بمَ نبدأ، أين من هنا؟!بقلم:عريب الرنتاوي
تاريخ النشر : 2018-02-13
بمَ نبدأ، أين من هنا؟!بقلم:عريب الرنتاوي


إن لم نجرؤ على "الانتصار" على مراوحتنا وترددنا (أو قل قلقنا)، وإن لم نُعمِل التفكير من "خارج الصندوق"، سنبقى ندور في حلقة مفرغة من الأزمات المتكررة والاستعصاءات التي لا تنتهي ... ونقطة البدء ترتسم بالاعتراف بأننا في أزمة مركبة: أزمة في علاقاتنا مع بعض حلفائنا العرب، وأزمة في علاقتنا المفخخة مع حليفنا الدولي الأهم: الولايات المتحدة، وما يخبئه لنا في طيات "صفقة القرن"، وأزمة اقتصادية طاحنة، لم تعد تُقرأ بأرقام الاقتصاد الكلي والجزئي، بل بمفاهيم الأمن الوطني ومفرداته.

والأهم والأخطر، من كل هذه الأزمات المتراكبة، أنها أنجبت، مع استطالة المراوحة على مسار الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي، أزمة ثقة تزداد عمقاً بين الدولة وقطاع من مواطنيها، إن على خلفية الضرائب ورفع الدعم، أو على خليفة التلكؤ في محاربة الفساد، أو بفعل انسداد أو ضعف قنوات المشاركة والتمثيل.
 
الشكوى المريرة تُسمع في كل مكان، وحيثما حللت وارتحلت، وهي تصدر عن فئات بمرجعيات ثقافية واجتماعية وسياسية مختلفة، لا يجمعها سوى الغضب من الوضع القائم، وانعدام الثقة بالخطط والاستراتيجية والأوراق والمبادرات، التي عادة ما تركن في الأدراج من دون أن ترى طريقها إلى حيز التنفيذ ... وانعدام الثقة هذا، ينسب على المسؤولين والقائمين على هذه الخطط والاستراتيجيات، وكلما دخلنا في دورة جديدة من دورات الأزمة المتكررة والمغلقة، كلما ارتفع منسوب الغضب، ومعها الشعارات والصرخات المعبرة عنها، وكلما ارتفعت سقوفها، وهذا تطور يتعين أخذه بالجدية التي يستحق، بدل الغرق في تقليل شأنه من جهة، أو نسبته إلى "المندسين" و"الطابور الخامس" من جهة ثانية، وأصدقكم القول أنني كلما استمعت إلى هذه المفردات أو نظيراتها، كلما تأكدت أننا ما زلنا نعيش أسرى لـ "حالة إنكار" تكاد تسم سلوكنا وتدابيرنا وردات أفعالنا.
 
حتى رأس الدولة، جلالة الملك، يتساءل في حواراته الصريحة والمفتوحة مع طلبة الجامعات ومع بعض النخب السياسية، عن مصير "أوراقه النقاشية"، بل ويذهب إلى دعوة المواطنين، لممارسة "الضغط من تحت"، لكي يلتقي مع "الضغوط التي يمارسها من فوق"، لتعبيد طريق التغيير، وجعل الخروج من هذه الازمات والاستعصاءات، أمراً ممكناً.
 
ثمة حيرة في الإجابة على أسئلة من نوع: بم نبدأ، ومن أين نبدأ، وأين من هنا؟ ... وثمة القليل من الخيارات والبدائل التي بوسعنا اعتمادها، أقله في المديين القصير والمنظور ... وأحسب أن ضائقتنا الاقتصادية والمالية، ليست من النوع الذي يرتجى معه فرجاً قريباً أو انفراجاً في غضون الأعوام الثلاثة أو الخمسة القادمة ... فكيف سنتصرف حيال وضع كهذا؟ ... وكيف يمكن إقناع المواطنين كافة، بأن "ليس بالإمكان أبدع مما كان"؟ ... عموم المواطنين، غير مقتنعين بأننا نبذل كل ما بوسعنا لوقف الهدر ومحاربة الفساد وإيجاد الحلول للمشكلات التي تعترضنا ... وثمة أسباب عديدة لاتساع "فجوة الثقة" هذه، من بينها ضعف الثقة بالطبقة السياسية التي تعاقبت على البلاد خلال السنوات العشرة أو حتى العشرين الفائتة.
 
وفي مناخات كهذه، فإن تغيير الحكومة لم يعد حلاً، ربما يوفر جرعة أسبرين لعدة أسابيع أو أشهر، ربما يكسبنا فسحة من الوقت والأمل، بيد أن المشكلة ستعاود التفاقم من جديد، لندخل في دورة جديدة من دورات الأزمة وتآكل الثقة ... استمرار الحال على هذا المنوال، من شأنه أن يضعف نظامنا السياسي، فلا نظام يمكن أن يستقر من دون "مصدّات" قوية تدرأ عنه رياح الغضب والاتهام، وأهم مصدتين يمكن اللجوء إليهما لتحصين النظام، هما برلمان قوي وحكومة منبثقة عنه، يتحمل الشعب وزر انتخابه وتتحمل حكومته وزر ما يترتب على سياساتها الاقتصادية والاجتماعية من نتائج وتداعيات.
 
