شهر رمضان في ريف فلسطين بقلم: د. كاظم ناصر
تاريخ النشر : 2018-01-26
شهر رمضان في ريف فلسطين  بقلم: د. كاظم ناصر


شهر رمضان المبارك له مكانة خاصّة عند المسلمين أطفالا وشبابا وشيوخا ونساء، ليس لأنّه أحد أركان الإسلام الخمس فقط، ولكن أيضا لما يمتاز به من ممارسات دينيّة وتغيير في نمط حياة وسلوك الناس؛ في مدن وقرى فلسطين له ولعيد الفطر والأعياد الدينية لأخرى مكانة روحية واجتماعية مميّزة لأن فلسطين أرض الحضارات ومهد الأديان، وبلد المسجد الأقصى والصخرة المشرفة وكنائس المهد والقيامة، وهي التي أنجبت موسى كليم الله، وعلى ترابها الطاهر ولد وعاش عيسى المسيح ابن مريم البتول عليه السلام، وفيها هبط البراق بمحمد في اسرائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومنها صعد إلى السماء للقاء ربه.
في هذه الأرض الطيّبة الطاهرة يستقبل الفلسطينيون رمضان بأحاسيس سلبيّة وإيجابيّة واضحة التناقض والدلائل؛ فمن الناحية السلبيّة فلسطين حزينة بكبرياء تئنّ تحت احتلال بربري غاشم يحاول أن يزوّر تاريخها، ويصادر مجدها، ويستبدل أهلها بأناس لا علاقة لهم بها وبترابها وتاريخها وثقافتها؛ ومن الناحية الإيجابية فإنها تظل أرض الخير والحب والتسامح والشموخ والصمود والتضحيات، وستنتصر بأهلها، وتحافظ على تراثها وقدسيّتها وجمالها، وسيظل رمضان من أقدس الشهور التي يعيشها أهلها .
وبالرغم من أن تاريخ بداية ونهاية كل شهر رمضاني تختلف في كل عام بسبب اختلاف منازل القمر في كلّ سنه، وتحتضنه في دورته شهور السنة الاثنا عشر وفصولها الأربعة، فإن بهجته ومتعته ومكانته الدينيّة لا تتغيّر سواء جاء في الصيف، أو الخريف، أو الشتاء، أو الربيع لأن لكل فصل جوّه الرمضاني الجميل، وثماره وخضاره المميّزة، ونشاطاته التي كان وما زال أبناء الريف يستمتعون بها، ويكيّفون حياتهم لتتناسق مع الصيام وطقوسه، ومع أعمالهم في الزراعة ورعي الماشية والتجارة.
رمضان ريف فلسطين في خمسينيات القرن الماضي كانت له قدسيّته ووقعه الديني الخاص، وفرحته المميّزة، وأصالته وعبقه الماضوي، وعالمه الذي يختلف كثيرا عن عالم المظاهر الرمضانية في الوقت الحاضر. فعندما كان يقترب الشهر تبدا النساء بتحضير ما سيحتجنه لإعداد الأطباق الرمضانية الشهيّة لأسرهنّ كالشعيرية البلديّة التي كنّ يحضّرنها من عجين القمح، وينشّفنها في الشمس، ويقمن بقليها لخلطها مع الأرز عند سلقه، ويحضرن الكشك ( الجميد ) لعمل المنسف، ومخللات الفلفل والخيار، ويتأكدن من وجود ما يكفي من البرغل والفريكة والعدس والسميد وغيرها من اللوازم الضروريّة التي كانت تنتج محليّا.
وعندما تعلن الدولة أن اليوم الأول من شهر رمصان هو غدا، تعمّ البهجة أرجاء فلسطين لأن رمضان يعني لأهلها المزيد من العبادة والتقرّب من الله سبحانه، وصفاء النفوس، وصلة الرحم، وقضاء أوقات ممتعة مع اسرهم واصدقائهم ومعارفهم، والأكلات والحلويات اللذيذة؛ ولهذا كان شهر متعة الجميع صغارا وكبارا، رجالا ونساء، أغنياء وفقراء وخاصة لأهل الريف لأن بهجته ونشاطاته تغير أسلوب حياتهم، وتضفي عليها متعة يحتاجونها ولا يمارسون معظمها إلا خلال الشهر المبارك.
