ليلة من غموض بقلم: عطا الله شاهين
تاريخ النشر : 2018-01-19
ليلة من غموض  بقلم: عطا الله شاهين


ليلة من غموض
عطا الله شاهين
غُرفةٌ مُتفوّقة على زمانِها وتغطّيها الغرابة، جدرانها الصامتة تخافُ منها من غير أن تتنصّت. لا حبور عادي البتّة هناك.. فالعينان غير قادرتان على فهمِ المسرّة في دهرِ الموت. يقطنُه الخوْفُ من منامٍ لا يفهمُ جوهره، وتسيلُ منه أفكارٌ تركها الاندهاش. يرهقُه التفتيش عن أُمنيةٍ خطفها منه الحيّز المظلم، وعن أزمنةٍ لا تقبلها العاصفة. غادرتْ البارحة، ولم يظلّ له منها غير لوحتيْن، وفرشاة رسمٍ قديمة مهملة فوق مكتب مكركب، وقدحُ مشروبٍ مُسكر، ورسمٌ لفتاةٍ لم ينتهي بعد من رسمها، وصور عالقة في عقله لا يمكن نسيانها. أتتْ ليلة من غموض، موحشةٍ، عبقها طلّ، مضطربة بلونها الأسود، على السّرير، تموجات ووهم، وطعمُ قبلات.. وخلف بابٍ خشبي نشّفها شتاء بارد مراسم خشبية متروكة وحيدة، وريح مجنونة تعصف بالأشجار العارية. في العينين أرض روحٍ، ومنامات تسقط، واستفسارات ملغزة، ونهاية تتمطّى من الحرمان وحتّى موت الهواء، ومن انكشافات الخيبة وحتّى الوَسَن..
خارج الغُرفة صقيع مجنون بزمهريره، وفي الغرفة المضاءة بنور سراج خافت، وتنورة حمراء قصيرة لفتاةٍ نسيتها ذات زمن يمكنُ حبّها.. وفي السّماء المكفهرّة هفوة خرسانية سوداء، وعشق سابق لأوانه. لا كلمات سوى الإباء، ولا طاقة إلاّ لرفع الذنْب وحمايته من قتل وحشي لنصوص طاهرة. من آصرته أن يقترض كرْبه ليقذفه خارج عزلته المجنونة. إنّه ليدري أنّ منامه لم يكتمل، وأنّ حسّه لا ارتداد له، ولكنّ المهادنة مع القسمة توجعه، والتذلل لقسمةٍ شرّيرة توجعه بشكل فظيع. ويوجعه مذاقُ الريح اللاسع، حينما تبدأ الأشياء تضيع ماهيتها.
لقد وقعتْ الروح بشكل مغالٍ، فأكلها الزمن، وبدّلتْ ليلة الجوّ البارد سحنته. كلّما جرّب الإصغاء إلى الصمت المجنون، احتلّته رسومات لا طائل منها. وآلمته تلك الأزمنة الّتي أقصتها الهجرة، فغادر تحت سماءٍ مكفهّرة جافة وباردة، وما آبتْ الحياة تدري كيف تسوّيه، ولا قمرُ شباط كيف يشكّله ليعتادَ الطّقس الصّقيع في شتاء مجنون.
غادرتْ بارحة أخرى، ولم يظلّ له منها سوى رسم حائر، وخواطر، وقدحُ مشروبِ مُسكر موحش، ورسم يكاد أن يكتمل، وصور عالقة في عقله لا يمكن نسيانها. فأتتْ ليلة من غموض، موحشة، عبقها طلّ، مضطربة بلونها الغريب الأسود على السّرير، طبقٌ بلاستيكي من العدس، وكسرة من خبزِ قمحٍ ووردة جورية ضاوية. علبٌ من الألوان المختلفة، وعلبةُ عيدان ثقابٍ وسجائر من النّوع الفاخر، ولوحات لأناسٍ لا يعرفهم.. فرشاة رسمٍ صغيرةٌ، وعلبة تلاوين، ومنفضة سجائر وسِخة، ومشروب مسكر.. وألواح كرتونية قديمة، وأخرى عليها أصباغ، وسراج عتّمته ليلة سابغة.
ينظر إلى الطريق فلا يرى سوى نور أصفر خافت، وحانةٌ على زاويةِ الطريق فارغة إلاّ من نسمات عطور فاخرة لنساء يأتين لقتل الضجر. لا تحيّنٌ لقتلِ الزمن، والأملُ مرهقٌ من الفشل، والعُسر الإنساني، والقوة المتزينة بالصّدْق، والحديث المستنفد، والتبتّل الممتهن. له آصرة أن يبغض ديكَ جاره الذي عوّد نفسه على سماعه، فاكتشف أنّ الإنسان يمكنه الاستفادة حتّى من ديك مجنون بصياحه.. له آصرة أن يكره الأشياء الشريرة، وأن يسترد أماكن شهوته.
كان في وطنه شابّا رائعا، وكان متمكّنا من تأليف القصص.. وكانتْ روحه أكثر حرارة، وضحكاته أكثر جليةً. كان يدري كيف يعشق، وكيف يقتنص العيشة.. كان متمكّنا من فعل المَلاحَة، وعلى الاستماع في خفاء لكلام الرجال المسنين في جلساتهم الصباحية. بات شابّا، ولم يعد متمكنا إلاّ على الشوق، وبات للطمأنينة جوهر آخر في عروقِه.
غادرت بارحة أخرى، ولم يظل له منها غير رسم قد انتهى، وصور عالقة في عقله لا يمكن نسيانها. فأتتْ عليلة من غموض، موحشة، عبقها طلّ، مضطربة بلونها الغريب الأسود.
على السرير ظلت تنورة حمراء قصيرة نسيتها فتاة وعطور ثمينة ٌ.. وكرتونة صفراء للرسم وألوان مملة، وصوت مذياع لا يسكت.. وعلى الحائط المجاور رزنامة لكنيسة كاثوليكية، وأصوات لا ناس لها. يمسك بيديه مكاتيب فيها كلمات عن الحُبِّ لفتاة أحبّها ذات زمن، وكأس من عصير الليمون، ولحن غربي وأمامه جدار لون طلاءه ممل، وحيدٌ كبومة، وقانطٌ كالرسم.
جوّ للاستسلام، وجوّ آخر للحياة الشّريرة.. له آصرة أن يبغض الحافلات القديمة، والسخافة والطقوس، وله آصرة أن يعصي على بساطة الجوّ، ويتبرأ من الطوائف المذهبية.. وله آصرة أن يذبّ عن الناس السابغين.
على السّرير ظلّ دمارٍ، ووحشة، واشتياق مجنون غير نافع. غادرتْ البارحة ليلة أخرى، ولم يظلّ له منها غير صور عالقة في عقلِه لا يمكن نسيانها.. فأتتْ ليلة من غموض، موحشة، عبقها طلّ، مضطربة بلونها الغريب الأسود.