أعتذر لأعز أحبابي بقلم: د. محمد عبدالله القواسمة
تاريخ النشر : 2018-01-12
أعتذر لأعز أحبابي
د. محمد عبدالله القواسمة
يتعرض الناقد، أو الأديب، أو المثقف المولع بالقراءة إلى مشكلة من المشاكل التي لا يستهان بها، أعني بها مشكلة تكاثر الكتب؛ فهي تتكاثر عند كل من هؤلاء كما يتكاثر الفطر. فنرى الكتب في كل ركن من أركان البيت؛ وتمتد حتى تحتل جزءًا من المطبخ، والسدة، وبيت الدرج. رفوف كتب هنا وحناك. أينما توجهت كتب، ليس سوى كتب. يضيق المكان حتى يغدو وجود الكتب مشكلة تحتاج إلى حل.
هذه المشكلة بت أعاني منها معاناة حادة؛ فهذه الكائنات العزيزة بات التخلص من بعضها ضروريًّا، حتى يُفسح لنا التحرك في البيت دون أن يتعثر أحدنا بكتاب عن شاعر، أو روائي، أو مسرحي مهم. هكذا تهيأت لتنفيذ هذه المهمة القاسية. شرعت بتمهيد نفسي لقبول ما سأقدم عليه؛ فبدأت بالطعن في قول المتنبي: "وخير جليس في الزمان كتاب" فحاولت إقناع نفسي بأن الكتاب ليس خير جليس، فيوجد من هو أفضل منه للجلوس معه. أين الكتاب من الانترنت والفيس بوك، والواتس أب؟! أين الكتاب من برامج القنوات التلفزيونية ومسلسلاتها الاجتماعية والتاريخية؟! وسخرت من الجاحظ عندما ترك الكتب تتساقط على رأسه لتقضي عليه. لن أنتظر حتى يقتلنا هذا النوع من الأحباب.
ثم بدأتُ بعملية تعشيب لهذه الكتب، كتلك التي تلجأ إليها المكتبات من وقت لآخر للتخلص من الكتب التي تقادمت معلوماتها، أو تلفت أوراقها. فانتقيت الكتب التي هي خارج اهتماماتي الأدبية والنقدية، أو التي يتوافر منها أكثر من نسخة، وحشرتها جميعها في صناديق من الكرتون. اتصلت بالمكتبات الجامعية، وعرضت تزويدها بكتبي. المكتبة الجامعية الأولى اعتذرت بأن ليس عندها من الموظفين من يستطيع تنفيذ المهمة؛ فالكتب تحتاج إلى من يختارها، ومن يفهرسها، ومن يصنفها وليس من يأتي بها إلى المكتبة فقط. المكتبة الثانية قالت إن مكتبتها تضيق بالكتب التي تحتويها، وهي ستتبرع بكثير منها للجمعيات الخيرية. المكتبة الجامعية الأخيرة أعلنت موت الكتاب، وقالت إنها في طريقها للتخلص من الكتب الورقية، وتحويل مكتبتها إلى مكتبة إلكترونية.
اتصلت بأحد النوادي الرياضية. قالوا إنهم قادمون في الحال لإحضار الكتب إلى النادي؛ الذي يعاني من نقص في محتويات مكتبته من الكتب المختلفة. انتظرت حتى يأتوا. مضى أسبوع. أسبوعان. عندما أتصل لأذكرهم يحتجون بانشغالهم بالمباريات الرياضية المحلية والعربية.
أخيرًا. عدلت عن التبرع بالكتب إلى أي جامعة، أو أي ناد، أو أي مؤسسة أخرى. فكرت في أن أعرض بعض الكتب على عامل الوطن؛ فهو الذي يمكن أن يكون في حاجة إلى كتب. لكي يجعل منها مكتبة صغيرة في بيته، أو حتى يبيعها مثل سلعة قديمة. فوجئت أن عامل الوطن يعتذر عن قبول أي كتاب؛ لأنه ببساطة لا يلزمه، ولا يرغب في أن يكلف نفسه الاهتمام بشيء لا قيمة له. ولكنه لا يمانع في نقل ما أستغني عنه من الكتب إلى حاوية القمامة. وهم يتولون بعد ذلك إحراقها.
في الحقيقة، لم أتألم كثيرًا برأي عامل النظافة ما دامت المكتبات الجامعية التي هي مركز للعلم والمعرفة تضيق ذرعًا بالكتاب. لكني استنكرت فكرة إحراق الكتب؛ لأن من يحرق الكتب يجرؤ على حرق البشر. هكذا تبدأ المظالم والدكتاتوريات مثلما فعل هولاكو، وهتلر، وما فعلته القوات الأمريكية في متحف بغداد، ومكتبات الموصل.
اقترحت زوجتي، وهي المنزعجة الأولى من تكاثر الكتب أن أضع ما لا أريده منها في براميل بلاستيكية، وأضعها أمام البيت، فمن يرغب من الجيران أو المارة يستطيع أن يختار منها ما يشاء. هكذا ــ كما قالت ــ نشجع القراءة، وننشر المعرفة من حولنا. استحسنت الفكرة، ونفذتها بسرعة، وكتبت لا فتة، ونصبتها بين البراميل، تقول: " اختر كتابك مجانًا".
بعد أقل من ساعة، كانت الكتب متناثرة في الطريق، وبعض القطط تدور حولها، والمارة يدوسون على أعز أحبابي. لقد أُخذت البراميل لبيعها في سوق الخردة، وتركت الكتب. رحت أجمعها وأعيدها إلى مكانها في البيت بحزن ومرارة. وأخذت عهدًا على نفسي ألا أفرط فيها حتى ولو احتلت مكاني في البيت.
[email protected]