كان معظم الرجال والنساء لا يعملون في الأرض خلال شهر رمضان، وعدد المصلين الذين يؤدّون الصلاة جماعة في مسجد قريتنا يزداد بشكل ملحوظ، والرجال يجلسون في حلقات في مضافات الحمائل والمقاهي والدكاكين ليلعبوا الشدة ( الورق ) وخاصة الباصرة والهاند لتمرير الوقت؛ والنساء يقمن بتنظيف بيوتهن في الفترة الصباحية، ويزرن بعضهن بعضا في فترة الظهيرة وقبل صلاة العصر ثمّ ينشغلن بتحضير طعام الإفطار، لكن الجوّ بصورة عامّة كان روحانيّا بامتياز، حيث يشاهد الناس يقرؤون القرآن ويسبّحون ويذكرون الله ، ويمتنعون إلى حدّ ما عن الاستغابة وكل ما يجلب لهم السيّئات على أمل أن يقبل الله سبحانه وتعالى صيامهم وقيامهم، ويزيد حسناتهم، ويسهّل طريقهم إلى جنات عدن التي وعد سبحانه عباده الصالحين بها ليستمتعوا بالحور العين، وأنهار الخمر، والطعام الذي يشتهون، والحياة النقيّة الهانئة الخالدة.
في اليوم الأول يستيقظ الفلاحون باكرا كعادتهم، ويتوزّعون في البقالات يتجاذبون اطراف الحديث حول حياتهم، وكيف جهّزوا أنفسهم للشهر المبارك، وأصحاب البقالات يزوّدون متاجرهم بما تحتاجه من قمر الدين، وخضار وفاكهة وألبان ومخلّلات، وتمر عراقي ممتاز، وقطايف، ويذبحون خرافا أو ماعزا لتزويد زبائنهم باللحوم الطازجة الرخيصة الثمن ؛ سبعة قروش أردنية ثمن الوقية ( 28 قرشا ) لكيلو الضأن الطازج بما في ذلك الخراف التي لا تتجاوز أعمارها الأربعة أشهر، وستة قروش للحم الماعز، وخمسة قروش للحم البقر، فكان معظم الناس يشترون حاجتهم من اللحوم، وكانوا جميعا قادرين على الشراء إما نقدا أو بالدين من محلات البقالة؛ وفي اليوم الأول كانت كل عائلة في قريتي تحضّر وجبة شهيّة من اللحم أو الدواجن، والشوربة، والقطائف المحشوّة بقليل من السكر والجبن البلدي الطازج، أو الجوز، أو جوز الهند. ولهذا كانت البيوت تعجّ بالحركة بعد العصر، وتنهمك النساء في تجهيز ما تحتاجه العائلة من خبز الطابون، وإعداد طعام وحلويات الافطار، وقبل الإفطار بحوالي نصف ساعة يبدأ الرجال بالعودة إلى بيوتهم ويجلسون مع أسرهم حيث يتحلّقون حول مائدة الافطار في انتظار الأذان.
كان آباؤنا وأجدادنا لا يملكون ساعات لمعرفة الوقت وموعد الأذان، ولهذا كنّا نحن الاطفال نتجمّع في منطقة قريبة من المسجد عندما يقترب موعد أذان المغرب لنتمكّن من سماع المؤذن لأنه لم يكن في المسجد سمّاعات، وصوت المؤذن لم يكن قويّا بما فيه الكفاية ليسمعه الناس في جميع أرجاء القرية. وعندما نسمع كلمة الأذان الأولى ... الله ... ننطلق بأقصى سرعتنا إلى البيوت ونحن نصرخ " افطروا يا صايمين "، ونسمع صوت مدفع الإفطار الذي كان يطلق من القدس، لكن أهل قريتنا كانوا لا يفطرون إلا على سماع صوت مؤذن القرية، ربما لأنهم كانوا يتصوّرون أن هناك فرقا بين الوقت في القدس والقرية وأرادوا أن يتأكدوا أنهم يفطرون في الوقت المحدّد.
