البحث عن العقل النص والواقع بقلم عبد العزيز الخطابي
تاريخ النشر : 2018-02-20
البحث عن العقل النص والواقع بقلم عبد العزيز الخطابي


البحث عن العقل
النص والواقع

بقلم عبد العزيز الخطابي
ترى لو كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين ظهرانينا اليوم هل كان ليرضيه الحال التي وصل إليها المسلمون من صحوة الشعور والحماس مع غيبة العقل والحكمة الدينية والدنيوية معا ؟، هل كان يرضيه ليكتفي المسلمون من دينهم بالشكل والمظهر والطقوس مع الإنكار المعتمد أو غير المعتمد للجوهر والقيمة والمعني، هل كان ليطمئن النفس ويقر العين بمجتمع يحرص فيه الرجال على إطلاق اللحى وارتداء الجلباب القصير الأبيض ،وإطلاق الأصوات بالميكروفونات ليل نهار بالدعاء والتسبيح وافتراش الطرقات بالصلاة مع تعطيل السير فيها، وإطلاق الآذان للصلاة في الدواوين؟ وهل كان يسعد بمجتمع ترى فيه نساؤه أن تمام الإيمان بالتحجب والتنقب وعدم تلامس  أياديهن مع أيادي الرجال مع التنكر لدور المرأة الحقيقي للأمام؟، وهل كان ليرضى بممارسات قهر الحرية والعقل والرأي واغتيال المصلحة الاجتماعية باسم الدين ؟ هل كان يسكت عن ممارسات النصب الاقتصادي الجماعي لشركات توظيف الأموال الإسلامية بحجة اجتناب الربا؟ وهل كان ليسكت عن قهر المفكرين بدعوى الردة أو لاغتيالهم جسمانيا ومعنويا بحجة خروجهم عن الإسلام؟
 
الإجابة معروفة على وجه القطع ،وهي أن عمرا لم يكن ليرضى بذلك ولم يكن ليقره بل كان ليعتبره منكرا يغيره بيده وبلسانه وبقلبه، والسبب في ذلك أن فهم عمر العقلاني المستقيم للإسلام يختلف عن فهمنا الخاطئ له المغرق في التمسك بالشكل والطقس واللفظ ولو عارض سلوكنا مقصد الإسلام ومراميه، وذلك هو بيت القصيد في التفرقة بين التقدم باسم الإسلام والتخلف والتدهور والانحطاط ول ارتدينا عباءة الإسلام ..موقفنا وفهمنا لقضية العلاقة بين النص والواقع أو بين ما نعتقده تعاليم للدين وواقعنا الاجتماعي.
هل نقتصر عند الوقوف عند ظاهر النصوص دون نظر لمقاصدها ومراميها والمصالح التي تحميها ورسالة المعاني التي تريد إبلاغها لنا ،أي هل نطبق المأثور ولو أدى إلى تفويت حكمته أم نضع نصب أعيننا الحكمة والمصلحة والمقصد والمعنى المناسب؟.
لننظر إلى ممارسات عمر بن الخطاب رضي الله عنه على بداية الطريق في بحثنا للعلاقة بين النص والواقع في العقل الإسلامي المبكر والمتأخر على السواء.
مشهور عن عمر بن الخطاب لدى العامة والخاصة مسألتين هما أنه أوقف قطع يد السراق في عام المجاعة رغم عموم نص الآية " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" ،وأنه توقف عن إعطاء سهم المؤلفة قلوبهم رغم صريح نص الآية " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ".
ولكن هناك عديدا من الأمثلة الأخرى توضح لنا منهج ابن الخطاب في التعامل مع النصوص وتغليبه للحكمة والمقصد على ظاهر اللفظ وللمصلحة على الشكل أي تغليبه للعقل على النقل، ونذكر من هذه الأمثلة ما يلي..
من ذلك تحريم الزواج من الكتابيات رغم صريح الآية الكريمة بحلهن " والمحصنات من الذين أتوا الكتاب"، فقد روي أن إبراهيم ابن حذيفة تزوج بيهودية بالمدائن فكتب له عمر أن خل سبيلها، فكتب إليه 'أحرام يا أمير المؤمنين فكتب إليه عم أغرم عليك ألا تضع كتابي هذا حتى تخلي سبيلها فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن ،وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين.
