أن أكون أُمه لأني أُحبه و أُحب  أمه التى أصبّغت على علاقتنا وافر المحبة، ربما أكون خرير ماء لا يُسمع صوته إلا أنني متأكدة من عذوبته. سأكون أُمه الثانية و زوجته العاشقة لستمر الحياة السعيدة و الحُب إلي ما شاء الله.