كان الأقارب والجيران يتبادلون المأكولات والحلويات، فترسل الجارة صحنا من طبخة العائلة، أو من القطايف أو العوّامة لجارة أو أكثر من جاراتها تعبيرا عن المشاركة والوفاء للجيرة والصداقة، ويلتقين بعد الإفطار في بيت إحداهن احيانا للسمر، وتبادل اطراف الحديث عن يومهن الرمضاني، وعن الوجبات التي يحضرنها، وما ينوين شراءه لأطفالهن وأنفسهن من ملابس للعيد، وعن تجهيزاتهن وما سيحضّرنه لأقاربهنّ عندما يأتون لمعايدتهنّ صباح يوم العيد.
أما الرجال فكان بعضهم يذهب بعد تناولهم طعام الإفطار لصلاة العشاء والتراويح في المسجد، أو يتجمعون في المقاهي والبقالات ويشربون الشاي الذي يحضره صاحب البقالة إكراما لهم، ويتحدثون عن أيام صيامهم، ومأكولاتهم المفضلة، وبعض أمور دنياهم؛ وكانوا احيانا يتحدثون عن وجبة إفطارهم اللذيذة في ذلك اليوم، وعدد حبات القطايف التي تناولها بعضهم؛ كان بعض الناس يأكلون كمية هائلة من الطعام، وأذكر ان أحدهم قال مرّة أنه تناول 10 أقراص قطايف بعد الإفطار، وأعتقد أنه كان صادقا لأنّه كان معروفا بقدرته على تناول كميات غير عاديّة من الطعام، ثم يذهبون إلى بيوتهم بعد أذان العشاء استعدادا للنوم والنهوض باكرا لتناول السحور.
كان في قريتنا مسحّراتي يتجوّل في جميع أنحاء القرية وهو يحمل تنكة فارغة وعصا يقرع بها التنكة بشدّة لتصدر صوتا عاليا وهو يردد بين الفينة والأخرى " يا نايم وحّد الدايم " " قوموا للسحور جزاكم الله خير"؛ كان رجلا فقيرا طيبا في منتصف العمر يقوم بعمله مقابل جزء من الفطرة الرمضانية ( زكاة الفطر) التي كانت غالبا ما تكون كمية قليلة من القمح يجب على كل صائم إخراجها واعطائها للفقراء قبل نهاية الشهر.
يستيقظ أهل البيت على اصوات المسحّراتي لتناول السحور الذي غالبا ما يتكوّن من مقلّيات كالبطاطا والطماطم والبيض، أو الأجبان والألبان والزيت والزعتر والمخللات والشاي، وبعد ذلك يعود معظمهم للنوم، ويبقى بعضهم مستيقظين حتى يؤدّون صلاة الفجر؛ كان لبزوغ فجر كل يوم في ريف فلسطين بهاء خاصا، حيث كنا نسمع أهلنا والجيران الذين يستيقظون قبل شروق الشمس وهم يردّدون " لا إله إلا الله .. محمد رسول الله .. اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آل محمد .. يا فتّاح يا عليم .. يا رزّاق يا كريم .. ربي يسّر ولا تعسّر.. اللهم يسّر أمرنا إلخ." ، وكان جمال نجوم فلسطين التي تضيء الكون ليلا يضيف إلى هذا الجمال الروحي الذي يبدأ أهلنا وجيراننا يومهم به بعدا دينيّا نقيّا، ووجوديّا سرمديّا رائعا لا يمكن نسيانه .
وبعد مرور النصف الأول من الشهر يبدأ أهل القرية بتجهيز أنفسهم لعيد الفطر فيذهبون إلى المدينة لشراء ملابس وأحذية لجميع أفراد الأسرة أو لبعضهم حسب الحاجة والامكانيّات الماديّة، ويجهّز اصحاب البقالات متاجرهم بتزويدها بكميات من التوفة وراحة الحلقوم والملبس بألوانه ونكهاته المختلفة، وفي النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي أضاف أصحاب البقالات في قريتنا علب من البقلاوة الرخيصة إلى موجودات محلاتهم لأن العادة كانت أن يأخذ الناس معهم حلويات عندما يذهبون لزيارة أرحامهم وأقاربهم لتهنئتهم بالعيد.