ومن ذلك ما فعله عمر في قسمة الغنائم، عندما تعلق الأمر بأرض سواد العراق بعد فتحها بواسطة جيوش المسلمين .فرغم أن آية تقسيم الغنائم" ما يغتنمه المسلمون بالقتال " صريحة في تقسيم الغنائم متاعا كانت أو منقولا أو رقيقا أو عقارا أو أرضا على وجه المحدد في الآية " واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل" ،فماذا حدث عندما فتحت جيوش المسلمين أرض العراق في عهد عمر ،نترك الحديث هنا لأحد رواد العقلانية في كتاباتهم المبكرة وهو صاحب رسالة تعليل الأحكام إذ يقول " كان حكم الغنيمة التقسيم لا فرق بين أرض وغيرها ، كما صرح بذلك الكتاب الكريم وفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فلننظر إلى ما فعله الخليفة الثاني رضي الله عنه في الغنائم ،روى البخاري عن أسلم مولى عمر.
قال .. قال عمر" أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس ليس لهم من شيء  ما فتحت على قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله خيبر. ولكن أتركها لهم يقسموها " ،أي أن عمرا كان يود أن يقسم الأرض كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر لولا أن فعله هذا من شأنه أن يترك الأجيال القادمة فقيرة بلا مال (بيانا) ،ومن هنا أثر مخالفة سنة رسول الله حفاظا على ما يراه من مصلحة للأمة . ونفس ما حدث مع أرض العراق أحدثه عمر مع أرض الشام إذ يروي أبو يوسف أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة من المسلمين أرادوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يقسم الشام كما قسم الرسول صلى الله عليه وسلم خيبر فقال " إذن أترك من بعدكم من المسلمين لا شيء لهم "، ويعلق صاحب رسالة تعليل الأحكام على ذلك قائلا " فهذه الآثار تبين لنا وجهة نظر الفاروق رضي الله عنه فيما ذهب إليه ، فهو يسلم لهم هذا المال مما أفاء الله على المقاتلين بأسيافهم،وأن حكمة التقسيم كما فعل رسول الله ونطق به القرآن الكريم ،ولكنه يبين المانع منه فيقول " فكيف بمن يأتي من بعدكم ،وماذا يصنع بهذه البلاد التي تفتح وهي محتاجة إلى نفقة مبينا بذلك ما يترتب على التقسيم من الضرر العام الذي يلحق بالمسلمين في حاضرهم ومستقبلهم ويعترف مع هذا بأنه رأي لا نص فيه " ( محمد مصطفى شلبي، تعليل الأحكام ،رسالة نوقشت بكلية الشريعة عام 1945 وطبعت بالأزهر عام 1947، ص52 وما بعدها).
 
ومن ذلك أيضا ما روي عن عمر رضي الله عنه من مخالفة سنة الرسول من إيقاع الطلاق ثلاثا بلفظ واحد باعتباره ثلاث طلقات لا طلقة واحدة .فالآية الكريمة صريحة " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ،فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" ،وأنه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الرجل إذا طلق ثلاثا في مجلس واحد اعتبرت طلقة واحدة ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك غضب وقال " أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم –هي واحدة " ،أما في عهد عمر وعندما استخف الناس بالطلاق وأصبحوا يكثرون من إيقاع الطلاق ثلاثا بكلمة واحدة، فقد خرج عن سنة الرسول ورأى زجرهم بإيقاع الطلاق ثلاثا بائنا قائلا قولته المعروفة " إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم ،فأمضاه عليهم".
