ابتسامة الخالق والرحيل الأخير بقلم: محيي الدين ابراهيم
تاريخ النشر : 2018-06-08
( قصة ليست من وحي الخيال )
بقلم: محيي الدين ابراهيم
كاتب وإعلامي مصري

كان يداعبها بقوله: وجهك كأنه منحوت من ابتسامة الخالق .. حتى وأنت حزينة .. يظل وجهك .. وكأنه منحوت من ابتسامة الخالق ! .. تلقي برأسها فوق كتفه وكأن قلبها تحول لقلب ( نبي ) وهي تهمس في أذنه: معك .. أنت .. لا حزن .. ولا خوف .. تمسك بيده منبسطة لتضعها فوق أحشائها فيربت برفق على ثمرة حبهما معاً.
أنت بين الطغاة لا حيلة لك .. فالثورات تقوم دوماً بين طغاة وطغاة .. أحدهما حتماً سيستولي على عرش أخيه ..أما أنت .. تحت حكم من ينتصر .. ستظل كما أنت .. فالثورات وقودها أنت والحجارة .. أنت في كل ثورة .. هامش .. منسحق .. ضال .. ولو أشعروك بأبواق إعلامهم أنك تعيش ( من خلال حكمهم الرشيد ) هامش من حرية !!
حينما اشتدت وطأة الخلاف بين الطغاة والطغاة اندلع القتال .. لم يتركوا بيتاً إلا خربوه .. نهبوه .. حولوه لكومة من تراب بعد أن أخرجوا أهله من ديارهم.
المدهش .. رغم الحزن والموت الذي يحيط بالمكان .. كان وجهها .. وكأنه منحوت من ابتسامة الخالق ! .. حتى وهي خائفة .. يظل وجهها .. وكأنه منحوت من ابتسامة الخالق !
قرر أن ينجو بها .. لا أن ينجو بنفسه .. هذه المرأة الحياة .. لابد لها أن تعانق الحياة .. انطلقوا ( حفاة ) معاً .. هربا معاً .. كانا حتى تحت قصف المدافع معاً .. لا يحملان إلا جنيناً في أحشاء المستقبل .. وقليل من خبز جاف.
كان الظلام حالكاً .. وضاقت عليهم الأرض بما رحبت .. كانت خائفة .. كانت تتشبث بذراعه كما يتشبث الرضيع الجائع بثدي أمه .. ارتمت فجأة من شدة التعب والبرد فوق كثبان رملي .. تمنى لو مزق جسده ليدثرها به فيقيها من البرد .. وحين غفت وضع رأسها فوق ساقه وأخذ يتأمل وجهها النائم .. وجهها .. وكأنه منحوت من ابتسامة الخالق ! .. ( هي ) وقود الحياة الوحيد الذي سيعينه على الاستمرار.
حين استيقظت قرر حملها فوق كتفه ويسير .. هذا الجمال .. هذا الكائن ( الدقيق ) لا يحتمل مرارة السير في الصحراء .. سار بها يومين ( حافياً ) .. وكانت هي ( منغرسة ) في جسده بقدميها المعقوفتين فوق صدره من شدة الخوف .. وذراعاها ملتفتين حول عنقه .. كانت تصحو وتغفو وتطلب منه دوماً أن يستريح .. لكنه .. لم ينهكه حملها .. ولن ينهكه حملها .. إنما ما ينهكه هو فكرة أنه يسير على غير هدى.
كانت خطواته تتباطأ .. وقلبه يتسارع .. وحين أقترب الوقت من اليوم الثالث في منتصف الليل .. رأى عند مدى بصره نور .. قبس وكأنه الهُدى .. طوق نجاة وكأنه سفينة نوح .. خلود الجنة وكأنه في معية الصالحين .. جثا على ركبتيه حين سمع موتور سيارة تتجه نحوهما .. كانت نقطة عسكرية لحدود دولة مجاورة .. أنزل ( زوجته ) من فوق كتفه .. احتضنها وكأنه يخفيها ليس منهم ولكن من أي هاجس خوف قد ينتابها هي ويخشى هو عليها منه .. أخذ يرقب ما ستئول إليه الدقائق القادمة بإعياء شديد .. وقفت السيارة ووجهت أضوائها الأمامية نحوهما .. نزل منها خمسة جنود مدججين بالسلاح المصوب إليهما .. اقتربوا منهما .. علموا من هيئتهما ما هما عليه .. وما هو عليه وطنهم .. أعاد الجنود بنادقهم خلف ظهورهم بينما هرع آخر ليأتي بقارورة ماء للرجل الذي أهلكته الصحراء حاملاً امرأته فوق ظهره .. كان مازال ينظر إليها بكل العشق الذي يعرفه .. يحتضنها بقلبه .. بحواسه .. بروحه .. كان لا يريد أن يتشتت بصره بالماء الذي أتاه الجندي عن رؤية ذلك الوجه الذي لطالما عشقه عشق الخالدين .. حاول الجندي أن يضبط من جسده المنهك ليلقي في فمه بضع قطرات من ماء .. كانت عيناه جامدتين على وجهها لا تبرحانه .. كانت عالمه الذي لا يريد أن يغادره .. كان وجهها الذي لطالما رآه وكأنه منحوتاً من ابتسامة الخالق هو آخر ما أراد أن يحتضن رؤيته قبل رحيله الأخير .. مبتسماً وهي فوق صدره تبكيه بينما كفه الأيسر منبسطاً ناعماً فوق أحشائها .. فوق ثمرة عشقه الوحيد .. في وداع صامت .. وقصة لا يعرفها أحد !!