غارات عابرة أم تغيرات محتملة.. قراءة في دوافع وأهداف الغارات العسكرية على سوريا بقلم:د.عبدربه العنزي
تاريخ النشر : 2018-04-21
غارات عابرة أم تغيرات محتملة.. قراءة في دوافع وأهداف الغارات العسكرية على سوريا
د.عبدربه العنزي
أستاذ العلاقات الدولية-جامعة الازهر-غزة

من المشكوك فيه أن الغارات الثلاثية (الامريكية-الفرنسية –البريطانية)  اهتمت بتطبيق واحترام ميثاق الأمم المتحدة وحقوق الانسان، فالناظر للمشهد السوري يتأكد أن هذه الغاية لو كانت حقيقية وجادة فإنها ستكون قد نُفذت منذ أول انتهاك ارتكبه النظام السوري قبل سنوات. خاصةً أنها ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها النظام السوري الأسلحة المحرمة دولياً.
إن التحليل السياسي لهذه الغارات يأخذنا إلى مستوى أكثر تعقيداً  للحالة السورية والأطراف المتورطة فيها بشكل خاص. وإلى إقليم الشرق الاوسط  بشكل عام. فالغارات تبدو تحولاً متقدماً  للموقف الغربي وعلى رأسه الموقف الأمريكي. غير أنها في الحقيقة لم تصل إلى درجة التحول الفعلي على صعيد الجوهر. فالمعادلة –ميدانياً- ستبقى كما هي على المدى المنظور والمتوسط. بحيث سيظل النظام السوري وحلفائه الرئيسيين (الروس والايرانيين وحزب الله)  محافظاً على تفوقه العسكري الميداني وعلو كعبه على كافة الفصائل والميليشيات المسلحة المعارضة في سوريا.
وربما من السذاجة بناء مواقف وتقديرات سياسية  تتوقع تغييرات ميدانية محتملة لموازين القوى في الأزمة السورية بعد هذه الغارات. بيد أن هذه الغارات العسكرية الثلاثية لم تمثل ردعاً  عسكرياً حقيقياً  لقوة النظام السوري وحلفائه على الارض. وأظن أن الغارات العسكرية تتجاوز شعارات السياسة الأخلاقية الدولية ومعاهدات حقوق الإنسان التي صدحت بها المؤسسات الدبلوماسية ووزارات الخارجية  للدول الثلاث.
في الواقع، تتضمن هذه الغارات حمولات ودلالات سياسية أكثر من كونها مجرد خطوات عسكرية تحاول أن تحسم أوضاعاً وظروفاً عسكرية ميدانية لصالح المعارضة السورية أو اسقاط النظام في معركة حربية. والظاهر أن الاستهداف يقفز عن هذا المعطى وهذا الهدف الواضح لصالح استهداف سياسي لروسيا بدرجة رئيسة، ولإيران بدرجة أقل، وبدرجة أدنى للنظام السوري. ولا أوافق الرأي القائل أن هذه الغارات تستهدف بشكل أساسي إيران رغم التأكيد أن إيران واحدة من مآرب الاستهداف المقصود. ولكن الرأس المنشودة والمستهدفة بشكل حقيقي هي روسيا.
فالموقف الفرنسي ضمن مشاركته لهذه الغارات يؤكد على الموقف التقليدي الفرنسي للمسألة السورية والذي يتلخص في معاداة النظام السوري، ومن جهة أخرى، فإن الرئيس الفرنسي الشاب يسعى إلى تعزيز صورته أمام الرأي العام الفرنسي والعالمي على أنه رجل دولة قوي ويسعى لتغيير صورته في المخيلة الشعبية والعالمية أنه رجل مبتدئ في السياسة أو رئيس مخملي، وعلى أية حال، لا تتشابه مسوغات التدخل العسكري الفرنسي مع الموقف الأمريكي أو البريطاني.
أما الموقف البريطاني فإن أزمة مقتل..    مثلت فرصة كبيرة لرد اعتبار للملكة المتحدة البريطانية وانتقاماً محموداً من روسيا المتهمة في قضية قتل .... ، وعلى صعيد آخر، يأتي التدخل البريطاني في إطار المحافظة على استراتيجية التحالف الدولي (الأمريكي –الأوروبي) الأمنية والعسكرية، وإعادة الاعتبار للقوة العسكرية البريطانية ولمكانتها الدولية.
أما بخصوص الدوافع والأهداف للولايات المتحدة الأمريكية للمبادرة  في شن هذه الغارات فهي متعددة، أهمها:
1.    سعي الرئيس الأمريكي "ترامب" للهروب من الاتهامات الجارفة داخل الولايات المتحدة الأمريكية التي تحاصره بتورط الروس في الانتخابات التي أفضت إلى فوزه على المرشحة الديمقراطية "هيلاري كلينتون" . فتأتي هذه الخطوة العسكرية المحدودة لدفع الشبهات حول علاقته الوثيقة بالدولة الروسية والبراءة منها.
