كثافة اللحظة التاريخية بقلم الأسير كميل أبو حنيش
تاريخ النشر : 2018-03-13
كثافة اللحظة التاريخية

بقلم الرفيق الأسير كميل أبو حنيش

شهدت العقود الأخيرة من القرن العشرين تطورات متسارعة ومذهلة مهدت الطريق لتحولات جذرية في الحياة الإنسانية على كافة الأصعدة, ففي بدايات القرن الحادي والعشرين جعلت أبرز المؤرخين والمفكرين يحذرون من خطورة اللحظة التاريخية, وأن البشرية على أعتاب مرحلة جديدة في التاريخ من شأنها أن تقلب المعايير والأنماط الفكرية والاجتماعية السائدة وأسس الحياة البشرية برمتها.

فقد مرت البشرية بلحظات تاريخية فارقة ساهمت في انتقالها من مرحلة إلى أخرى على طريق التطور المتواصل بدءً بالثورة الكلامية التي ميزت الكائن البشري عن غيره من الكائنات والأجناس الأُخرى وأكسبته القدرة على بلورة وعيه الإنساني بدايات هيمنته على الطبيعة, ومروراً بظهور الزراعة وما يعرف بالثورة الزراعية التي بدأت قبل 10 آلاف عام وهي المرحلة التي تلخص التاريخ البشري وبداية الانتقال إلى الحضارة والمجتمع الطبقي والإنتاج المادي وظهور الدولة والملكية الخاصة والأديان والثقافات, وأنتجت الإمبراطوريات القديمة وازدهار التجارة والمدن, حيث توجت هذه بحقب طويلة من التاريخ بالقرون الأخيرة بانطلاق ما يعرف بالثورة العلمية التي مهدت الطريق أمام تحولات تاريخية عظيمة تركت آثارها البارزة على سائر الحياة البشرية وظهور الدولة الحديثة وتبلور القوميات وتفسخ نظام الإقطاع وولادة الرأسمالية ليدشن عهداً جديداً لانطلاق الثورة الصناعية التي شكلت مفصلاً تاريخياً في إعادة إنتاج العلاقات الإنسانية, وترافق ذلك مع ولادة وتطور منظومات فكرية وفلسفية كالديمقراطية والليبرالية والماركسية والدارونية والنيتشوية والوجودية, وقد تولد عن هذه المرحلة تولد الرأسمالية ودخولها في طور الامبريالية وأنتجت ظاهرة الاستعمار المباشر التي دفعت باتجاه نشوب حربين عالميتين كبيرتين بين القوى الاستعمارية المتنافسة خلفت اندثاراً للإمبراطوريات القديمة وبروز القطبية الثنائية واشتعال الحرب الباردة منذ منتصف القرن العشرين, علاوةً على مئات الحروب الإقليمية والأهلية في مختلف بقاع العالم.

وقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين تزايد شدة تمركز رأس المال وظهور شركات متعددة الجنسيات وتنامي دورها بالهيمنة على الأسواق العالمية, حيث ساهمت في وضع الحجر الأساس لنظام العولمة وما صاحبه من تطورات تكنولوجية هائلة نهاية الحرب الباردة أواخر القرن العشرين وانهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية وسقوط جدار برلين وما عقبه من انتصار الخطاب الرأسمالي الليبرالي وتتويج الولايات المتحدة كقوة تتفرد وحدها في إدارة العالم وتطور العولمة, وما ولدته من ثورات كالثورة المعلوماتية والاتصالية والمالية وسائر التطورات الأخرى المتولدة عنها, واحتفاء عدد من المفكرين بانتصار الرأسمالية كــ "صموئيل هنتنغتون" ونظرية صراع الحضارات و"فرانسيس فوكوياما" ونهاية التاريخ, ونظرية الصدمة الاقتصادية لـِـ "ميلتون فريدمان" وتلامذته قبل أن تثبت هذه النظريات فشلها.

