الشاعر سرجون كرم: عمليّة البحث عن الإنسان أو عمليّة بناء الإنسان لا زمن نهائيًّا لها
تاريخ النشر : 2018-04-28
الشاعر سرجون كرم: عمليّة البحث عن الإنسان أو عمليّة بناء الإنسان لا زمن نهائيًّا لها


حاورته آمنة وناس

السلام عليكم
و عليكم السلام
مازالت تقاسيم ملامحك، أيها الحرف، تناغم حواسنا، و قد ابتسمت لنا خطواتك، تحثنا للوصول إلى هناك، إلى عطر ملأ الطريق، عرّفْتَه بأنه إحساس توغّل في دواخله الرحيق، ليطرب أنفاسنا ببوح عميق، بين فرح و شهيق. يلوّح لنا قلمه، لننهل من أثر شُبِّع  من روح قصيدة، بين بسمة و تنهيدة، لنحط الرحال في حدائق الوجدان، فنختلس من تأمّله معاني وليدة. نتبع حبر مرقمه المتسلّق لعروق الورق، الراوي لشعور بين نزفه انعتق، و نحو الترحال تسرع بنا وشوشاته الرزينة. هو الذي بثقافته بنا مسافر، لعوالم الذات و الآخر، لنقطف من المعارف نصيب وافر، هو الذي راسل الحلم، بإرادة لبلوغه تبتسم، و من بين مخالب الواقع يكسر قيود العدم، هو الشاعر و المترجم اللبناني "سرجون كرم".
مرحبا بك سيدي
أعطيتني أكثر مما أستحق في المقدّمة، عسى أن أكون على القدر المطلوب

س يعتقد الشاعر اللبناني "مكرم غصوب" " بان الشعر هو فعل تجاوز اللغة باللغة، فأحاول أن أعبر بالكلمة إلى أعماقي والمدى في آن، فتصبح كلماتي مخبأ أسراري وتذوب الكلمة في صمت دائري حلزوني يحملني إلى أعماق الوجود والغياب"، بين شاعر و شاعر، ما مدى توافق هذا الإحساس مع عاطفة الشاعر "سرجون كرم"؟
ج بصراحة هاجسي الدائم أن أجيب عن هذا السؤال: ما هو الشعر، طبعا كتب التراث ودراسات الحاضر مليئة بمحاولات تعريف الشعر، أنا لم أختر أن أكتب الشعر ولم أحاول يومًا أن أجبر نفسي على كتابة حرف، لقد خرجت مني القصيدة من دون استئذان وربّما ولّدت لديّ القناعة بأنها إلهام لا علاقة لي به في البداية، وكأنّني لغة تخرج منه لغة. أحيانا أسأل نفسي هل أنا واسطة لهذه اللغة، وفي كل مرّة أضع تعريفا لنفسي، تعريفًا للشعر وأعود عنه بعد فترة.

س يرى الفيلسوف و الكاتب الروماني "إميل سيوران" بأن "في الشعر يستبعد الزمن، فإذن أنت خارج الصيرورة"، كيف يستطعم الشاعر "سرجون كرم" هذه الأريجة؟
ج نظريّات الشعر مذاهب، أنا أؤيّد فكرة طائفة "التقويّة" الألمانيّة التي كان ينتمي إليها الشاعر الألمانيّ هولدرلين، بأنّ الشعراء والأنبياء على درجة واحدة من السلّم. نعم عندما تبدأ القصيدة ينفتح مندل السماء أو مندل الرؤيا والإلهام والحاسّة السادسة، فلا نعود في الزمن، بل نصبح فوقه، ويصبح الماضي والحاضر والمستقبل تحتنا شريطًا لا زمن فيه.

س عندما تبحث القصيدة عن دهشتها في جنان الشاعر "سرجون كرم"، إلى كم من انطلاق تلوّح بصمتها و تبتسم؟
ج القصيدة لها آفاق متعدّدة ولكنّها تحتاج إلى قاعدة في نفس الشاعر، فكلّما كانت القاعدة صلبة كلّما استطاعت أن تندفع في انطلاقها. قاعدتي التي أبني عليها مدفع الانطلاق أنّني أكتب بلغة عربيّة، ولعلّ البعض من شعراء الجيل الجديد لا يعرفون ما معنى هذه الكلمة "عربيّة". بعكس جميع لغات العالم التي تسمّى لغتها على اسم شعوبها، فإنّ معنى لفظة "عرب" أو أعرب، أي تكلم بالفصاحة وعبّر عن رأيه. وبهذه اللغة أو بمصدرها السامي أمسك الله بحرف الكاف بيد، وبحرف النون بيد أخرى، وحين ضربهما ببعضهما البعض خرج ما يُرى وما لا يُرى من الأكوان. دهشة القصيدة تكمن في المشاركة في عمليّة خلق، بغض النظر عن الموضوع الذي تعالجه. إنّها الحرف الذي لا يزاد عليه ولا ينتقص منه.

