العامية لغة أم لهجة - أسئلة اللغة والهوية بقلم سمير الأمير
تاريخ النشر : 2018-02-18
العامية لغة أم لهجة - أسئلة اللغة والهوية
بقلم/ سمير الأمير

بالرغم من أن كثيرين من أبناء وطنى يرددون دعاء " ربنا لا تشغلنا بأنفسنا طرفة عين "، وهو عندى يعنى أن علينا أن ننظر للأمام ولا ننشغل بالوقوف أمام المرآة معظم الوقت، إلا أنه بات من الواضح أننا ننشغل بأنفسنا " ونشتغل أنفسنا" بدرجة أصبحت تهدد حياتنا، ولعل افتعال المعارك بين مؤيدى اللغة الرسمية وأنصار العاميات واللهجات يجسد تلك الخيبة، تماما كأسئلة الهوية التى قتلت بحثا ولا تزال محورا لصراعات خائبة بين من يصرخون بأننا "مسلمون " فقط أو عرب فقط أو مصريون وكفى، وهو أمر قلما تجده عند الشعوب التى أفلتت من دوائر الجهل والتخلف ووجدت فى الإنتاج والإبداع و تجذير قيم الحداثة الإجابة الأجدر بالتعبير عن هويتها، ولم يكن ذلك تنكرا لا لماضيها ولتراثها ولا للغتها على الإطلاق، ولكنها لم تقع فى شرك الدفاع عما تعتقد أنه ثوابت مقدسة وهو ليس كذلك بحكم أن الحياة متجددة وخضراء و تعبر عن نفسها دائما بتطوير لغات وقيم جديدة بشكل طبيعى، وأنها ماضية فى تطورها غير عابئة بهؤلاء الباكين على الطلل الذى تجاوزه الواقع ولكنه يحيا فى نفوسهم ويعتم رؤيتهم ويوقف نموهم، وهل من المعقول أن تقام المؤتمرات وتصرف المكافآت لبحوث أصبحت عناوينها مكرورة فضلا عن فجاجتها وسذاجتها من نوع " التراث والمعاصرة " أو " العامية لغة مستقلة أم لهجة من لهجات العربية؟" وفى هذا السياق يطيب لأعداء " العامية " سحب قداسة القرآن الكريم على اللغة والمطابقة بينها وبين الدين ورغم أنهم يتحدثون إلى أبنائهم وزوجاتهم وجيرانهم وزملائهم باللغة اليومية الحية، إلا أنهم يتغاضون عن هذا التناقض الذى يمثل " الخشبة فى أعينهم " ويشعلون الحرائق حول " قذى عيون الآخرين "، حتى وصل الأمر إلى اتهام مبدعى الأدب العامى بأنهم " خبثاء" يستهدفون القضاء على ديننا وهويتنا وأنهم فى المحصلة الأخيرة عملاء للاستعمار أو على أقل التقديرات يظاهرون على مقدسات الأمة وتراثها دون وعى بخطورة ما يفعلون، وفى تقديرى أيضا رغم أننى لن أحذو حذوهم فى تلفيق التهم أن ما يفعله هؤلاء هو الذى يعطل الملكات ويبدد الجهود ويجعلنا كأمة نقف متفرجين على الحياة عوضا عن المشاركة فى مسيرتها نحو الرقى والتقدم وعوضا عن كبح أطماع البشر المتقدمين الذين يعانون من عقدة " مركزية تقدمهم " والذين يريدون لنا أن ننشغل بأنفسنا ليتثنى لهم الانشغال بابتلاع ثرواتنا بينما نتعارك حول من نحن وأية لغة من لغاتنا ينبغى أن تسود وأية لغة ينبغى أن نتوب عنها؟، إن الأمر فى تقديرى جد خطير لدرجة أننى بت أفكر فى أنه طالما أن تقدم الحياة من حولنا لا يجبرنا على قراءة شروطه والامتثال لقوانينه فإنه ينبغى على الحكومات و وزارات التعليم والثقافة فى بلادنا أن تفرض تلك الشروط عبر وسائلها ووسائطها بشكل غير مباشر وعبر قوانينها أيضا بشكل مباشر، ولا يظن أحد أننى أدعو لانقلاب فكرى فأنا أتمنى أن أموت مدافعا عن تراثى ولغتى وثقافتى ولكن من قال أن العربية الرسمية هى فقط لغتى ومن قال أن العروبة فقط أو المصرية فقط هى انتمائى؟ إننى أعنى أن علينا احترام تنوعنا فى إطار وحدتنا وأنه لا ينبغى النظر لرافد واحد أو للهجة واحدة باعتبارها الأعلى أو باعتبارها الأكثر تعبيرا عن هويتنا فتلك كذبة كبرى تعطل إدراكنا لما ينتظرنا من فخاخ أخري ولعلى هنا أتذكر مسرحية " بجميليون " للكاتب العظيم برنارد شو التى رصد فيها اختلاف اللهجات من شارع لآخر فى مدينة لندن، حتى أصبح عالم اللغة يستطيع أن يحدد عنوان من يستمع إليه دون حاجة لأن يخبره الشخص أين يعيش؟ من هنا فإن معاداة التجليات الحية للغة الأم هى التى تهدد تاريخ الأمة، لأن القداسة التى انسحبت إجحافا على اللغة العربية فى بلادنا هى التى منعت تطورها وحدت من استيعابها لمفردات جديدة لفترات طويلة وأصبحت من ناحية أخرى مسارا للتندر وإيفيهات الممثلين الهزليين السخيفة، ولكن حمدا لله أن الأمر لم يستمر طويلا فلفظة " "الكمبيوتر" مثلا أصبحت أكثر استخداما من كلمة " الحاسوب" المثيرة للضحك وما الضير إذن إذا كان القرآن الكريم نفسه يحتوى على ألفاظ غير عربية، بما يشير أن قداسته هى مسألة أعمق من أن تقف عند مجرد " لفظة"، ويبدو أن المسلمين والعرب من أسلافنا كانوا أكثر انفتاحا وتفهما من المتسلفين الذين يقبعون فى عقولنا مدججين بأسلحة التكفير والترهيب، وما الذى فعله " الإنجليز" مثلا حين غزت بعض الكلمات العربية لغتهم " كالجبر والكيمياء والقطن " هل فعلوا مثلنا وعقدوا المجمعات العلمية ليستبدلوا كلمة " الكحول " مثلا بجملة طويلة كما قيل عن التلفزيون أو السينما عندنا " جهاز الرؤية فى الظلام" قبل أن نهتدى للفظة " التلفاز" العجيبة، أو كما كان مدرسنا فى " عزبة الأمير" يصر على أن " الساندويتش" هو " شاطر ومشطور ومحصور بينهما طازج"

يبقى أن أكرر هنا ما كتبته فى مقالات أو أبحاث سابقة من أن " الفصاحة" ليست حكرا على اللغة الرسمية فهناك لغة رسمية منضبطة نحويا ولكنها ركيكة بل وسخيفة وهناك أشعار وأغانى " بالعامية المصرية هى نموذج للفصاحة ذاتها ، ولقد كان المتنبى وغيره من أسلافنا الشعراء فصحاء و أورثوا فصاحتهم للسياب ولعبد الصبور ودرويش كما أورثوها لبديع وبيرم وفؤاد حداد.