ومن ذلك ما هو معروف عن الزيادة في حد الخمر في عهد عمر رضي الله عنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر. فلم يكن لشرب الخمر حد معروف مقدر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر رضي الله عنه. روي أن خالد بن الوليد قد كتب إلى عمر إن الناس قد انهمكوا في الشراب وتحاقروا الحد والعقوبة .قال عمر وكان عند المهاجرون الأولون" هم عندك فسلهم فقال " علي "تراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون ،فقال عمر " بلغ صاحبك بما قالوا "يقول صاحب رسالة تعليل الأحكام تعليقا على ذلك " فكتابة خالد وسؤاله هذا وموافقة عمر على السؤال، وإجابة الصحابة بما أجابوا  به وعدم إنكار أحد دليل قوي على أن هذا الحكم شرع لغرض خاص هو الزجر ولا يلتزم فيه مقدار معين وأنه يتبع المصلحة وإلا لما سأل خالد ولما وافق عمر ولما أجاب هؤلاء، والذي نقصده هو إثبات أنهم فعلوا شيئا لم يكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم لاقتضاء المصلحة. ولا يليق بهم أن يخالفوا فعل رسول الله إلا إذا علموا أن هذا مقصد الشريعة ، ففعلهم هذا عين الموافقة ولكن سميناه مخالفة في موطن محاجة الخصم الذي لو سلم معنا هذا المبدأ، ومبدأ التعليل وأن بعض الأحكام يتبع المصلحة لما أطلقنا لفظ المخالفة على شيء من فعلهم " أي أن صاحب رسالة تعليل الأحكام كان يرى في الأربعينات أن بعض الأحكام تدور مع المصالح والمقاصد وجودا وعدما دون تقيد بظاهر النصوص ".
ومن ذلك أيضا ما يروى عن عمر من أن غلمانا لرجل يدعى حاطب سرقوا ناقته وانتحروها فأمر عمر بقطع أيديهم ثم أرسل من يأتي بهم وقال لوليهم " لولا أني أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو وجدوا ما حرم الله لأكلوه لقطعتهم ولكن والله  إذا تركتهم لأغرمنك غرامة توجعك "فأطلق الغلمان السراق وغرم صاحبهم ". يعلق صاحب رسالة تعليل الأحكام على ذلك قائلا "فانظر إليه وقد ثبت على هؤلاء ما يوجب القطع ،وبعد الأمر ينهى عن التنفيذ لما ظهر له ما يدفع الحد عنهم وهو أنهم جاؤوا وأخذوا مال الغير وذلك لفهمه أن القطع عقاب الجاني من غير حاجة ،ولو كانت الأحكام كلها ومنها الحدود يتبع فيها النص المجرد لما صاغ له رضي الله عنه وهو من أعظم خلق الله بشرع الله أن يخالف قوله تعالى " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " ومن أجل هذا المعنى نهى عن القطع عام المجاعة مع أن النص عام وشامل لجميع الأوقات .
ومن ذلك أيضا ما روي عن عمر رضي الله عنه من انه أمر بالقصاص من الجماعة لواحد ،أي إذا اشترك جماعة من الناس في قتل واحد قتلهم به جميعا رغم أن الآيات والأحاديث الواردة في القصاص لم تصرح إلا بقتل الواحد بالواحد والنفس بالنفس واشترطت المساواة في القصاص. فعندما رفعت إلى عمر قضية المرأة التي قتلت ابن زوجها هي وخليلها ،وبعد أن استشار عليا ابن أبي طالب كتب إلى صاحب السؤال يقول " أن اقتلهما فلو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلهم "، وهذا اتفاق على اعتبار المعنى دون توقف عند ظاهر النص لأن الوقوف عنده يؤدي إلى ضياع الدماء والحياة التي جعلها الله في القصاص.
ومن ذلك ما روي أيضا عن عمر من أن شخصا يدعى الضحاك أراد أن يحفر لنفسه مجرى للماء للاستسقاء يمر بأرض أخرا هو محمد بن مسلمة ،فمنعه محمد ،فقال له الضحاك " لم تنفعني وهو لك منفعة تشرب به أولا وآجرا ولا يضرك؟ فأبى ، فشكا الضحاك إلى الخليفة عمر ،فدعا عمر محمد بن مسلمة وقال " لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تشرب به أولا وأخرا وهو لا يضرك؟ فقال محمد " لا والله، فقال عمر " والله ليمرن ولو على بطنك وأمره عمر أن يجريه ففعل .فرغم الحديث الصحيح "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس " ،إلا أن عمر يقول صاحب رسالة تعليل الأحكام "قد حكم المصلحة ناظرا لأنه نفع محض لا ضرر فيه على صاحب المال وإن خالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورغم صحة ثبوت حديث حرمة مال المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه يرى عن عمر بن الخطاب أنه صادر أموال الولاة في حالة الشبهة يقول الشيخ محمد الخضري صاحب كتاب تاريخ الأمم الإسلامية "وقد شاطر عمر بعض العمال ما في أيديهم حينما رأى عليهم سعة لم يعلم مصدرها ولم يفعل هذا الفعل إلا قليلا وربما جد هذا العمل مجالا للانتقاد من الوجهة النظرية الدينية ولكن عمر كان يعرف من عماله من يستحق أن تقع به تلك العقوبة ".