س "حين تبدأ القصيدة، روحي بساط طائر، يغني للفرح على سطح الخراب"، ما شمائل السيمفونية التي تطرب لها أنفاس القصيدة عندما تتبعثر في دواخل المغترب "سرجون كرم"؟
ج بدأت حياتي بالقصيدة المأزومة، القصيدة الضاجّة، قصيدة التحدّي، القصيدة التي لم تكن ترى إنسانا سواي، وهذا الأمر مبرّر في عالم كالعالم العربيّ، حيث لا أفق مستقبليّ وحياتي. الصراعات السياسيّة، المشاكل الاقتصاديّة، الخوف من السلطة أو تحدّيها... هذه أمور من الصعب أن تولّد قصيدة لها نافذة تطلّ على آفاق الإنسانيّة. الاغتراب بالنسبة لي لم يكن سوى اغترابًا بمعنى الانتقال الجسدي من أرض إلى أخرى. بعد عشرين عامًا لم أشعر بما يسمى بالحنين. العالم أضحى قرية صغيرة ويمكن التوجّه إلى حيث نريد. ولكنّ الحياة في المغترب أبعدتني عن الجوّ الضاغط الذي يعيشه الشباب في العالم العربيّ عمومًا وفي لبنان خصوصًا. هنا أضحى لقصيدتي الوقت والفرصة أن تفتح أبوابها. أحيانًأ يؤلمني التكرار في اجترار الألم والمعاناة في القصيدة العربيّة من دون أن تحضّ الإنسان على القيام بشيء. من دون أن تكتب الإنسان الذي يجذّف إلى مصيره العامّ. رغم أنّ أسلوبي في الكتابة تغيّر عن بداياتي ولكنّني ما زلت أحمل شيئًا منها وهو عدم الاستسلام حتى ولو كنا نجذّف إلى الهاوية، فلتكن أرواحنا حرّة ترفرف فوق الماء. وأشير إلى أنّ حياتي لا تختلف عن أية حياة شاب عربيّ سواء أكان في الوطن أم في المهجر من ناحية الهموم الشخصيّة والسياسيّة والاقتصاديّة.

س الإنسان "سرجون كرم"، بين البحث و اللاوصول، أين يترجّل؟
ج لا أترجّل، ربّما أقوم باستراحة في محطّة الأمل. فكرة "الوصول" بحدّ ذاتها هي كفكرة نهاية العالم بالنسبة لي. قد يبدو غريبا إن قلت أنّ لا مثلَ أعلى لي بين البشر، فالمثل الأعلى هو ما لا يمكن الوصول إليه وتخطّيه. أنا أبحث عن ذاتي وأبحث عن الإنسان بقيمه الأخلاقيّة، فقط الأمل والاتكاء على ذراع الرؤيا يعيد الاندفاع إلى أوّله.

س "رؤاي مطر يسرق الأنغاما"، متى تكون رؤياك وتر يمسح القلق عن الأوزانا؟
ج لا أخفي عليك أنّ عددًا من قصائدي ترجمة لأحلام ليليّة، ربّما هي الرؤيا بالمعنى الدينيّ أو العقل الباطن الذي أوحى لي بأمور تشغل بالي في اليقظة. القلق في القصيدة هو هاجسها أن تجمع بكلمة أو بكلمات محدّدة معان وعوالم. عندما أعبّر عن عالم أفكاري بذاتها لغةً، حينها يتداخل كل شيء مع بعضه البعض، اللغة والفكرة والموسيقى.

س بين اللغة و اللغة، كيف يسافر بنا إحساس احتضن الشاعر و المترجم؟
ج الترجمة علمّتني الكثير، طوّرت نصّي بشكل كبير أيضًا، علّمتني أن أحترس من أن أضع كلمة زائدة في النصّ لا يمكن كشفها إلا على مشرحة الترجمة. الترجمة علّمتني أيضًا كيف أكون عالميّا وإنسانيّا في مشاعري وأحاسيسي. حين أنقل نصّا شعريّا ليس لي لا أتعامل معه من باب الحسد والغيرة كونه ليس نصّي. بل أعمل عليه كمترجم من باب الأمانة العلميّة وكأنّني أنا من يكتب هذه القصيدة.