لقد كان القرن العشرين هو القرن الأكثر كثافة في التاريخ البشري, وتمخض عنه نظام العولمة وما حملته من تطورات متسارعة تكاثفت في أول عقدين من القرن الحادي والعشرين وهو ما أذهل عموم المفكرين والمؤرخين المتفائلين منهم والمتشائمين, و وتكاد تجمع الغالبية أن على هذا القرن لن يحمل معه السلام والحرية والرفاهية للبشرية بل على العكس ستتفاقم حدة الصراعات والحروب والكوارث والأوبئة وستزداد حدة النكبات الإنسانية الكبرى من الإبادات والتهجير الشامل والتطهير العرقي وربما الحروب النووية, وهو ما قد يؤدي إلى انتحار بشري شامل ما لم يجري تدارك هذه اللحظة ووضع حد لتغول الرأسمالية المعولمة في ظل تسارع شدة تمركز رأس المال والثروات والإفقار الشامل لعموم البشرية, مما ولد انتشار المجاعات والحروب وتلوث البيئة والهجرات الجماعية وإضعاف الدولة القومية وزعزعة الاستقرار العالمي, ويقول "إيلان كونديرا": (إن وحدة البشرية التي حققتها العولمة تعني بالأساس أنه لم يعد هنالك مكان للهروب إليه).

لقد بات العالم كله متشابكاً وتحول إلى عالم القرية الصغيرة لكنه عالم يفتقد للعدالة والسلام والاستقرار, وثمة مخاطر تهدد شعوباً بأكملها بالإبادة إما من خلال الحروب أو الأوبئة أو الجفاف أو المجاعات في ظل انتعاش المذاهب الفكرية اليمينية كالمالتوسية والدارونية الاجتماعية والنيتشوية بتقليعاتها الجديدة, وربما تمثل حالة الرئيس الأمريكي الحالي "دونالد ترامب" والأحزاب اليمينية والفاشية المنتشرة في العالم صورة واضحة عن هذه المذاهب الفكرية.

فقد أحدثت العولمة تحولات جذرية في الحياة البشرية عكست نفسها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية والنفسية والسلوكية, وأصابت صميم الحياة الإنسانية, ويحذر المفكر العالمي "زيغمونت باومان" في سلسلة كتبه سيولة الحياة البشرية وافتقادها للصلابة ففي زمن العولمة تصبح السيولة هي السمة الملازمة للحياة البشرية من الحداثة إلى الثقافة والزمن والحب والخوف والعلاقات الإنسانية, ويحل الخوف مكان السلام والقلق مكان الأمان حيث يقول "باومان" في كتاب الأزمنة السائلة: (إن الأرض التي من المفترض أن يقف عليها مستقبلنا هي أرض رخوة بكل تأكيد), وهذا ناتج عن التسارع المذهل في التطور في عالم اليوم, وهو ما يؤكده في ذات الكتاب (إننا عاجزون عن خفض السرعة المذهلة التي يسير بها التغيير بل عاجزون عن استقراء مسار التغيير والسيطرة عليه), وهو ما تأكده أيضاً "ناعومي كلاين" في كتابها عقيدة الصدمة, إذ تقول: (بات عدم الاستقرار معياراً ثابتاً في عالمنا الحالي), أما المؤرخ العالمي "إريك هوبزباوم" فيؤكد في كتاب أزمنة متصدعة (يتميز الجنس البشري اليوم باعتياد حياة فيها تناقضات داخلية ممزقة بين عالم المشاعر والتكنولوجيا المنيعة ضد نفاذ العواطف والانفعالات إليها بين العالم المحصور في نطاق الخبرة الإنسانية والمعارف العقلية وعالم العظمة المهولة الذي لا معنى له, وبين الحس السليم للحياة اليومية وعدم القدرة على فهم العمليات الثقافية التي تخلق لإطار الذي نعيش فيه ما عدا لقلة قليلة), هذه اللوحة من التناقضات التي يلخصها "هوبزباوم" تأتي نتاجاً للعولمة والتكنولوجيا المتسارعة في تطورها نجم عنها اضطراب الإنسان وهشاشة العلاقات الاجتماعية وزعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي, ففي هذه المرحلة حيث تهيمن الشركات المتعددة الجنسيات على العالم وهو ما يعني تركز الثروات في أيدي قلة ضئيلة في العالم, وفي ذات الوقت تسببت بالإقفار الشديد للشعوب بعد نهب لثرواتها ومواردها, ويعلق المفكر "سمير أمين" في كتابه الفيروس الليبرالي بالقول: (النظام العالمي لم يدخل مرحلة جديدة لا امبريالية يمكن وصفها بما بعد بعد الامبريالية ولكنه بالعكس يمر بمرحلة امبريالية أشد عنفاً بكثير, وهي امتصاص لثروات دون إعطاء شيء بالمقابل).