2.    إن التراجع الأمريكي خلال العقد المنصرم خاصةً مع استراتيجية الرئيس "أوباما" التي اعتمدت على عدم التورط العسكري في الأزمات ومناطق التوتر العالمية، دفعت  الواقعيون الهجوميون  في إدارة البيت الأبيض والرئيس الحالي "ترامب" العودة إلى الاستراتيجية  الهجومية والتوسعية المفضلة للمحافظين. وقد جاءت الفرصة الذهبية لتوجيه ضربات عسكرية –المبررة أخلاقياً- في سوريا بهدف لإعادة الهيبة الأمريكية وتوجيه رسالة شديدة القوة للدب الروسي.
3.    يبدو أن دوافع الخطوة العسكرية تتطابق مع سيكولوجية شخص الرئيس "ترمب" الذي يبحث عن تقدير من الرأي العام الأمريكي، الذي يراه أقل من أن يكون رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. فضلاً عن أن هذه الاجراءات التصعيدية تنسجم مع السمات الشخصية  لـ "ترامب".  والواضح أنها شخصية مغامرة ومتهورة ومفتقدة للتقدير العام وباحثة عن انتصارات شخصية.
4.    إن رسالة الغارات العسكرية موجهة بشكل رئيس إلى روسيا التي عادت خلال العقد الماضي –وتحديداً تحت قيادة بوتين- لتعزيز مكانتها في النظام الدولي من خلال توظيف هيبة ترسانتها العسكرية الضخمة لتذكير العالم –خاصةً الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا- أن روسيا ما زالت تحتفظ بمكانتها السامية في النظام العالمي الراهن، وأنها ما زالت تملك مؤهلات لمكانة ريادية ومتميزة في العالم رغم التغييرات الشاملة التي جرت في هذا النظام بعد الحرب الباردة. وهو تأكيد عبرت عنه روسيا في أكثر من مكان أبرزه التدخل في الأزمة الأوكرانية وآخره الدور العسكري الكبير في سوريا. وليس بعيداً عن هذا الاحتمال، فإن الساحة السورية واحدة من تجليات التنافس الأمريكي-الروسي على إثبات القوة في النظام العالمي الراهن. ولا يمكن اجتزاء حالة الصدام المكتوم في سوريا بمنأى عن الاستراتيجيات الشمولية للدولتين في النظام العالمي. أو التعاطي مع هذا الاشتباك باعتباره حالة استثنائية منفصلة وعابرة في العلاقات بين البلدين.
5.    ليس مستبعداً أن تكون إيران ضمن فئات الاستهداف الأمريكي، ومضمون الرسالة الأمريكية يندرج في نطاق منع إيران من الاندفاع السريع  لالتهام مزيداً من مناطق النفوذ في الشرق الأوسط. فالقوة العسكرية الإيرانية في الشرق الأوسط لها توابع وردات فعل وخيمة. لأن المسألة هنا تتقاطع مع الاستراتيجية الأمنية والعسكرية الاسرائيلية التي تنظر للتمدد الإيراني على أطراف تخومها ببالغ القلق والحذر. وهو ما يجعل من هذه الغارات أشبه بإنذار عمليات استباقية تكبح الطموح الإيراني الذي ينجح بالتوسع عبر القوة الصلبة والقوة الناعمة بشكل سريع منذ ثورات الربيع العربي.
6.    أن مدى وحجم الغارات العسكرية على سوريا يشير أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستهدف اجتثاث أو اسقاط النظام السوري على غرار ما حدث-مثلاً- في ليبيا. بقدر الضغط على هذا النظام لتقديم تنازلات سياسية في محورين، الأول: على صعيد مفاوضات النظام مع قوى المعارضة السورية، بحيث يتخلى النظام عن صلابته وتشدده في هذه المفاوضات اعتماداً على معطيات قوته الميدانية في سوريا والدعم العسكري الروسي والايراني الذي يتلقاه ويمنحه موقفاً تفاوضياً قوياً. أما المحور الثاني: فهو ابقاء الوضع في سوريا على هشاشته وأزماته لإعطاء اسرائيل فرصة سياسية وعسكرية لفرض شروطها وتصورها الأمني والسياسي لمرحلة ما بعد الأزمة. ومن الوارد أن ما بعد الأزمة سواء كان النظام الحالي أو المعارضة في السلطة فإن اسرائيل ترتب لترسيخ مقاصدها السياسية القائمة على فرض الشروط والاستفادة من الأمر الواقع لتحسين أية اتفاقيات سياسية أو أمنية لاحقة لصالح مشروعها التوسعي في الشرق الأوسط وضمن اتفاقيات السلام المحتملة مع سوريا.