التجريد نضج التشابهات المتناقضة من جمالية هندسة الخطوط إلى انبعاث النور في الحرف العربي
تاريخ النشر : 2018-01-30
التجريد نضج التشابهات المتناقضة من جمالية هندسة الخطوط إلى انبعاث النور في الحرف العربي


بشرى بن فاطمة

 
الأمريكي ارنست نويل بوسي والفلسطيني فائق عويس
 التجريد نضج التشابهات المتناقضة من جمالية هندسة الخطوط إلى انبعاث النور في الحرف العربي

إن التعمق في التجارب التشكيلية العربية وما يلازمها من بحث وتجديد والتزام يضعها في مسارات عالمية وتلاوين معتقة النضج في التقنيات والأساليب الفنية التشكيلية الحديثة، خاصة عندما يكون التشكيلي ثنائي الثقافة ومزدوج الانتماء الغربي والشرقي كما يبدو في تجربة الفنان الخطاط الفلسطيني فائق عويس، الذي حقق في تجربته الفنية عالمية لامست التجارب الكبرى في الفنون الجميلة وسنحاول من خلال بحثنا أن نخوض في تجربة عويس وتشابهاتها مع التجربة العالمية للتشكيلي الأمريكي أرنست نويل بوسي من خلال فكرة التجريد بين هندسة الشكل من ناحية و الخط والحرف العربي من ناحية أخرى.

يعتبر ارنست نويل بوسي (1937-2007) أبرز فناني التجريد في الولايات المتحدة الأمريكية فهو أكثر فنانيها التشكيليين المعاصرين تطويرا للفكرة وتعمقا في بنائها وتشكيلها هندسيا بالتفاعل مع الضوء.
ولد ونشأ في نيو أورلينز، وحصل على درجة عليا في الفنون الجميلة من جامعة لويزيانا وشهادة تخصص في الهندسة المعمارية من تولان.
 
ارنست نويل بوسي


 انتقل إلى مدينة نيويورك لمتابعة شغفه بالرسم وبداية العمل في مجال الإعلانات الذي أضفى على منجزاته لمسات جمالية معاصرة طالت ذوقه المبتكر فتألق فنا وتصميما.
 
أرنست نويل بوسي


قدم أول معرض فردي له في عام 1966 في هينري غاليري المرموقة في واشنطن حيث لفتت أعماله الانتباه إلى تجربته، في عام 1968 انتقل إلى سان فرانسيسكو، حيث كان لديه عرضا آخر منفردا في غاليري فان دير فورت.
 درس في كلية كاليفورنيا وأكاديمية سان فرانسيسكو للفنون حيث كان رئيسا لقسم الفنون الجميلة، شغل منصب مدير الأعمال في اتحاد كاليفورنيا لمعلمي الفنون.
وهو أيضا صانع أفلام ومخرج تلفزيوني ومصمم جرافيك ومصور كتب، تخصصه في الاعلام والاتصال جعله متحدثا لبقا وموسوعي المعارف في كل مجالات الفنون وعلاقتها بالعلم.
فقد أسس مدرسة متنوعة الأساليب التعبيرية من خلال التجريب متعدد الوسائط فيديو رسم نحت تركيب طباعة كل ذلك بشغف فني ونضج تفاعل مع كل مراحله العمرية التي قدّمته الفنان الانسان المتصل مع الآخر بكل اللغات الجمالية التي تنبع من الثقافة والذات الإنسانية الغارقة في البحث.
 
من أعمال إرنست


أما عن فائق عويس فهو فنان فلسطيني يعتمد على الخط العربي في تنفيذ أعماله الحروفية ذات الرؤية الفنية المعاصرة حيث يخضعها لهندسة وزخرف وتقديم عالمي له طابعه التجريدي المنفرد في التنسيق الكامل بين الضوء والشكل والخط والفضاء وقد ساعده اختصاصه في مجال التعريب واللغة العربية التي يعمل حاليا على دعمها وتطويرها خاصة في المجالات الرقمية ومن خلال الهواتف الذكية بوضع معايير ومصطلحات عربية من خلال عمله مع شركة "جوجل".
 
فائق عويس


 فائق عويس حاصل على شهادة الدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية وعمل أستاذًا للغة والثقافة العربية في جامعة سانتا كلارا بكاليفورنيا، وهو أيضا فنان يعمل على تصميم لوحات تتركز على استخدام الخط العربي كعنصر أساسي إضافة إلى تجريب الخط العربي على خامات متعددة مثل القماش بالطباعة والتطريز والخشب والحديد حيث يخضعه لعناصر الهندسة بتكاملاتها مع الفضاء ومساحات الزخرفة، وقد أقام العديد من المعارض الفنية في الولايات المتحدة والإمارات وقطر وفلسطين.  
 
من اعمال فائق عويس


 أصدر مجلدا في الولايات المتحدة بعنوان "موسوعة الفنانين الأمريكيين العرب" وقد حاز الكتاب على جائزة شرف من المتحف العربي الأمريكي، كما صمّم مدخل وقبة المتحف العربي الأمريكي في ميتشغان وجدارية لتكريم المفكر الفلسطيني الأمريكي "إدوارد سعيد" في جامعة سان فرانسيسكو.
يقيم فائق حاليا في دبي وكان ناشطا مع الجالية العربية في منطقة سان فرانسيسكو حيث ترأس جمعية "زوايا" وهي جمعية تعنى بالتراث والأدب العربي والموسيقى والثقافة العربية.
إن التوافق التشكيلي في الرؤى الموظفة بين تجربة ارنست وعويس تتشابه في تركيزها على التواصل في الأبعاد والموازين في التساوقات اللونية والمعادلات الضوئية فهي تتفاعل مع المخيلة بصريا حيث تشرق بسطوعها وتندمج مع الفكرة بشكل مثير للقابلية الذهنية التي تبحث بدورها عن المعنى سواء في العلامة التجريدية للشكل الذي يهندسه أرنست أو الحرف العربي في منجز فائق عويس.
 