فرأسمالية العولمة هي رأسمالية النهب الشامل للشعوب وإفقارها دون أن تبقي لهم شيئاً, وهو ما يفسر المجاعات وظاهرة الهجرات الكثيرة من بلدان الجنوب الفقير نحو بلدان الشمال الثري, ويضيف "أمين" في ذات الكتاب: (الليبرالية المعولمة القائمة في فعل لا يمكن أن تقدم سوى المزيد من الـلا مساواة بين الشعوب وفي داخل الشعوب), وتعلق "ناعومي كلاين" في كتابها سالف الذكر: (غالباً ما يشار إلى الليبرالية الجديدة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية بالنهب الاستعماري الثاني, ففي عملية النهب الأولى تم تجريد الأرض من ثرواتها وفي عملية النهب الثانية تم تجريد البلد من أراضيه), ففي كتابها عقيدة الصدمة فضحت "ناعومي كلاين" سياسيات الولايات المتحدة بتبنيها لمذهب "ميلتون فريدمان" الخاص باستخدام الصدمات الاقتصادية بهدف ترويض الشعوب وإفقارها.

كان "ميلتون فريدمان" قد وضع في كتابه "الرأسمالية والحرية" التصميم الذي سيصبح لاحقاً دفتر قواعد السوق الحرة العالمية والذي سيشكل في الولايات المتحدة جدول أعمال السياسة الاقتصادية لحركة "المحافظين الجدد" ويتلخص مذهب "فريدمان" أن على الحكومات أولاً أن تلغي جميع القواعد والأنظمة التي تعقد تراكم الأرباح, وعليها ثانياً أن تبيع أي أصول تملكها لشركات قادرة على إدارتها وجني الأرباح منها, أما ثالثاً فعليها أن تحد من تمويل البرامج الاجتماعية, أما الضرائب ففي حالة وجودها فيجب أن تكون منخفضة ويجب فرض الضريبة الثابتة نفسها على كل من الغني والفقير, ويجب أن تتمتع الشركات بحرية بيع منتجاتها في أي مكان تختاره في العالم, كما على الحكومات ألا تبذل أي جهد في حماية الصناعات أو الملكية المحلية, فالسوق هي التي تتولى تحديد كافة الأسعار بما في ذلك أُجور الأيدي العاملة, فضلاً عن أنه لا يجب أن يكون هنالك حد أدنى للأُجور.

لقد جعل "فريدمان" الخصخصة تشمل الرعاية الصحية وخدمة البريد والتعليم وتعويضات التقاعد وحتى المنتزهات الوطنية, و"ميلتون فريدمان" الذي نشأت على أفكاره المدرسة التي باتت تعرف بمدرسة "شيكاغو" الداعية إلى استخدام صدمات اقتصادية وحرية السوق والخصخصة, ويرى رواد هذه المدرسة ضرورة تحويل الأزمات إلى فرصة لإحداث التغيير, و"ميلتون فريدمان" الذي يرى بالاقتصاد علماً كعلم الفيزياء والطب والكيمياء يقول عن كيفية استثمار الأزمة: (وحدها الأزمة سواء أكانت الواقعة أم المنظورة هي التي تحدث التغيير الحقيقي, فعند حدوث الأزمة تكون الإجراءات المتخذة منوطة بالأفكار السائدة , وهنا تأتي على حد اعتقادي وظيفتنا الأساسية وهي أن نطور بدائل السياسات القائمة, وأن نبقيها حية ومتوفرة إلى أن يصبح في السياسة حتمية سياسية).