هذه أمثلة عشرة نقدمها للقارئ حول موقف عمر بن الخطاب من قضية العلاقة بين النص والواقع ،لم ينظر عمر بثاقب نظره ورهافة حسه بالعدل إلى النص الديني على أنه سيف مسلط على واقع المسلمين يمر منه كما يمر من الزبد فيفصل بين الحق والباطل في حزم وحسم وقطع، بل نظر إليه على أنه يهدف إلى تحقيق مصلحة اجتماعية معينة هي المقصد من النص فإن تحققت به فبها ونعمت وإلا فالمصلحة أولى من الاعتبار لأن الشريعة دأبها حفظ المصالح ودرء المفاسد. وخلاف هذه الأمثلة التي قدمناها للقارئ وحرصنا على توثيق كل عبارة فيها تحسبا لصراخ المتنطعين ،هناك أمثلة أخرى عديدة على فقه المصالح عند عمر بن الخطاب وهي أمثلة معلومة جيدا لدارسي التاريخ الإسلامي ،ودارسي الفقه الإسلامي على السواء. وهي أمثلة معروفة ومشهورة ومتداولة في عشرات الكتب التي يقرأها المتخصصون. وهي وغيرها أمثلة كانت مصدر إلهام لإنتاج فكري عبقري للفقهاء وعلماء أصول الفقه يدور حول محور مهم من محاور الفكر الإسلامي وهو محو العلاقة بين النص والمصلحة ،إما انحيازا للمصلحة وإما انحيازا للنص على حساب المصلحة وإما محاولة للمواءمة بينهما اقتراب من هذا الجانب أو ذاك . تراث ثري عبقري نجده في فتاوى أبي حنيفة وكتابات مالك بن أنس وتلاميذه كالشاطبي واجتهادات الحنابلة في فقه المصالح وكتابات الشافعي والغزالي في الموضوع نفسه ورغم اتساع مساحة الجدل الفقهي حول العلاقة بين النص والواقع أو بين الدليل والمصلحة وهو جدل بطبيعة الحال محكوم بالإطار الثقافي والاجتماعي في عصره، إلا أن من حقنا أن نعجب كل العجب كيف أن هذا التراث لا يتم تبسيطه وإخراجه إلى غير المتخصصين. إنه شهادة على مسألة كبرى وخطيرة تهمنا في واقعنا الثقافي والاجتماعي اليوم، وهي أن العلاقة بين النص والواقع ليست بهذه البساطة والسذاجة التي يصورها بها عوام الفقه وصبية تكفير المجتمع بل وبعض الأحكام القضائية الحديثة ، فليس مجتمعنا بالمجتمع الكافر لمجرد أن آية الربا أو آيات الحدود لا تطبق في واقعنا المعاصر ،وليس المفكرون بمرتدين بمجرد أنهم رأوا رأيا لا يوافق التخريجات النصية لفقهاء النقل، بل إن مسألة أعمق وأكثر تعقيدا في كتابات علماء الأصول أنفسهم ، بل يصح الزعم أن مجتمعنا لا يطبق أحكام الشريعة الإسلامية زعما قابلا للرد والنقاش .
ونحن اليوم غرباء عن أحكام الشريعة الإسلامية لمجرد أننا لا نطبق آراء فقهاء المسلمين ، وإذن ماذا عن حال المجتمع الإسلامي قبل نشأة الفقه التقديري في القرن الثاني للهجرة ،قرنان من الزمان مرا على المسلمين لم يكن البناء المتكامل للتراث الفقهي قد ظهر بعد وكان الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون يجرون عملية مستمرة من الملائمة بين النصوص والواقع. قد يقال إنهم كانوا يطبقون النصوص ونحن لا نطبقها ،والإجابة أين تلك المعارضات الخارقة بين نظامنا القانوني المعاصر وبين النصوص التشريعية قليلة العدد في الكتاب والسنة ،وهل إن وجدت بعض المعارضات وعجزنا عن تبريرها بمنطق سداد الذرائع أو تخصيص العموم أو تحقيق المناط أو رعاية المقاصد تصلح لتبرير اتهامنا بتهمة الكفر والخروج عن ربقة الشريعة ؟.
