التصوير الصحفي من الصورة إلى الرمز اشتباكات الفن ومجازات الرؤية
يتعامل المتلقي وأغلب المصورين مع الصورة الفوتوغرافية كعنصر تثبيت يسجل اللحظة ويجمد مواقيتها على الذاكرة، باختلاف التعابير والحالات وتلون التفاصيل.
غير أن الرؤية التي تقدمها اللحظة في التثبيت تنفلت بشكل جمالي، يرتقي أحيانا بدور الصورة من عنصرها التسجيلي إلى حضورها الجمالي الفني ذي الماورائيات الصاخبة بالمعاني، وهو ما يعكس التوجه الذي خاضه المصورون في العالم حيث تحوّلوا بالصورة من اللقطة إلى اللوحة بين التجريد والترميز والسريالية، فالتصوير يبدأ بالكتابة بالضوء ويتحول إلى رسم الضوء وهي مفارقة مدهشة الإثارات الحسية التي تتلاعب جماليا بوظيفة الصورة الأولى من التسجيل إلى الفن ومن اللقطة إلى الحكاية ومن التنفيذ إلى المشاركة.
وقد عرف مجال التصوير الصحفي تحولات كبرى في توجيه مسار ووظيفة الصورة التي تحملت الخبر وعوّضته ثم صارت هي نفسها الخبر والقراءة البصرية فخلقت هوسا وشغفا حسيا باقتناص المشاهد وأبعادها وأعماقها بعيدة المدى بحيث تشكّلها لتصبح إرثا فنيا تعرضه أكبر المتاحف في العالم يعبر عن تصورات فنية معاصرة.
وفق هذه الصياغات انفلتت الصور من مواقيتها ورسمت لها تفاعلات سرمدية لا تنفصل عن الواقع والحدث ولكنها تعبر عنه برمزياتها الجمالية وعلاماتها البصرية وتثبيتها للمقاييس الفنية كما يبدو مثلا مع مصورين اختاروا اقتناص اللحظة المنفلتة في الواقعية المفرطة برمادياتها المتعبة في الحروب والمخيمات والملاجئ، وهو ما نلاحظه في التجارب التي خاضها المصورون في لبنان في فترة حساسة من الواقع اللبناني فترة الحرب الأهلية واحتلال وتحرير الجنوب وتحرير معتقل الخيام حيث اختار المصورون أن يكونوا في قلب الحدث بحثا عن معنى يجيز للصورة الانفلات من جمودها كما فعل المصور جورج سامرجيان الذي تماهى مع الصورة ليصير حدثا حيث غامر بحياته، والمصور بلال قبلان ومحمود الزيات فهم جزء من شغف كامل بلحظات عانقت الإنسانية ومشت على ذلك الخيط الرفيع الفاصل بين الحياة والموت.
إن الصورة الفتوغرافية بكل توظيفاتها هي المخيال الاجتماعي الذي يخاطب الحواس والفكرة ويستفز تراكمات الواقع سياسة واقتصاد ثقافة وسلوكيات ومواقف بلغة متعددة المفاهيم تلك التي أراد محمود الزيات التعمق فيها وبحث في زواياها التصويرية ليجدد البلاغة السردية والوصفية التي لا تكتفي بتوثيقها بل تقدمها في شكل رسائل رمزية وعلامات فنية ثرية وحية الذاكرة التي تتأمل التاريخ وتراوغ لحظاته المعتمة بنورها.
فحيث ما تكون الصورة تكون الحياة ويتفاعل الحضور مع كل المشاهد والمعايشات التي تتعمق في المستجدات وتقتنص لقطاتها لتثبتها على الرؤية التي تتحدى البعد الزمني لدرجة التنبؤ بماورائياته وأحداثه.
