اغمض عينيك لتكتب بقلم:د. فتحي عبد العزيز محمد
تاريخ النشر : 2018-03-12
أغمض عينيك لتكتب
د. فتحي عبد العزيز محمد
*********************
"كنت هاروف" كاتب متميز لم تترجم أي من أعماله إلي اللغة العربية في الوقت الذي ترجمت فيه إلي ستة لغات أخري، كما لم يتطرق أحد في عالمنا العربي إلي الحديث عنه أو عن أعماله.

حاز كنت هاروف مكانة رفيعة بين كتاب الرواية في الولايات المتحدة الأمريكية علي الرغم من أن جملة ما قدمه لا يتجاوز ست روايات كانت أولاها "الرباط الوثيق" وتحكي عن عجوز تعيش في السهوب الأمريكية اتهمت بالقتل. وقد صدرت عام 1984 بعد عشرون عاما من محاولاته الروائية، بينما آخر ما كتب رواية "أرواحنا في الليل" وتعد درة ما كتب تدور أحداثها في هولت حول مشاعر الوحدة التي يعاني منها أرمل وأرملة في مرحلة متأخرة من العمر وتجد الأخيرة نفسها تقدم عرضا للأرمل أن يقضي معها الليالي بدافع الحاجة ليس للرومانسية ولكن ببساطة للصحبة، ليؤنسا وحدتهما. فكرة مبتكرة هي أساس العمل الأدبي الأخير لهاروف البالغ النضوج والدال علي قدرته الاستثنائية علي تشريح العلاقات الدقيقة، قدم هاروف في ذلك العمل وجهة نظر جريئة وشجاعة وأصيلة عن إمراة تتحدي المألوف، إنها الكلمة الأخيرة من كاتب بليغ. وقد نقلت إلي الشاشة في فيلم يحمل نفس الاسم عام 2017م. وبين روايته الأولي والأخيرة أربع روايات هي "حيث كنت تنتمي" و ثلاثيته التي ضمت "المساء، منح البركة، الترنيمة"

يتمتع الروائي كنت هاروف بكثير من الصفات التي تضفي علي شخصيته سمتا من الرقي فهو إلي جانب انسانيته العظيمة مفكر متميز أشاد به ناشر أعماله في المملكة المتحدة بان ماكميلان قائلا "يتمتع كنت بحس روائي دقيق وعميق ذلك الحس الذي يعكس عظمة الكاتب وأمانته وفكره العميق".
أقدم هاروف علي خوض غمار حقول تتطلب الشجاعة في التعامل معها فقد سعي إلي استكشاف ما يظن أنها أنماطا معتادة من الحب، وكذلك الإحباط الدائم والتكلفة المستمرة للولاء، والراحة من مشاعر المودة اليومية، كانت شجاعته غير مسبوقة لم يعرفها النقاد أو القراء في الرواية المعاصرة.

اعتاد هاروف الكتابة في مكان منعزل بالفناء الخلفي لمنزلة في بلدة سالاديا بولاية كولورادو بدأب وشغف وإصرار علي الرغم مما لا قاه من تأخر في نشر أولي رواياته مدة طويلة من السنين ـ كما سبق القول ـ وقد ملأته تلك التجربة عزيمة قوية، أشار إلي ذلك " لو أني أردت تعلم شيئ عبر تلك السنوات من العمل والإصرار فلا أكثر من الإيمان بالنفس حتى وإن لم يفعل الآخرون". كان الرجل يؤمن بذاته دونما غرور فيحدثنا عن موهبته قائلا: شعرت أني أملك شعلة ضئيلة من الموهبة، لم تكن موهبة ضخمة، وعلي الاعتماد عليها بحماس مع مزيد من التنظيم، وألا أدعها تنطفئ.
ومما تجدر الإشارة إليه اعتياد الرجل الكتابة بطريقة غريبة حتى يري عالم روايته وشخوصه بشكل واضح، فهو يدلف إلي صومعته ويجلس إلي آلته الكاتبة العادية البسيطة الإمكانيات ويجذب قبعته الصوف إلي عينيه فتختفي الأشياء عن بصره، يعيش في فضاء اخترعه لنفسه تجري فيه أحداث كل رواياته بلدة صغيرة من صنعه اسماها هولت في كلورادو يعالج أمورا انسانية ومشاكل حياتية يوميه مغمض العينين يكتب مسودات روايته دون أن يري حرفا مما كتب تجربة رائعة في الكتابة " اغمض عينيك حتي يمكنك أن تري".
والسؤال هنا ماذا انجبت الكتابة بعيون مغمضة، لا شك أن صفاء الذهن وثقة الكاتب بموهبته أفرزا أعمالا تعد بحسب الناشر بول باجاتي من أعظم الإنجازات الأمريكية المعاصرة في الأدب، وتنافس أعمال كورماك ماكارثي وريتشارد فورد وجين سمايلي وآني برولكس في ابتكار أفق أسطوري أمريكي جديد.

مما جذبني لهذا الروائي جمال العبارة وأناقتها وقد لفت ذلك انتباه النقاد حيث قارنوا بين اسلوبه وأسلوب همنجواي من حيث جمال العبارة وسلاستها، ولأني قرأت له أرواحنا في الليل فيمكن لي القول أن قدرته علي السرد المشوق وادراج عبارات الحوار بين الوصف والمزج بين الشخصيات والمكان والزمان بحيث يؤثر كل منهم في الآخر كانت عالية التقنية.