فـ"فريدمان" يرى بالأزمات سواء كانت على شكل حروب أو أزمات اقتصادية أو كوارث طبيعية بتحويل هذه الأزمات إلى فرصة لإحداث التغيير المطلوب والناس لا يزلون في حالة ذهول, وتلخص "ناعومي كلاين" في مذهب الصدمة بالتالي: (هكذا يعمل مذهب الصدمة, نضع الكارثة الأصلية سواء كانت انقلاباً أم هجوماً إرهابياً أم انهياراً بالسوق أم حرباً أم تسونامي, جميع السكان في حالة الصدمة الجماعية وتخدم القنابل المتساقطة والعنف المتفجر والرياح العاتية كلها لتطويع مجمل المجتمعات, وتقوم المجتمعات المصدومة بالتنازل عن أمور كانت ستدافع عنها بشراسة في أوضاع مغايرة), وهو ما جرى بالضبط في العراق وفي إعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر وتسونامي في اندونيسيا وسريلانكا وإعصار "كاترينا" في الولايات المتحدة, حيث تمت خصخصة ما يكمن خصخصته في ظل انهماك المجتمعات في معالجة الكوارث والمآسي التي حلت بها.

وتضيف"كلاين": (يبدو أن الحادي عشر من سبتمبر قد منح واشنطن الضوء الأخضر كي تتوقف عن سؤال الدول إن كانت راغبة بالنسخة الأمريكية للتجارة الحرة والديمقراطية أم لا, وتباشر فرضها بقوة الصدمة والترهيب العسكري), وهذا ما حدث في حرب أفغانستان وحرب العراق, وتضيف قولها: (في الواقع كانت إمكانيات الربح في العراق كبيرة, لم يكن البلد يحتوي على ثالث أكبر احتياطي للنفط في العالم فحسب, بل كان أيضاً بمثابة الحاجز الأخير المتبقي في وجه حملة بناء سوق عالمية ترتكز على رؤية النتائج المروجة للرأسمالية غير المقيدة, بعد أن نجحت الفتوحات السابقة باحتلال أمريكا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا الشرقية وآسيا, تبدى اليوم أن العالم العربي هو الحدود الأخيرة التي يجب غزوها).

فهذه العقيدة التي جرى تبنيها رسمياً من قبل الولايات المتحدة هي عقيدة الصدم والترويع واقتصاد الكوارث وتحويلها إلى فرص تمهيداً لنهبها, وهو ما تلخصه "كلاين" بالتالي: (إن تاريخ السوق الحرة المعاصرة قد كتب بالصدمات), وهذا ما شهدناه في عدد من بلدان العالم الفقيرة في العقود الأخيرة و بوصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي, وتكثف "كلاين" الصورة بالتالي (باتت إمكانية خلق استقرار سياسي وسلام جيوسياسي التهديد الوحيد في وجه اقتصاد الكوارث المزدهر, الذي يجذب ثروات هائلة من الأسلحة والنفط والهندسة والمراقبة والأدوية المرخصة), ولعل الرئيس الأمريكي الحالي "دونالد ترامب" يعبر عن هذه الحالة, فانسحابه من معاهدة البيئة والحد من التلوث, وتهديده بشن المزيد من الحروب وإعلانه عن الحرب التجارية قبل أيام يبشر بالمزيد من الكوارث, أما رأسمالية اليوم لا تعيش إلا على الكوارث.

والرأسمالية تحتاج إلى الحرب بشكل دائم, لأن الحرب تخدم أهدافها في الترويع وابتزاز الشعوب ونهب ثرواتها, وهو ما يؤكده "سمير أمين" في كتابه السالف الذكر: ( النظام الاقتصادي الليبرالي المعولم يحتاج إلى الحرب الدائمة, أي تدخلات عسكرية الواحدة تلو الأُخرى وهي الوسيلة الوحيدة لإخضاع الشعوب لمتطلباتها), إذن الحرب هي الوسيلة الوحيدة لإخضاع الشعوب, وهذه الحروب باتت مخصخصة حيث تقول "كلاين": (اليوم باتت الحروب والاستجابة للكوارث مخصخصة بشكل كامل إلى درجة أنها أصبحت تشكل بحد ذاتها سوقاً جديدةً), وضيف "كلاين": (ينتمي مهندسو "الحرب على الإرهاب" باعتبارهم أوائل المستفيدين من الكوارث إلى نوع من الرأسماليين يختلف عن أسلافهم من سياسيي الشركات, نوع تشكل له الحروب وغيرها من الكوارث هدفاً بحد ذاتها, فالكوارث هي التي تزيد من أرباح هذه الشركات والحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية ونقص الموارد).

