القصيدة البيضاء "غنج الحمام" منصور الريكان بقلم رائد الحواري
تاريخ النشر : 2018-03-12
القصيدة البيضاء
"غنج الحمام"
منصور الريكان
من جمالية النص الأدبي الاستمتاع به، إن كان من خلال اللغة أو الفكرة أو اسلوب وطريقة تقدم النص الأدبي، وبالتأكيد اللغة في الأدب إحدى العناصر التي تجعل النص متألق، وما يلفت النظر وجود بعض الشعراء من استطاعوا أن يأسسوا لغة خاصة بهم، تميزهم عن سواهم، "ومنصور الريكان" واحد من هؤلاء الشعراء، ومن يقرأ له يعرفه شاعر لا يؤمن بالسواد المطلق، حتى عندما يريد أن يتناول واقع مؤلم، وكلنا يعرف ما حل في العراق، ومع هذا استمر الشاعر في بث الأمل والتشبث بالحياة، الحياة التي تمتد من حضارة سومر إلى العراق الحديث، لهذا كان شعره اقرب إلى وصايا الأنبياء الذين يبشروننا بالخلاص وبالحياة السعيدة.
هذا عندما يتحدث عن الألم والقسوة، فما بالنا إذا تحدث عن الفرح، عن المرأة، عن الطفولة؟، بالتأكيد سيسمعنا لغة تحلق بنا في عنان السماء، وتأخذنا إلى ألفاظ مطلقة البياض، بحيث ينسجم ما يقدم لنا من أفكار مع الأداة اللغوية، فنكون أمام نص ناصع البياض.
يفتتح الشاعر قصيدته فيقول:
"غنج الحمام اذا تدلل او خجل
قبلتها شفتي على صمت الجمال أراها تهوي بالقبل"
يبدأ الحديث عن شيء/حدث وكأنه ليس له علاقة بالشاعر، فهو يتحدث من موضع المحايد، حتى عندما قام بتقبيلها كان يتحدث من موقع المحايد "قبلتها شفتي" فيبدو لنا وكأنه ليس هو من قام بالتقبيل بل شفتاه، لكن الدافع لهذه القبلة هو الجمال الذي يصدر، ينبعث من الحبيبة/الطفلة، وأيضا وجد منها الميل نحو هذه القبل، وكأنه بهذه الشروحات التي يقدمها يبين لماذا قال "قبلتها شفتي"، فالتقبيل فعل مستحب من الفاعل والمفعول به، وهناك جوي/حالة خاصة تحث على الإقدام عليه.
يتقدم الشاعر أكثر من الحبيبة/الطفلة من خلال قيامه:
"ومسكت خدها ناعما سبحان ربي ما عمل
ولصوتها الأنغام من دلع المقام
فلرب عنق من رخام"
يضيف الشاعر جمالية أخرى لهذه الحبيبة/الطفلة، فهي ناعمة، من شدة نعومتها استحضر الله خالق الجمال ومن أوجد هذه النعومة، فتعظيم الخالق يضيف هالة من قدسية الجمال على المحبوبة/الطفلة، وإذا ما أضفنا أنغام صوتها نكون أمام جمال متكامل، يحثنا على الفعل ـ التقبيل ـ ويمتعنا بالمشاهدة وبالسمع ، ويجعلنا نستحضر الله الخالق، وهنا كان أثر الجمال مطلق على الشاعر، بحيث جعله يهيم في عالمه الخاص، عالم المحبوبة/الطفلة.
إذن نحن امام جمال مقدس، أليس منشؤه الله؟:
"سكنت هنا وتململ الشوق احتراسا من كلام
ولصمتها التبجيل والتعظيم قد أنسى السلام
يا بوحها"
حالة الاحتباس عن الكلام، لا تكون إلا أمام العظماء، وهذه الجميلة جعلت الشاعر يحتبس الكلام، فنومها جعل السكوت، الصمت ملازم وواجب، فأثرها وهي فاعلة يجعل من حولها يتفاعل معها، وأثرها وهي نائمة تجعل للسكون وللصمت طعم خاص، كما هو الحال في حالة حضورها بنشاطها وحيويتها، من هنا تأخذ صفة (المقدسة) ولهذا نجد أثرها مطلق على من هم حولها.
وإذا ما توقفنا عند "يا بوحها" والتي جاءت بصيغة الاستغراب لأثر هذا الجمال الذي يحدثه صمتها وكلامها، يتأكد لنا أن "منصور الريكان" يحدثنا عن قدسية الجمال وليس عن شيء أو كائن عادي.
دائما الطفولة تثير فينا الفرح، وتمنحنا ما نحتاجه من أمل، وتعيدنا إلى عالم البراءة والبساطة، وهذا ما كان من المحبوبة/الطفلة:
"يا بوحها
هي لم تبح بل عينها فضحت رؤاها صرحها
وغفت تدندن في رؤاي كما الملاك"
اعتقد عندما اقرن الشاعر لفظ "ملاك" أراد أن يؤكد على حالة القدسية التي تنثرها المحبوبة في المحيط.
يقربنا الشاعر من حالة التوحد التي جمعته بالمحبوبة/الطفلة، فيقدمنا مرة أخرى من أثرها وقوة حضورها عليه فيختم قصيدته قائلا:
"خاطت مساحات التعجب بارتباك
وسمت كما النعناع تصدح ها انا
وأراني من بوح الهوى متلعثما
قالت تعال
صدح الخيال"
عدم كشف كل ما أحدثته المحبوبة في نفس الشاعر "خطت مساحات التعجب" فجعلته مرتبكا، لكنه ارتباك حب وفرح ، وليس اضطراب ناتج عن قهر وألم، ونجدها تلاعبه لعبة الأطفال بسعادة ومرح.
والأهم في القصيدة أن الشاعر أسمعنا صوتها، من خلال:
"قالت تعال
صدح الخيال" وبهذه الخاتمة يمكننا أن نتخيل مساحة الفرح الذي خلقته المحبوبة بكلامها، فالخيال يأخذ مجده، وهل هناك حدود للخيال؟