فلسفة مبسطة: المضمون والشكل بقلم:نبيل عودة
تاريخ النشر : 2018-06-13
فلسفة مبسطة: المضمون والشكل بقلم:نبيل عودة


فلسفة مبسطة: المضمون والشكل

نبيل عودة

لا يوجد المضمون والشكل بمعزل للواحد عن الآخر، بينهما ترابط عضوي ويؤلفان وحدة متماسكة لا يمكن الفصل بينهما. اذن يمكن القول ان هناك ترابطا ديالكتيكيا بينهما.

فلسفات عديدة تميز بين المضمون والشكل من منطلق يقول ان المضمون والشكل يعبر كل منهما عن جانب مختلف عن الآخر ويلعبان دورين مختلفين في تطورهما. الفلسفة المادية (خاصة الماركسية) نقضت هذا المنهج بسبب ميتافيزيائيته (بعده عن الواقع الطبيعي للتطور) وقالت ان المضمون والشكل بينهما ترابط عضوي ووحدة لا تنفصم، يلعب فيها المضمون الدور الحاسم وللشكل استقلاليته النسبية التي قد تؤثر على تطور المضمون في مراحل تطور متقدمة فقط.

هذا يطرح تساؤل عن مبنى الواقع، ما هي الصفات المحددة التي تجعل الشيء لما هو عليه؟ بعض الفلاسفة الاغريقيين ميزوا بين صفات جوهرية وبين صفات طارئة. الصفات الجوهرية هي التي لا يكون الشيء بدونها لما هو عليه. اما الصفات الطارئة فهي تحدد شكل (صورة) الشيء وليس مضمونه.

مثلا تقييم زعيم دولة لا يتم على اساس شكله، مع ان للشكل تأثيره النسبي في قبول الجمهور له والتأثر حتى بفكره، انما التقييم الحاسم يجري بناء على فكره وما يقوم به من أعمال ملموسة.

خذوا طبيبا مشهورا، المئات لا يثقون الا به، شكله أيضا يوحي بالثقة، والشكل يتأثر نسبيا بناء على تطور المضمون وينعكس على شكل تصرفاته وتعامله، هذا الموضوع يعالجه علم السلوك، هناك اخلاقيات تكتسب من العائلة، الحي، المدرسة والوسط الاجتماعي، هناك أخلاقيات تكتسب من التربية، الثقافة والتطور الذاتي. لكن المضمون العملي او المهني او الفكري هو الجوهري. لنفترض اننا اجرينا عملية استئصال للعقل، يبقى الشكل كما هو، لكن مضمون الإنسان يختلف.

اذن شخصيه الفرد هي شيء له نوع من الخصوصية التي لا يمكن مقارنتها بأي إنسان أخر مما يجعل من كل إنسان شخص مميز بتكوينه وبصفاته ولكن الشكل لا يقرر تكوينه وصفاته إلا بشكل نسبي وغير جوهري.

قس على ذلك مواضيع أكثر تعقيدا تتعلق بتطور المجتمع البشري، حيث نلمس العلاقة المتناقضة (الديالكتيكية) بين المضمون والشكل. مثلا القوى المنتجة (المضمون) وعلاقات الانتاج (الشكل) هنا نلمس التناقض والصراع الديالكتيكي الذي يشكل قاعدة تطور المجتمع والانتقال من أسلوب إنتاج، مثلا من إقطاعي الي رأسمالي او من رأسمالي إلى اشتراكي. ..

تنتشر اليوم ظاهرة بين الفنانات بإجراء عمليات تجميل. هل تُغير عملية التجميل من موهبة الفنانة، من صوتها مثلا؟ الجواب بديهي التغيير يجري في شكلها فقط، لكن مضمونها، موهبتها، صوتها، تفكيرها وسلوكها يبقى كما هو. ربما يؤثر شكلها على زيادة جاذبيتها وارتفاع أجرها وعروض فنية اضافية ..لكنها تغييرات لا علاقة لها بمضمونها وبصوتها.