وبانتقال الرأسمالية إلى رأسمالية الكوارث فإن اللحظة التاريخية في زمن العولمة تتسم بالعنف وسيادة القلق والخوف وهو ما يلخصه "زيغمونت باومان" في كتاب "الحداثة السائلة": (إن عالمنا اليوم يشهد عنفاً سائلاً وهيمنةً صلبة وهو يتعرض لتهاوي الأنظمة وتفكك الروابط), هذا العنف التمثل بالحروب الأهلية ومن الممكن أن يمتد إلى سائر أنحاء العالم ف ظل هيمنة صلبة من جانب الدول الكبرى التي تشيع الخوف والرعب وانعدام الأمن لدى شعوبها, وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى تخلي الدولة عن مهمة الأمن لشعوبها لصالح لشركات الأمنية الخاصة, الأمر الذي سيؤدي إلى تفكك الدول والمجتمعات والعلاقات الإنسانية, وهذا ما تريده رأسمالية العولمة التي تنادي علنية بالقضاء على مليارات البشر لاسيما الشعوب الفقيرة, وهذا يذكرنا بما قالته "كونداليزا رايز" في سبتمبر 2002 في غمرة التحضير لحرب العراق: (إن العالم لا يعدو كونه مكاناً وسخاً وعلى أحدهم أن يبادر لتنظيفه), إن هذه العبارة تختصر الأيديولوجية التي تعتنقها رأسمالية العولمة, فالمطلوب تنظيف العالم من ماذا!! من الفقراء والشعوب المتخلفة, إنها أيديولوجية الدارونية الجديدة والمالتوسية الجديدة والنازية الجديدة, إنها أيديولوجية البيت الأبيض بزعامة "ترامب" ومن قبله "بوش ورامسفيلد وتشيني", ومع ذلك قد تكون الحروب والعنف من علامات الشيخوخة للنظام الرأسمالي كما يراه "سمير أمين" إذ يقول: (إن النظام الشائخ لا يقضي أيامه الأخيرة في دعةٍ وسلام, بل بالعكس تدفعه الشيخوخة إلى مضاعفة العنف), لكن "سمير أمين" يحذرنا قائلاً: (إذا لم يجري تجاوز الرأسمالية ببناء نظام يضع حداً للاستقطاب العالمي والانحراف الاقتصادي, فإنها لن تحقق إلا التدمير الذاتي للعالم), وهو ما يكرره "باومان" في كتاب "الخوف السائل" بقوله: (يمكننا بأن نتنبأ بأن عولمتنا السلبية ستجعل الكارثة محتومة ما لم نهذبها ونروضها), وهو أيضاً ما يكرره "روجيه غارودي" في كتاب "الإرهاب الغربي": (فإذا سار هذا القرن سيراً أعمى في انحرافاته, فإنه لن يستطيع أن يستمر مئة عام, ليس بسبب المذابح التي سيتعرض لها البشر فحسب ولكن بسبب تدمير الطبيعة).

إن هذه الرؤية المتشائمة لدى هؤلاء المفكرين وغيرهم لها ما يبررها في ظل كثافة اللحظة التاريخية وما أنتجته من حروب وكوارث وأزمات اقتصادية تنذر بالمزيد في العقود القادمة, فالرأسمالية المتوحشة اليوم تتغذى على الكوارث البشرية ومآسي الشعوب, وهي تقود البشرية إلى الهاوية ما لم يجري تجاوز هذا النظام, وتتحرك الشعوب والأمم والحركات الثورية العالمية لإنقاذ العالم, ولم يعد هنالك متسع من الوقت في ظل تسارع الأحداث والتطورات وتفاقم حدة الكوارث الإنسانية.

 فاللحظة التاريخية التي نعيشها مكثفة وخطيرة تنذر بأحداث جسيمة لم تشهدها البشرية في تاريخها الطويل, فما نراه اليوم من إجراءات واسعة وحروب وتلويث للمياه والطبيعة وانتشار للأوبئة والمجاعات ما هي إلا مقدمات لما ينتظر البشرية من أهوال الطبيعة ما لم يجري الانتقال إلى حالة أُخرى مغايرة تلتقط من خلالها الحركات الثورية المناهضة للعولمة الرأسمالية زمام المبادرة, وتنقل العالم إلى لحظة تاريخية جديدة.

انتهى