س " دع قلبك في مكانه، و أنصت إلى مغيب لا يغيب"، إلى أين تحملنا دندنة غرفت من الأعماق زهرة و فراشة؟
ج الزهرة والفراشة هما عالمي الأوّل، عالم الطفولة، عالم الفطرة الأولى، أنا من جيل بلا طفولة وبلا شباب، ولدت قبل الحرب الأهلية بخمس سنوات، وكبرت فيها و تهجّرت مع أهلي فيها وعشت الخوف والأهوال فيها. ربّما أجبر قلبي على أن يبقى عالقا في هذا الزمن الطفوليّ الذي أحاول العودة إليه واختباره وعيشه كي لا يستفيق في الرجل الذي أضحيته فجأة قاتل أو ضحية.

س "أعدني طفلا"، هذا الانطلاق، إلى كم من إحساس معه؟
ج هذا ما عنيته بالضبط في إجابتي السابقة، لو قدّر لي العودة لأحرقت كل هذه الإيديولوجيات والأفكار والآراء التي سبّبت الحرب والموت، وأبني عالمي من جديد بقلب طفل وعزيمة رجل جديد.

س هل نفهم من عاطفتك هذه تواصلا مفتوحا نحو إحساس "إميل سيوران" عندما يؤكد "أعيد بناء نفسي من الداخل، أنا الغريب، و أنا المسافر، و أنا العائد، و أنا المستمر مع نفسي حتى النهاية"؟
ج الإنسان هاجسي، أنا إنسان مؤمن في الدرجة الأولى ولا أحبّ الالتزام والارتباط في الدرجة الثانية. في كل خطوة أخطوها أحاول أن أبني الإنسان فيّ. أحمل في داخلي نجما مؤيدا بالفطرة والإلهام وكذلك بالتقنيّة، يدلّني على الطريق ولكنّه لا يقول لي أين أتواجد. من عاداتي الصمت طويلا والسفر طويلا والمشي طويلا، هذه الأمور الثلاثة تعنيني عن قراءة أي كتاب أو سماع أيّة أغنية. القصيدة تبدأ عندما أمشي وأتأمّل لا عندما أقرأ. أحيانا أفكار الآخرين تزعجني فلا أقرأها عندما أشعر أن زمن الكتابة اقترب.

س "يرتادني أبّدُ التواشيحِ المعتّقِ في الهزائمِ والطبولِ"، كيف يلفّه وشاحك المحدّق في الرفض و القبول؟
ج هذا السطر يعود لقصيدة كتبتها عام 1997 وكنت في حالة أخذت فيها القرار بمغادرة لبنان نهائيّا وحضّرت نفسي إلى الانفصال النهائي مع كلّ شيء: العمل السياسيّ والعلاقة العاطفيّة، فكانت قصيدة "الموعد" آخر قصائدي التي كتبت في لبنان، كمن يرتّب مكتبه ويغلق الباب وراءه ويرحل، فقط ما تبقّى من ذكريات فيه ينكأ ضميره.

س "تحاول أرض أن تموت"، شروق الأرض يسارع في الذهاب، تنبش أظافرها الفصول، لا خريف و لا شتاء، فإلى متى؟
ج عمليّة البحث عن الإنسان أو عمليّة بناء الإنسان لا زمن نهائيًّا لها، ترافق صاحبها حتّى مثواه الأخير. في الإنسان دافع يجبره على أن يحتار لنفسه مثلاً أعلى، البعض يجده بين البشر الفانين، وهنا برأيي يكون قد انتهى طموحه وجهاده، والبعض الآخر يجده في شخصيّات دينيّة. كما قلت أنا مؤمن جدّا ولكنّني لستُ متدينا. فكرة الخلق من العدم، خلق العالم من العدم وخلق القصيدة من العدم ومن اللاشيء تجعل الخالق مثالي الأعلى. الأرض ستموت لأنّ إنسانها اختار الحروب والحقد والقتل. هذه الأرض التي نعرفها يجب أن تموت بالمعنى المجازي لتشرق الشمس والفصول بحلّة أخرى.

س حدّثتني الأرض أن الساعة لا تتوقف، و أن الحقيقة للحلم تتأسف، ما مدى توغّل هذه الفكرة عبر ذات الحالم "سرجون كرم"؟
ج أنا إنسان واقعي جدّا لأحمي نفسي من الحلم. أعرف كيف أفصل جهازي العصبيّ عن وطأة البحث عن الحقيقة. هناك أمور يجب أن نسلّم بها كما هي وإلا سنصاب بالجنون أو الهذيان أو الانفصام في الشخصيّة. ربّما في كلّ ما أتخيّله لحلمي هو أن يدور حول عالم يعمّ فيه السلام المطلق.