أعجب أن هذا التراث العقلاني الهائل لفقهاء المسلمين في بحث العلاقة بين النص والواقع والمسمى بفقه المصالح لا يتم شيوعه وتداوله على ساحة الخطاب الإسلامي المتداول اليوم، إنه خطاب العقل في مواجهة خطاب الإزاحة المعتمد للعقل. فبدلا من أن نسمع ونقرأ كل يوم وكل ساعة خطابا إسلاميا يجلد المجتمع بسياط الكفر والمعصية ويجرم الفكر والمفكرين،لماذا لا نبرز إلى الصدارة خطاب العقل والعقلاء أي خطاب المصالح والمقاصد . وإذا قيل لنا إن الصبية الخوارج عوام لا يعلمون، فماذا عن الخاصة من الفقهاء العارفين والكتاب المتفقهين؟.
لم يكن عمر بن الخطاب في انحيازه إلى المصلحة الاجتماعية وإن وجدت شبهة تعارض مع النص وحده بين الصحابة التابعين وكثير من الفقهاء على مستوى النظر،ولم يكن الصحابة والتابعون ممن ينحازون إلى المصلحة يفعلون ذلك تطبيقا لقاعدة أصولية معروفة سلفا صاغها فقهاء الأصول، إذ أن علم أصول الفقه لم يكن قد ظهر على ساحة الفكر الإسلامي كعلم متميز واضح القسمات، وإنما كانوا يفعلون ذلك عن إدراك عميق لمقاصد الشريعة الإسلامية ،وفهم واضح بأن صالح المسلمين الذي هو مقصد الشرع رهين بتغليب المعنى على المبنى.وفي ذلك يقول صاحب رسالة تعليل الأحكام عن منهج التعليل لدى صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وكيف أن هذا المنهج لم يكن مجرد امتثال شكلي للنصوص وإن عارضت مصلحة المسلمين في واقعهم ،يقول "وجدوا أنفسهم أمام مشاكل والحياة المعقدة وحوادث الأيام المتجددة فبذلوا قصارى جهدهم في استنباط الأحكام بعد أن وقفوا على أسرار التشريع وعلموا أنها شريعة الخلود فسيحة الجنبات تسير بالناس إلى ما فيه سعادتهم ويحفظ مصالحهم " ثم يتابع حديثه ويقول "يحكمون أحكاما يخال أنهم خالفوا بها ما حكم الله به ولكنها بثاقب نظرهم علموا أن الحكم معلل بعلة قد زالت فيغيرون الحكم تبعا لتغير علته" . وفي موضع آخر يقول " ولكن الواقع الذي لا ينكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عملوا بالمصلحة في أبواب المعاملات وما يتعلق بالنظام الاجتماعي وإن كانت في مقابلة النصوص وأشهر ذلك عنهم في وقائع كثيرة ، وهم في ذلك لم يكونوا جناة على الشريعة ، كيف وهم الذين أقامهم الله حراسا عليها بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ".
والأمثلة على منهج الصحابة هذا في التعامل مع مشكلة العلاقة بين النص والواقع كثيرة تمتلئ بها كتب التاريخ والفقه وأصوله، وأن نتحدث هنا عن تأخير علي رضي الله عنه توقيع القصاص على قتلة عثمان
ولا عن عدم قصاص عثمان من عبيد الله بن عمر لقتله الهرمزان ولكنا سنورد بعض الأمثلة التي أصبحت بعد ذلك مادة لبحوث متعمقة في علم أصول الفقه ولآراء متباينة حول موقع المصلحة في التشريع الإسلامي من ذلك.
* ما روي عن زيد بن ثابت من أنه لا تقام الحدود في دار الحرب مخافة أن يلحق أهلها بالعدو.