حروفيات فائق عويس


 فالأعمال المنجزة سواء لارنست أو لعويس تخضع للتجريد المعاصر في دقة التعبير عن الجوهر والغوص في المعارف المتحررة من واقع يتماثل بين الصدام الحسي والصراع الفكري فالأعمال تتفاعل مع فكرة التجريب بين الشكل والهندسة وإخضاعه للفكرة ومجازها حتى تلتزم بمرونة للتأويل بين الوعي واللاوعي فتختزل الذاكرة وتخزن أحاسيسها بقيمها المهيأة للانفلات من الضيق.
فأرنست بحث في أعماله عن عمقه الذاتي الذي يعيد من خلاله إدراك الأشياء في علاماتها بين الواقع والخيال والحنين والتذكر.
أما عويس فبالتجريد الحروفي لامس التصوف في تناغماته الإيقاعية بين حساب الحرف وخطواته والفضاء وتوازناته ما خلق صفاء في الأشكال الدائرية وفي الأفق الممتد بين السطح والعمق متوجها برقصاته الصوفية الى السماء في حركات هندسية بين التدوير والتكرار والترادف ليتوحد مع الذات، فيتعايش مع البريق الضوئي المتشكل ليظهر في سطوع يمزج المرئي واللامرئي في توافق يتوحد وينفلت ينكسر ويستقيم يبرز ويختفي وكأنه يداعب المعنى في الكلمة العلامة ويفجر طاقاتها في المجازات المطلوبة من الخيال.
عند أرنست تتجمع الأشكال على نقطة واحدة وكأنها تلتف حول الفكرة الأولى بداية الخلق والضوء الذي يتساقط ويتوارى منها وإليها وكأنه يبحث عن منافذ في الشكل الذي يحتوي تلك الخطوط، فهو مرة يختارها دائرية فيرقّص الخطوط مع الألوان والضوء على شكلها ومرة تكون محدودة مع الشكل المثلث أو المربع حيث ينبتها ويقتلعها ينتشلها ويحوّلها كما يشاء ليمنحها الحيوية في التفاعل مع أحاسيسه وتوتراته أفراحه وأحزانه ارتباكه وقلقه فهو يتقمص خطوطها ويركّب معها الضوء ليحركها.

نويل ارنست بوسي


تكمن الحرفية في تجربة فائق عويس وملامستها الحضور العالمي في كونه يعرف كيف يرمم الفكرة بزخرفيات ضوئية تصارع انفلاتات الواقع فهو يلبسها العلامات اللازمة شكلا هندسة ولونا ويستقيها من عمق المفهوم والمعنى من خلال البحث والتنفيذ فتنشأ وفق العمق التجريدي الذي يوغل في طرح العلامات الهندسية المزخرفة بإيقاعات المعنى.
 
فائق عويس

أما ارنست فقد استطاع أن يجمع الهندسة والعلم مع التشكيل ودرجات الضوء الملونة بروح متماسكة الفكرة مع الإشارات الصارخة باللون وإيقاعها الصوتي وتناغم تصاعداتها والتفافها بين الخطوط والنقاط المتداخلة بكثافة مع المفردات البصرية بدهشة مثيرة اعتمدت كل الخامات التشكيلية لتصل إلى أبعد مدى التعبير الفني.
أرنست


 فهو فنان لم يهدأ لحظة عن التجريب والبحث والتعلم والتعبير ودمج كل الأشكال الهندسية بدقة تتمرد على الفوضى استطاع أن يلزم الخطوط بالدوائر والنقاط بالمربعات ويحتويها جميعا في الخلايا الهندسية باندماج الضوء ما أضفى على تجربته نضج التجديد والجرأة التي استفزته لترويض الأشكال.
في تجربة أرنست وعويس تجسيد للواقع بصياغة جمالية للخيال بصريا يتجلى فيها الإحساس باللون والحركة  كعملية انتقال ومحاكاة الطبيعة والفضاءات الخارجية والمعنى من خلال عملية التفكير والتذكر والشعور بالعالم الداخلي عمق الإحساس والتفاعل معه وبالتالي ترجمته إلى أشكال وعلامات مرئية من خلال الهندسات بين الشكل والحرف وتداخلها بكثافة تتطابق مع مراحل التجريد التي تلامس الحضور اللوني وبريقه الضوئي الذي ينتشل الفكرة من الواقع إلى الخيال بديناميكية وحيوية.
إضافة إلى أن عويس يمتلك مثل ارنست الحدس الذي يمكنه من الانفلات نحو عمق الضوء وهو ما يسعى إلى خلقه في كل تجربة يعتق فيها الحرف في عمق التجريد بعلاماته التي تلامس المعنى والشكل والهندسة.
 
فائق عويس


 تتجلى في التجربتين مشاعر العنف الجمالية التي تحتدم في الشغف المجرد لعمق المنجز الفني في كل المؤثرات اللونية المتفجرة في الضوء لتسرد الأعماق فبين تجريب عويس التشكيلي بالحرف والزخرف وتجريد أرنست الهندسي للخطوط والأشكال تتماهى درجات الألوان في استبصار عمق الضوء داخل التمثلات اللونية ليخلق كل منجز من أعمالهما معان ترتجل المجال التعبيري الذي يستبطن الذات ويستفيض المشاعر.


*الأعمال المرفقة:
    متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية 
     Farhat Art Museum Collections