س يؤمن الشاعر اللبناني "جبران خليل جبران" بأنه " بالقلب نحب، و بالعقل نكره، و بالاثنين نصاب بالجنون"، ما الوصال الفاصل لعاطفة الإنسان "سرجون كرم"، بين الحب و الكره؟
ج لا أعرف الكره بمعنى الحقد، بل بمعنى مجّ أشياء وأشخاص لا تعجبني. لا أستطيع أن أكره إنسانًا لأنّني أشفق على الإنسان، هذا الكائن الذي يظهر نفسه بمظهر الجبّار وهو من الداخل ضعيف ومعقّد وأحيانا شاذّ في أفكاره. أحب بعقلي وقلبي وأبتعد بعقلي وقلبي وهذا ما يمنحني صبرًأ طويل النفس كوني أجد لا سبعين حجّة للآخر بل مائة ربّما ولكن عندما أستدير لا أعود أبدًأ، وفي كل حال أرحل بدون حقد، بل بكلّ ما بي من شعور للشفقة.

س عندما تغفو تجاعيد المحبة في وجع الواقع، كيف تحرّرها قيود اللامكان؟
ج عندما تغفو المحبّة يعني أنّ هذا الكون فقد كل الخيوط التي تعلّقه في هذا الهواء، فيصبح المكان زمانا ولامكانًأ. رغم كلّ الآلام في هذا العالم يجب أن نتعلّق بالمحبّة ونجبر أنفسنا إنسانيّا أخلاقيّا على التعلّق بها.

س أرافق صمتي نحو الابتسامة المجهولة، لأعبّئ شوقي بالمحبة، كيف يكون الشوق المروي بالمحبة؟
ج هناك من أجاب عن هذا السؤال إجابة رائعة. أدين بدين الحبّ أنى توجّهت ركائبه... فالحبّ ديني وإيماني. لا أعرف ما إذا كانت القصيدة تكتب دائمًا بالمحبّة، ومنذ ثلاثين عامًا لم أشعر أنّني في حاجة إلى أن أكتب قصيدة إلى امرأة لكي أعيش تراث قيس أو عمر بن أبي ربيعة. أمّا على المستوى الشموليّ حيث تكون المحبّة يكون الله.

س متى يقطف المُحِب "سرجون كرم" النبض من نشيد الروح، حتى يُطْرَب الغد من عزف اليوم؟
ج لدى كلّ شاعر حاسّة تجعله يلتقط الاهتزازات التي تتوافق مع أفكاره وكيانه ومستواه الفكريّ. أنا أكتب الإنسان في اللحظة التي أرى فيها نفسي أني أتكلّم من وراء مقبرة. هذه الحياة الأرضيّة ستنتهي، وسينتهي معها كلّ هذا الجهاز العصبيّ الذي يحسب حسابا لكلّ شيء. حين أضع جهازي العصبيّ جانبًا أحمل الماضي وأرى الحاضر تحتي والمستقبل أمام عينيّ. وكم من فكرة كتبت وكانت كأنها رؤيا أو نبوءة.

س إذا ما تلعثمت أوصاف هذه الفكرة بين أقدام الوجدان، كيف تواصل إلى هناك؟
ج الفكرة وحدها لا يمكن دائما عدّها شعرًا. التقنيّة دائمًأ ضرورية ومتلازمة مع الفكرة. التقنية وحدها تقدّم نصّا جافّا والفكرة وحدها يمكن أن تدخل في رصف سوريالي، ربّما أصحابها أنفسهم لا يعودون يفهمونها. الفكرة والتقنيّة هما جوادان لعربة الشعر، فإن تلعثم أحدهما يجب على الآخر أن ينتظر صاحبه حتى يلتقط أنفاسه.

س أنفاسنا المبعثرة على قارعة الذاكرة، أين اللامسافة لتلتقطها؟
ج لا أعرف، لا أتذكّر كثيرًا من تفاصيل حياتي. في العشرين سنة الأولى من عمري ليس هناك شريط ذكريات طويل لديّ. كما أنّني لا أؤمن بالنظريّة الوجوديّة في زاويتها العبثيّة. أعيش إنسانًا عاديّا بتفكير بسيط في الأمور اليوميّة والعلاقات العامّة، وأتمتّع بقدرة أن أفصل بيني وبين النصّ حين يكتب. بكلمة أخرى الشاعر فيّ هو ليس الوجوديّ الذي ينظر إليه الناس على أنّه معتوه أو مجنون أو يعيش في عالم آخر، أنا أحيا حياتي بكامل جمالها.
لك كل الحياة، شكرا لك الشاعر و المترجم "سرجون كرم" على حسن تواصلك و رقي لفظك و إلى لقاء آخر إن شاء الله
أنا الذي أشكر نبلك ورقّتك يا ابنة إليسا