لجعل الموضوع اكثر امتاعا، ها هي قصة تعبر عن التغيير في الشكل وهل يترك أثره على المضمون؟

الشكل الجديد…

قرر مأمون بعد ان تقاعد من عمله كموظف بنك، ان يتحرر من أسلوب حياته السابق، ان يبدل لباسه الرسمي المقيت الذي تقيد به لنصف قرن تقريبا، حيث كان يضطر ان يرتدي بدلة وربطة عنق. قرر أيضا ان يغير شكل قصة شعره وترتيبه، أن يتخلص من نظاراته الطبية ومن الحذاء الأسود البغيض.

أولا ذهب إلى الحلاق وطالبه بقصة شعر شبابية وتغيير في تصفيف شعره بحيث يأخذ شكلا شبابيا، ثانياً ذهب إلى الخياط وأوصى على سراويل ذات تفصيلات رياضية واشترى سروالين مما يعرف باسم “الجينس” يظهره أصغر بعقد أو عقدين من السنين، ودع القمصان نهائيا واستبدلها ببلوزات رياضية مع صور ممثلين مشهورين مطبوعة على الصدر. ثالثاً قفز في طريقه إلى محل العطور باحثاً عن عطر يكثر استعماله الشباب ويترك أثره على النساء. رابعاً استبدل نظاراته الطبية المزعجة والتي تثقل على أرنبة أنفه بعدسات لاصقة، خامساً رأى أن بطنه بدأت تميل للانتفاخ بسبب الراحة من العمل والأكل الطيب، فانضم إلى نادي رياضي ليمارس الرياضة يوميا.

تأمل نفسه أمام المرآة ولاحظ ان عضلاته تقوى وبطنه تنخفض تدريجيا من الشهر الأول الذي بدأ يمارس فيه الرياضة مما أسعده وطمأنه أن حياته الجديدة باتت قاب قوسين أو أدنى من الانجاز. أخيراً انتبه أن أحذيته التي يستعملها تختلف عن موديلات الشباب ذات “البوز” الرفيع والطويل، فاشترى حذائين طويلي البوز وحذائين “نايك” لرياضة المشي!!

ماذا تبقى ليغير؟!

سأل نفسه مفكراً متأملاً شكله الجديد المنعكس في المرآة.

فجأة انتبه الى أنه ما زال يحمل نفس قلم الحبر القديم فسارع الى قذفه بسلة المهملات، طار راكضاً الى أقرب مكتبة يبحث عن قلم حديث ملائم لمرحلة حياته الجديدة.

هكذا أيقن أنه أنجز كل التغيير المرجو في حياته. صار يتردد على الحلاق اسبوعيا لتصفيف شعره بطريقة شبابية أضفت على مظهره شكلا جميلا، طلب كذلك من الحلاق ان يخفف شعر حاجبيه الكثيفين، “حتى بدون إذن من وزارة الزراعة” كما قال ضاحكا للحلاق ..

كان سعيدا بالتغيير الكبير الذي حققه بشكله وملابسه وبوجهه، حتى صار عاشقا لشكله الجديد، يقف أمام المرآة متأملا نفسه، مستعرضا نفسه من جميع الزوايا، سعيدا انه يبدو أصغر من عمرة بعقدين على الأقل وكأنه ولد من جديد. لكنه لاحظ أن الشيب في شعر رأسه بدا يزداد .. ولكل شيء حل .. سيصبغ شعره بلون أسود ملائم!!

ها هو يخطو بسعادة وثقة في الشارع، خفيفا سريع الحركات وليس متثاقلا كأنه عجوز تسعيني كما كان يشعر في أيامه الأخيرة بوظيفته البنكية.

كان خارجا لتوه من المحلقة بعد ان صبغ شعره باللون الأسود ليظهر أكثر شبابا اذ بصدمة قوية ترميه أرضا وآلام شديدة عنيفة تخترق جسده وتحيله كومة دامية أمام عجلات سيارة لم تنتبه إليه وهو يعبر الشارع  ..

عاد إليه وعيه للحظة فنظر إلى السماء متسائلاً:

– لماذا يا الله… الآن تقتلني وأنا في قمة سعادتي؟!

وجاءه صوت من السماء… لم يسمعه ألا هو:

– آسف يا مأمون، لم أعرفك بشكلك الجديد!!