فمسيرة الصحفي سواء عند الزيات أو بلال قبلان تتجاوز مجرد تصوير مشاهد لنقل خبر بل تصل درجات امتلاك الحس الفني لأن علاقة المصور بالمشهد ليست بحثا عن الصور الجاهزة بقدر ما هي رصد وترصد تعمق نفسي يبتعد عن الكلاسيكية المتعودة فهو يبحث عن الحالات وروح الصورة الساكنة في تفاعل الضوء والعتمة حكاية إنسانية تحكيها العيون العلاقات الأمكنة الوجوه، تماس المعاناة مع الواقع والتمسك بالحياة تلك الابتسامات التي تظهر رغم الحزن تلك البراءة التي تستقر رغم القهر، تناقضات تصارع فكرة البقاء وتحافظ على ألوان الحياة حتى لو لم نكن نراها كمتلقين وهذا يحمّل الصورة عمق جماليا مفرط التداعي.
أما مسيرة المصور جورج سامرجيان فقد كتبت الصورة بمشهد عانق الحياة برمزية صارعت الوجود بالخلود لتبقى الصورة شاهدة والمصور شهيد في تفكيك العلامات ورموز التوافق الحسي بين أن يلتقطنا المشهد وأن نلتقطه وتلك المفارقة الحية التي لا تفنى.
الصورة وثيقة للتاريخ تقرأها الأجيال القادمة لتفهم الماضي الصورة عمق اقتناص الحياة في عتمة الواقع بتلك الكلمات كان سامرجيان يفسر شغفه بالصورة تلك العلامات البصرية التي لا تعيقها حواجز اللغات تلك التي تعبر نحو الإحساس وتسكن ثنايا الذاكرة.
يعتبره زملاؤه صياد اللحظات المختلفة وقناص المشاهد الغائبة في ضباب الصورة ومروض التناقضات. ربما لم سامرجيان أو المصورون الصحفيون يدركون أنهم يصنعون فنا معاصرا له مقاييسه وأبعاده ومفاهيمه التعبيرية لأن من يعيد التأمل في الصور يقع على مفاهيم وجودية وتتفجر داخله أسئلة تلامس الجماليات الحديثة ودرجات التفوق على الواقع بحثا عن الرمزيات وتفسيرا للغموض الفني المقصود والمكمل للرؤية.
فتحول الصورة الصحفية من اللقطة إلى اللوحة أو الرؤية الفنية واندماجها مع الفعل التشكيلي في الفن هو فعل دقيق يحوّل الواقع إلى الخيال ويكسبه درجات أبعد في فهم المشهد الفكري للصورة فالتفاصيل التي تُرى مملة في الطرح الاخباري والصور التي تحتل الجرائد في فترة تعبر عن مأساويات واقعية عبثت بالمعنى تحولت إلى طقوس ترتب المفاهيمية المتدرجة بالجماليات المنثورة وفق مقاييس إنسانية المعاني إذ تتسلق الذاكرة بالإحساس والفكرة بالرمز.
إن تحديد قدرة الصورة بمقاييسها على التعبير الواقعي هو رؤية النور في الحياة الذي يعني الصورة والتشبث باللقطة التي تحيل على الموقف الجمالي من ذلك الواقع لتتحدى الزمن فاقتناص الصورة واقتناص الفكرة ليس وليد الصدفة بل هو احتكاك بالوقائع واندماج داخلي معها بحركة تنسجم في عمق الحدث والصورة وفكرة تتنبأ بالرؤى الماورائية فالكاميرا ليست أداة تسجيل للصورة بل أداة توثيق فنية وجمالية خالدة لا تنتهي بنهاية الحدث بل تعبر عن طاقات فنية ثرية تتجاوز اللحظات العابرة لتتحول إلى لغة بصرية شاهدة على تلك اللحظات وتولد معها أفكار تحاور روح اللقطة التي تحمّل الصورة مزايا جمالية تحاكي إنسانية عميقة.
*الأعمال المرفقة:
البنك اللبناني للصورة
محتف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Lebanese Photo Bank
Farhat Art Museum