نقطة البدء، في هذا المسار، وإجابة على سؤال بمَ نبدأ، أو أين من هنا؟، تتمثل في تشكيل حكومة سياسيين مصغرة، من شخصيات مشهود لها بنظافة اليد والقلب والسريرة واللسان، ودعوا الجوانب الفنية للفنيين والتكنوقراط، فالوزارة منصب سياسي بامتياز، وهي لم تفقد وظيفتها وأهميتها وهيبتها إلا بعد أن أصبحت "وظيفة فنية" لا أكثر.
 
حكومة "إنقاذ وطني"، حكومة "أقطاب"، حكومة "سياسيين"، سمّوها كما شئتم، لكن الأصل أنها تضم على مقاعدها، قليلة العدد بالضرورة، شخصيات سياسية رؤيوية، تسعى في إدارة حوارات وطنية حول السياسات العمومية، وتجرؤ على وضع قانون انتخاب مغاير، غير ذلك الهزيل الذي اعتمد في الانتخابات الأخيرة، والذي جاء ببرلمان من طراز وشاكلة ما سبقه من برلمانات الصوت الواحد، إن لم يكن أضعف منها، فاستحق لكل ذلك، هذه "الغضبة" الجماهيرية العارمة، وكل هذه المطالبات بترحيله وتقصير عمره.
 
قانون انتخابات يقلص عدد أعضاء المجلس النيابي إلى 80 عضواً، كما كنا من قبل، واستتباعاً، يقلص عدد أعضاء مجلس الأعيان إلى قرابة النصف ... حكومة رشيقة وبرلمان رشيق، ينتخب نصف أعضائه وفقاً لقوائم وطنية والمملكة دائرة واحدة، أما نصفها الآخر، فيوزع بعدالة وإنصاف على الدوائر الانتخابية، ووفق معايير شفافة ومتوافق عليها.
 
ولنخض تجربة الحكومات البرلمانية، قولاً وفعلاً، وليُمكن "ائتلاف الأغلبية" من تشكيل الحكومة، وليجلس بقية النواب في مقاعد المعارضة، شأننا في ذلك شأن سائر خلق الله ... وليس لدينا ما نخشاه أو نقلق منه، فقد حيّدت التعديلات الدستورية الأخيرة المؤسسات الأمنية والعسكرية عن التجاذبات السياسية، ولنترك للحكومات المنتخبة ممارسة ولايتها العامة.
 
وقد تمهد حكومة السياسيين المصغرة، الطريق للانتخابات المبكرة والبرلمان الجديد والحكومة البرلمانية، بحوارات وطنية، تنتهي إلى "ميثاق وطني جديد"، يرسم قواعد اللعبة السياسية، وبمشاركة الجميع، ويستبطن منظومة من القيم والحقوق والقواعد "فوق الدستورية" التي لا تتيح لحزب (ائتلاف الأغلبية) تغيير وجه الأردن، وقلب أوضاعه رأساً على عقب.
 
قد يسأل سائل، وكيف ستكون المعالجة للملف الاقتصادي الشائك والمعقد، وجوابي أنني لا أدري، وقد لا تكون هناك معالجات من النوع الشافي والوافي، بيد أن نقطة الاختلاف الجوهري بين الطريق الجديد لتشكيل الحكومات، الذي دعت إليها الأوراق النقاشية عن الأشكال والطرق المعتمدة حتى الآن، أنه سينقل عبء المسؤولية إلى حكومات يختارها الشعب بنزاهة وعدالة وشفافية، أي إلى الشعب نفسه، وليس إلى فريق وزاري، لا يعرف الناس، كيف تم انتقاؤهم، ولماذا، وما هي حدود التفويض الممنوح لهم لممارسة أدوارهم.

تونس التي تسير على خطى الديمقراطية أكثر من غيرها من بلدان الربيع العربي وغيرها، تعاني ضائقة اقتصادية طاحنة ... الديمقراطية ليست وصفة سحرية لحل التحديات الاقتصادية والاجتماعية وتجاوزها، بيد أنها توفر آليات المساءلة والمحاسبة، وتضع المواطن في صلب عملية صنع القرار، ومن دونها، سيجري تصويب النيران في كل الاتجاهات، من دونها، قد تتحول الضائقة الاقتصادية إلى فتيل انفجار محتمل، من دونها نكون قد سلكنا الطريق ذاته الذي سرنا عليه لسنوات طوال، على أمل الوصول إلى نهايات مغايرة، وتلكم أسوأ وصفة أو توصية، يمكن أن يقترحها المراقب المخلص للمشهد العام.