عهد ووفاء بقلم:مصطفى عبد الفتاح
تاريخ النشر : 2018-01-17
عهد ووفاء بقلم:مصطفى عبد الفتاح


عهد ووفاء

مصطفى عبد الفتاح

عدت بعد الفراق الابدي، عدت اليه حزينا، الملم جراحي امام ضريحه، عدت لاقف امام عرش الحياة الأبدية، عدت لاقف في حضرة الغياب، امام اب لفَّه الصَّمت الابدي بعد ان ملأَ الحياة ضجيجا، ابٌ قضى سنين عمره يبحث عن طعم الحياة، في تربية ابنائه، فكانت صعبة قاسية ولكنها حلوة المنال، يبحث عن معنى لها، فلا يجد نصيرا له غير الحياة الأخرى تناديه من عليائها ان يأتي اليها محمَّلا بمحبة الخالق وقد فعل.
أربعة أعوام وتتصارع على والدي رحمه الله حياتان، كانت الأولى تتشبث بأهدابه وتناديه البقاء، وأخرى ابديه تدعوه الرحيل اليها، حتى وهن جسده واعياه المرض، فكان ايمانه بالله وصبره وقدرته على الاحتمال والصبر لا توصف، فقبل مشيئة الله بإيمان صادق وبقلب طاهر نظيف قلب قد اعياه المرض ولكنه مليء بالمحبة والايمان.
حياة عاشها والدي بكل ما له وما عليه، عاشها بحلوها ومرها، وحياة ابدية انتظرها انتظار صابر محتسب يؤمن بقضاء الله وقدره. وقد عجبت انه انقطع عن الكلام كليا بسبب مرضه الا جملة واحدة بقي يرددها بشكلها الصحيح حتى أيامه الأخيرة " لا إله الا الله، الله أكبر".
 لا أدري اليوم ان كنت في حضرته، اغلق كتابا يحمل في طياته صفحات الحياة، التي قلَّبتٌها صفحةً صفحة امام مرقده الابدي، اعيش فيها لحظات فارقة كان هو بطلها وكنت انا واخوتي قصته التي كتبها بحبر عرقه ومداد دمه نقطة بعد نقطة وحرفا بعد حرف، قصة داعبها ولاعبها واعطاها كل سبل الحياة وجعل دورتها الدموية تسير فيها دورة الحياة.  
 عدت الى والدي بعد شهر على رحيله، أُلَملِم ذكرياتي، انثُرها على ضريحه قطرات ندى من عين دامعة، ارجوه ان نعود سويَّة الى مرتع الطفولة الى أحلام الغد الاتي الى الامل والالم الى الصعب القادم من صلب الحياة، يا لها من أيام ، يا لها من ذكريات، يأتي ويرحل يحمل هموم الحياة يصارعها، يحاورها ، يحبها ، يكرهها، يعاندها، يصالحها، وفي النهاية تأخذه اليها في رحلة الأبدية ، لا يبقى منه الا ذكرى الا رسمة هنا وبسمة هناك، كلمة هنا ونظرة هناك ، ايتها الحياة الازلية، لم لا تكشفين عن ذاتك، لم لا تخبرينا بمكنوناتك، قد نحبك وقد نكرهك، ولكننا ملزمين ان نقبلك . انت استمرار للحياة والحياة استمرار لك، فكوني كما انت فقط اعطينا ولو قليلا من اسرارك.
لا ... لا اظن انني اقرا الفصل الأخير في كتاب، هو فصل حزين ولكنه ليس الأخير، لن اغلق الكتاب بل سأفتحه من جديد، سأعيد قراءته، سأكتب فصوله الباقية تماما كما حلم والدي ان يكتب تلك الفصول، سأفتح الكتاب لأكتب فيه بمداد خيوط الشمس رحلة ابي وسيرة امي التي حملت هموم الكون ورحلت وهي تكتب لنا سر جمال الحياة بروحها التي ذهبت لتعانق الحياة الاجمل.   
والدي كان فلاحا عشق الأرض وعاش الحياة قريبا منها، كان يدعوني لأشم رائحة الأرض عند المطر الأول لأعرف واتعلم كيف يخرج الحيُّ من الميْت وليقول لي " هذه هي رائحة الحياة". احسبه اليوم يتنفس من الأرض التي أَحبها وعشقها اثناء سفره في رحلة الأبدية ليلاقي ربه بصدق اعماله وقوة ايمانه.
والدي أحب الله في السر والعلن فكان قريبا منه دائما في السراء والضراء، وما أقسى الأيام التي مرت في تربية اثني عشر طفلا في زمن عزت فيه وسائل العيش الكريم فكان مثال الوالد الذي ضحى بزهرة شبابه وافنى من العمر أياما وليالي كي يوفر وسائل الحياة الكريمة. كم هو صعب حد الألم فراق من اعطاك وسائل الحياة، من أفنى عمره كي تعيش كريما، ولكن هي الحياة سنبنيها كما بناها وسنحلم بالغد الاتي بجمال الحياة وروعة العيش انه وعد. 
"ذكرى رحيل والدي المرحوم محمود عبد الفتاح"
كوكب 15.1.2018