بين طاولتين بقلم: أمان السيد
تاريخ النشر : 2018-05-16
بين طاولتين
من أجمل الكتابات تلك التي تهبط عليك تفاصلها دون أن تبحث عنها، وتسري إليك كما تسري المياه في شقوق أرض تقابلها، فلا تستطيع عنها انزياحا.
 هذا ما حصل ذات يوم، وكان أن اصطادته أذناي حديثا بين شخصين عربيين كأنهما تقصّدا أن يكون حديثهما مسموعا، يشاركهم فيه جميع من في المكان، أو على الأقل من يتصيّدون أفكارا للكتابة مثلي.
 شعرت من صوت أحدهما الذي طغى في الحديث واستعراضه لمعلومات وتاريخ قديم أنه  يتسلّط على محادثه، الذي خَفت صوته حتّى كاد ينعدم، غير أني ما لبثت أن صحّحتُ ما اختلط علي، لأنّي عندما انتقلت إلى مجالستهما رأيتُ أنّ ذاك الطرف الخفيّ حريّ به أن يَخفت، ولا سيما حين يحمل عقلا يتربع جسده بتحجّر مطلقٍ إدراكا، ووعيا.
 عقل استبان أنه لم ينفتح يوما إلا على ما استوطن فيه، ولم يحاول مرة أن يستشرف ما يُخيّم فوق رأسه من الظلال، وما يجب أن يتلقاه عقل إنسان عن عقل آخر قَدرهما تَشاركُ الإنسانية.
  رمضان، واستقباله ما بين القديم والحديث في أستراليا كان مضمون حديث جاذب لشخص يهوى الاستغراق في الذاكرات البشرية بين قديمها وجديدها، وتحليل ما في ذلك انتهاء بالإنسان الذي في ُمسلّماته لا يمكن أن يكون إلا الإنسان المشتقّ من الآخر، والمنهمر الممتزج فيه، منهما عرفت أمورا جميلة أكّدت لي التّصافي الأزليّ الذي عايشه العرب القادمون منذ أكثر من ستين عاما فوق أرض لم تميز بينهم، ورَعت العدالة الإنسانية في تسيير أمور قاطنيها ومواطنيها، كما كان يتداول ذلكما الشخصان في حديثهما الذي جذبني للمعرفة أكثر عن طريق مشاركتهما الطاولة ذاتها، في استفسار وتحليق حول ممارسات وطقوس المسلمين في معرفة استهلال الصوم ليباشروا صيامهم، حين لم تكن هناك دور عبادات قد أنشئت بعد للعرب مسيحيين، ومسلمين، ولم يكن ذاك التّشرذم الطائفيّ قد شبّ، واستشرى كما اليوم جاعلا الكثيرين يكتوون بنيرانه، ويتشدّقون ويجاهرون به في ممارسات واضحة ظهرت بالحرص على الخارج أكثر من ترسيخ المضمون المشترك مما أدّى بهم إلى الانزياح، والعزلة، والفردية في تشويه لكثير من مصافي، ومنابع الجمال الطبيعيّ الفطريّ الذي ألّف بين أفئدة البشر باختلافهم.
 يُخبر ذو الصوت الجهوريّ من المتحدِّثيْن أنهم كانوا يتحرّون عن القمر من السفارات العربية التي اتفقت على إرشادهم أنّ الحكومة الأسترالية قد حددت رقما معينا للتواصل يمكّنَ المسلمين من معرفة أحوال القمر، وظهوره، ومتى يبدأون صيامهم، وفي ذلك أدلّ التّأكيد على الاستواء وقتها في طقوس عبادة صار الكثيرون يخالفون بعضهم في موعدها، وتأكيد ميقاتها رغم أن التكنولوجيا قد وفرت الأمر وسهلته عليهم.
 ولكن، هنا للأسف يبدأ صراع واضح بين الطرفين المتحاورين، وليته كان قد توقّف عند خلاف فكري يتقبل الرأي الآخر ويحتفظ لنفسه برأيه، في الحرص على تسالم وسلام بشريين في مجتمع تؤججه المتناقضات المبنية اليوم على المصالح السياسية التي جعلت وقودها الديانات والملل، لكُنّا اعتبرناه أمرا عاديّا، فالمتحاور ذو الصوت الخافت كان له رأيه الخاص الذي لا يرفضه محاور يعتزّ بحرية فكره، حين يبرر أن تكاثر القادمين إلى الدولة بما يحملون من النّزعات هو الذي شوّه المكان، وحرمه من تلك الطمأنينة القديمة، ولكن أن تكون لذي الصوت الخفي هذا رؤيته  التي ينفردُ بها تحوله إلى ثور وحيد في حلبة المصارعة حين يقفز إلى ما يجري للأرض السورية من تدمير وتقتيل وإبادة في تحليل أن كل ما يلحق بذاك الإنسان السوري ما هو إلا تركيب صور وتأليف مشعوذين ومتطرفين، وأنه يستحقّ كل ما يجري لأنه خطر له أن يجاهد في الخلاص، والانعتاق من سجن يرى المتحدث أنه  يليق به وبالعرب الذين ثاروا طالبين الديموقراطية والتغيير، والذين هم برأيه لا يستحقون إلا الدهس، والاستذلال، ثم أن ينسحب الرجل بحدة، وهو يوجّه السهام إلى مجالسيه بالاتهام والتشنيع، ويُنَسّبهم  إلى جهات مجهولة  غمضت انتماءاتها إلا عليه، جعلت من لقاء انتُظر منه أن يكون إنسانيا خالصا شبيهًا بحربٍ يُجلد فيها صاحب الضمير الحيّ الذي إما أن يرضخ للرأي الوحيد الذي بنى باطونه المسلّح في فكر ذي اتجاه محتوم، وإما أن يكون العاصي المتطرف الذي يعمل في الأرض تخريبا وتشويها. هذا المتحدث الذي لم يتقبل منك أن تكون إنسانا تحمل ضميرا يدفعك للشعور بأخيك الإنسان أينما كان، وأصرّ على أن ترضخ لمن يستعبدون فيك الطّلاقة، ويَجزّون جناحين خصّك بهما خالقك لتحلّق مرتقيا مع شبهائك، ويقتلون فيك أية صرخة أو نظرة إلى السماء، ماذا يمكنك أن تقول فيه؟!
 ثوانٍ فيها تُدرك أنّ على الطاولتين أن تعودا إلى الافتراق، كما الأوطان المبعثرة، وكما الضمائر البشرية التي حكمت على نفسها بالفناء حين تقتلُ فيك إنسانَك.