* ماروي عن علقمة قال " غزونا ارض الروم ومعنا حذيفة وعلينا رجل من قريش فشرب الخمر فأردنا أن نحده – أي أن نقيم عليه حد الشرب- فقال حذيفة" تحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعون فيكم ".
* ومع وضوح أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم منع النساء إلى المساجد بقوله صلى الله عليه وسلم " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" .فلما مر من الزمان وتغيرت حال النساء قالت عائشة " لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما صنعت نساء بني إسرائيل". "فقد رأت أن ما حدث يقتضي تغيير الحكم السابق حينما كان الصلاح عاما والقلوب عامرة بالإيمان ،فلو استمر الحكم مع تغيير الحال لأدى إلى مفسدة عظيمة تربي على ما يجبله الخروج من المصلحة ".بل إن ابنا لابن عمر بعارض أباه وهو يستشهد بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم " ائذنوا للنساء بالمساجد في الليل" فيقول " والله لنأذن لهن فيتخذنه دغلا، والله لتأذن لهن .فسبه وضربه .
* وما روي عثمان رضي الله عنه من أنه ترك قصر الصلاة في السفر رغم ثبوته بالسنة قائلا" بلى ولكنني إمام الناس فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون 'هكذا فرضت".
* ورغم ثبوت رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسعير السلع عندما جاءه رجل فقال" يا رسول الله سعر لنا، فقال " بل ادع الله، ثم جاءه رجل فقال" يا رسول الله سعر لنا ،فقال بل الله يرفع ويخفض وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل وليست لأحد عندي مظلمة ".،رغم ثبوت هذه النسبة برفض التسعير إلا أن طائفة من التابعين قالوا بجوازه بعدما تغيرت الظروف والأحوال وبذلك أيضا أفتى بعض فقهاء المذاهب مثل مالك رضي الله عنه .
هذه الأمثلة وعشرات غيرها معروفة جيدا لرجال الفقه والأصول وتشهد أن موقف الصحابة والتابعين من مسألة العلاقة بين النصوص وواقع المسلمين المتغير لم يكن ذلك الفهم الشكلي الآلي الذي يقوم على تطبيق حرفية النصوص دون نظر إلى مقاصدها ومراميها بل كان فهما منحازا أبدا لصالح المسلمين وحاجاتهم الاجتماعية في زمان معين ومكان معين. فلماذا تختفي هذه الحقائق من مفردات الخطاب السياسي والثقافي للتيار الإسلامي بل ومن مفردا الخطاب الديني لدعاة عصرنا ،أليس من حقنا أن نظن ،ولو أن بعض الظن إثم ،أن أهواء السياسة تخفي ما تشاء من حقائق وتظهر ما تشاء من دعاوى؟.
على أي حال،لم يكن منهج الانحياز لمصالح المسلمين وفهم النصوص في ضوء مقاصدها ومراميها وقفا على الصحابة والتابعين في ممارساتهم الحياتية اليومية بل أنتج ذلك ثماره في صياغة تيار فقهي يعلي قيمة العقل والمصلحة وإن أسمى ذلك بالرأي أو الاستحسان.
يرصد أحمد أمين في فجر الإسلام العلاقة العضوية بين فقه عمر وبين ظهور مدرسة الرأي في العراق فيقول" وكان حامل لواء هذه المدرسة (مدرسة الرأي) أو هذا المذهب فيما نرى عمر بن الخطاب ،وأشهر من سار على طريقته عبد الله بن مسعود في العراق ،فكان يتعشق عمر ويعجب بآرائه،وروي عنه قال "إني لأحسب عمر ذهب بتسع أعشار العلم " ثم يتابع قائلا "وأنت إذا علمت أن عالم أهل العراق
كان عبد الله بن مسعود وأن مدرسة العراق توجت بأني حنيفة رأيت سببا كبيرا من الأسباب التي جعلت مدرسة العراق تشتهر بالرأي وإعمال القياس".
ففقه أب حنيفة إذن كما يرى أحمد أمين هو الثمرة الطيبة التي أثمرتها تقاليد عمر ومناهجه في رعاية المصلحة وفي فهم النصوص تبعا لمقاصدها ممزوجة بنزعة أهل العراق في هذا العصر إلى حرية الرأي والبحث والمجادلة .
