التنوّع والتخالف في قصائد محمد الماغوط النثرية بقلم:د.سوسن رجب
تاريخ النشر : 2018-04-16
التنوّع والتخالف في قصائد محمد الماغوط النثرية بقلم:د.سوسن رجب


التنوّع والتخالف في قصائد محمد الماغوط النثرية

                                       بقلم : د/ سوسن رجب

يُعدّ محمد الماغوط  رائد قصيدة النثر وشاعرها الذي  لا يشق له غبار في صناعتها، وأصبح أستاذًا للعديد من الشعراء الشباب الذين قلّدوه ، وأعجبوا بتجربته الشعريّة، وأسلوبه الفريد  في كتابة قصيدة النثر. 

استطاع محمد الماغوط أن يُخرج قصيدة النثر من النظام المعتمد في الشعر الحُر، من حيث القدرة التعبيرية ، وتعميق التجربة الشعرية، مركزاً على النواحي الفنية والجمالية، وعلى إيحاءات سطوره الدلالية، وهو ما أدخل قصيدته  في التنوّع ، والتخالف، دون التقيد بأية قواعد شكلية .

 كان قلق الماغوط واغترابه ولحظات الانكسار التي تنتابه ،ناشئة عن الحالات السياسية والقمع والجلد السائدة في بلاده أولا، ثم عن الحالة النفسية المتمثلة في الاغتراب عن المدينة وأجوائها  ، ويمكننا استشفاف الكثير من لحظات الانكسار الحزين، والاغتراب والتوتر في العديد من صوره الشعرية، يقول في  قصيدة " المسافر" :

لا أمل..

وبقلبي الذي يخفق كوردة حمراء صغيرة

سأودع أشيائي الحزينة في ليلة ما

بقع الحبر

وآثار الخمرة الباردة على المشمع اللزج

وصمت الشهور الطويلة

والناموس الذي يمص دمي

هذه أشيائي الحزينة

سأرحل عنها بعيداً..بعيدا

يعبّر الماغوط  بحرارة وعمق عن دواخل ذاته الشاعرة وموقفها من الناس والحياة والسفر والوداع، إنّه الحزن على البشرية ومآسيها على يدي الفقر والجهل وطواغيت القمع والجلد ، لذا قرر الرحيل تاركا خلفه  أشياءه الحزينة التي رافقته في حياته وبيئته الريفية وسيرحل بعيداً..بعيداً..! سيترك أشياءه التي تفوح منها روائح بيئة الريفية البسيطة وهي كل ما كان يملكه في عالمه الشعري الأثير ، ففي قصيدته "شريعة الغاب"  يقول:

كما كانت الشعوب البدائية تقدم للنيل أجمل عذراء كل صباح

لتفادي غضبه على الصيادين والمزارعين

أريد كل صباح أجمل وطن لتفادي غضب ثورتي 

عروق المرجان، زبيب التسلية، النسيم العليل، نايات الرعاة،

أجراس القطعان، وتعب المساء، ونشاط الفجر، وصلوات المحن، 

وأدعية المأزق، هي نفقاتي السريّة، أبعثرها يميناً وشمالاً وعلى من أريد

ورغم امتداد السطر الشعري امتداداً طويلاً، الأمر الذي أدّي إلى تباطؤ الحركة وإطالة النفس الشعري، وإدخال القاريء في لحظة تأمّل وتفكير، وتماسك البنية النصية من جانب، إلا الصورة الشعرية أتت بمثابة الحركة المتلاحقة التي تكبح الأنفاس، وكأنها مباراة للقفز على الحواجز في خفة وسرعة.

ولا يُخفي الشاعر ـ في صوره ـ خلق حالة من التماهي بين الذات الشاعرة، وغضب الطبيعة المتمثّل في نهر النيل الذي كان يثور ويغضب إذا لم تقدّم له فتاة عذراء يسفح دمها البكر في كل عام، فالشاعر مثله مثل نهر النيل الغاضب، لا تهدأ ثورته حتى يرى وطنه الأثير جميلاً ينعم بالديمقراطية والتقدم والازدهار ، إنّه يدعو إلى السلم وإحقاق الحق واسترجاع الكرامة ، وإعادة التوازن إلى الحياة بعدما عبثت بها يد الإنسان، وشوّهت معالمها وآفاقها الجميلة.       

وفي "حوار الأمواج" ، نراه يعبّر بصور شاعريّة إيحائيّة عن ضنك معيشته ، فيبدأ صوته الاحتجاجي يرتفع مع عبارة " لا أريد"  معبّرا عن التمرّد والرفض لشيء لا يؤمن به، مع مفردات يلفّها الكثير من القلق و الحيرة:


لا أريد أن أكون قذراً ولا معقّماً

فلكلّ من الحالتين تبعاتها

في القرى يدعو الأهل على الولد المشاكس أو قليل الهمة

لتركض ورغيفك يركض

ولم أكن أعرف أن رغيفي 

قد يدخل في سباق "دربي" الشهير







وقد حفلت قصيدة “الظل والهجير” بالثنائيّات الضدّية، فبدت بمثابة قضيّة صراع بين عالمين ، الأمر الذي جعل صوره في نموّ تصاعدي كخيط ينظم القصيدة ويحبكها، أو عمود فقري لجسدها الكتابي ، ، لخّص هذا الصراع في قوله:    

حبيبتي

هم يسافرون ونحن ننتظر

هم يملكون المشانق

ونحن نملك الأعناق

هم يملكون اللآلئ

ونحن نملك النمش والتواليل

نزرع في الهجير، ويأكلون في الظل

أسنانهم بيضاء كالأرز

و أسناننا موحشةٌ كالغابات 

لقد تحكمت في شعر الماغوط مشغّلات أسلوبيّة ، صارت جزءًا مميّزًا لصوره الشعرية ، وعلامة فارقة لها، منها: احتفاؤه بالثنائيات وخلق التوازن الإيقاعي ، والافتتان بالصورة القائمة على المشابهة وتمثيل ذلك لغويًّا بالإكثار من التشبيه بالكاف خاصة، واعتماد السرد بتقنية الحوار والاسترسال الوصفي والحدثي، مع الحفاظ على زاوية نظر تتّسم بالسخرية المثيرة للألم ، فالثنائيّات الضديّة في شعره تقطّع النص، أو تشطره بحدّة عبر الصور والتشبيهات الكثيرة، والتي تستخدم الدلالات لتأكيد هذا التنافر والتضاد والمفارقة، كما تشيع فيه توازنات أو توازيات إيقاعيّة يبدو فيها النص بعد المعاينة الأسلوبية في غاية الانضباط والنظام النسقي، فكلّ عبارة تقابل  مثلها في عدد الكلمات وتوازيها في الدلالة مخافة أو تعضيدًا ، كما تنتمي المفردات للتوازن ذاته.

وكون شروط قصيدة النثر متعلّقة بلغة التعبير وليس بماهيته ، جعل الشاعر في مواجهة مباشرة مع النص ، فموضوعه لم يعد محصورًا في تسجيل الصدق العاطفي، وتثبيت لحظة المعايشة الاجتماعية والسياسية ، بل أصبح موضوعه هو إشكالية التمظهر اللغوي والنصي للتعبير ، أي كيف يستطيع أن يصوغ لغته ، وخاصة أنّ قصيدة النثر سعت للتخلّي عن ذخيرة الأدوات التعبيرية القديمة.