في صباح يوم العيد يستيقظ أهل القرية قبل شروق الشمس ويرتدون ملابس العيد، ويذهب الرجال والأطفال لصلاة العيد في المسجد الذي يمتلأ بالمصلين الذين يكبّرون ويذكرون اسم الله، وتذهب النساء إلى قبور ذويهن لزيارتهم وقراءة الفاتحة على أرواحهم والدعوة لهم بالغفران . وبعد صلاة العيد يتّجه الرجال من أهل كل حامولة جماعة في مسيرة مهيبة إلى مقبرة الحامولة يتقدمهم شخصا يقوم بالدعاء للأموات ويطلب من الله أن يرحمهم ويدخلهم الجنّة ثمّ يقرؤون الفاتحة، ويتوجهون إلى محلات البقالة لشراء العيديّات.
في محلات البقالة ينقسمون إلى عائلات فيشتري رجال كل عائلة ما يحتاجونه من حلويات، ويبدؤون جولتهم معا على أقاربهم من النساء يتقدّمهم كبار العائلة، ويتبعهم الأطفال بملابسهم النظيفة في مظهر جميل يدلّ على التراحم والتعاضد ومشاركتهم المشاعر الجميلة الطيّبة. في هذه الأثناء تكون النساء قد جهّزن حلويات العيد البيتية التي أعددنها في الليلة السابقة كالبحته ( الأرز بالحليب) او الهيطليّة ( حليب يطبخ مع النشا والسكر ) ويصبح متماسكا بعد أن يبرد ويضاف السمن البلدي على سطحه، أو كعك العيد المحضّر من طحين القمح والسكر وزيت الزيتون. كان الأطفال يقبلون أيادي كبار رجال ونساء العائلة، والنساء يقبلن أيادي أقاربهن من الرجال عندما يأتون لمعايدتهن، ويقدّمن لهم نوعا أو أكثر من هذه المأكولات في كل بيت يزورونه، وبعد انتهاء جولاتهم يعودون إلى بيوتهم وتنتهي مراسيم العيد.
كان للعيد وقع خاص في نفوس النساء؛ كنّ يستمتعن ويشعرن بالفخر عندما يشاهدن أقاربهنّ جميعا يدخلون بيوتهنّ لزيارتهنّ وتهنئتهنّ بالعيد ومشاركتهنّ هن وأطفالهنّ فرحتهم، ويشعروهنّ بأن لهنّ عزوة ( رجال يهتمون بهنّ ) مما يعزّز مكانتهنّ ويزيد احترامهنّ وتقديرهنّ في أسر أزواجهنّ، ويشعر ابناءهنّ وبناتهنّ بالانتماء لعائلات أخرى تحرص على التواصل معهم.
بالنسبة لأطفال قرى فلسطين كان للعيد بهجة خاصّة لأنهم كانوا يحصلون على ملابس وأحذية جديدة، وأنواع مختلفة ومميّزة من الطعام والحلويّات، وبعض القروش التي يعطيها لهم أقاربهم . ما زلت أذكر أن أهم عيديّة كنا نتلقاها من أقاربنا كانت عيدية جدي رحمه الله الذي كان يعطي كل طفل من أطفال عائلتنا شلن ( خمسة قروش أردنية ) فنشتري بعض الألعاب البسيطة المتوفرة في محلات البقالة كمسدسات الكبسون والفلين، والبنانير، والطابات ( الكرات) الصغيرة. كان عيدنا بسيطا كحياتنا لأننا في ذلك الوقت لم نعرف شيئا عن المراجيح وألعاب الأطفال المتنوعة التي كان يتمتّع بها أطفال المدن.
كانت الأعياد في ذلك الوقت جماعية حقا يشترك ويستمتع بها الصغار والكبار والفقراء والأغنياء لأنها كانت بسيطة وبعيدة عن مظاهر البذخ والابتذال الكاذبة، وتعبّر تعبيرا صادقا عن حب الناس وتقديرهم لبعضهم بعضا ومشاركتهم لأفراحهم ومناسباتهم الدينيّة والاجتماعيّة بصدق وبدون تكلّف ونفاق.