ومعلوم أن أبا حنيفة لم يترك لنا كتبا دون فيها فقهه وإن ترك لنا فتاوى وأقوالا تبين منهجه في فهم العلاقة بين النص والواقع، ومن حق الباحث أن يتحرز في قبول أقوال تلاميذ أبي حنيفة مثل القاضي أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني وزفر وغيرهم على أنها تطابق فكر أبي حنيفة .فقد تعرضت آراء أبي حنيفة لهجوم شديد من أهل النقل وأهل الحديث لجرأتها وانحيازها للعقل والتشدد في الأخذ بالحديث ،لذا كان طبيعيا أن يرجع تلاميذه عن بعض آرائه وأن ينحازوا في آرائهم إلى فقه أهل النقل وأن يتخففوا من مسحة الرأي التي عليها فقه الإمام. لذا حق التمييز بين فقه الغمام أبي حنيفة وفقه المذهب الذي صاغه تلاميذه من بعده.
يقول أحمد أمين في موقف أبي حنيفة من الأحاديث التي كان يتشكك فيها لمعارضتها للعقل " والظاهر أن أبا حنيفة كان ينكر هذه الأحاديث لأنها لم تصح عنده، فشنع المحدثون عليه وقالوا إنه ينكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم ويقدم عليه رأيه،ويقولون "ما رأينا أجرأ على الله من أبي حنيفة ،كان يضرب الأمثال لحديث رسول الله، وأحصوا عليه أنه أفتى بنحو مائتي مسألة خالف فيها الحديث. قال رسول الله" للفرس سهمان وللرجل سهم " ،فقال أبو حنيفة أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من المؤمن ،وقال صلى الله عليه وسلم "البيعان بالخيار ما لم ينفرا" وقال أبو حنيفة إذا وجب البيع فلا خيار،وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفره وقال أبو حنيفة " القرعة قمار... الخ.
وذلك كله لأنه كان يضع شروطا شديدة في قبول الحديث بدونها لا يصح عنده ويصح عنده غيره.كما برع أبو حنيفة في استعمال الحيل الشرعية كوسيلة لمراعاة مصالح المسلمين مع الحفاظ على نفوذ النص من الناحية الشكلية وأصبحت هذه الحيل من بعده بابا واسعا من أبواب الفقه تؤلف فيه الكتب وتعقد فيه الأبحاث.فيستقيه أحدهم أنه حلف ليقربنه امرأته في رمضان فيفتيه أبو حنيفة أن يسافر بها (لأن السفر يحل الإفطار) فيقربها نهارا في رمضان . ويحلف رجل وقد رأى امرأته على السلم فيقول " أنت طالق ثلاثا إذا صعدت وطالق ثلاثا إذا نزلت فيفتيه أبو حنيفة أن تبقى في مكانها لا تصعد ولا تنزل وأن يحمل رجال السلم بالمرأة فيضعونه على الأرض.
التشدد في قبول الحديث من ناحية وخاصة ذلك الذي يعارض العقل ،والتوسع في الحيل الشرعية من ناحية ثانية والأخذ بالاستحسان من ناحية ثالثة ، ذلك هو منهج أبي حنيفة وريث مدرسة عمر في التوفيق بين النص والواقع.
ولنتوقف عند هذا القدر، لأن الاستطراد سيدخلنا في طرقات ودهاليز علم الأصول وهو ما لم نقصده ولا نقدر عليه.إنما ما نقصده وما نلح عليه أن التراث الفكري الإسلامي يتعالى ويسمو أن يكون مختزلا في تلك الصياغة البسيطة التي يروج لها العوام وأدعياء السياسة."إن الحكم إلا الله" ثم بعد ذلك ينزلون بالنصوص سيوفا يهوون بها على واقع المسلمين دون نظر إلى مصالحهم ومستجداتهم . إن التراث الفكري الإسلامي سواء على مستوى الممارسة في عهد الصحابة والتابعين أو على مستوى النظر في عهد الفقهاء هو تراث المواءمة بين النص والواقع وهي مواءمة لا يقدر عليها من زماننا إلا أهل العقل والقلم لا أهل النقل والسيف.
بقلم عبد العزيز الخطابي