حلم بلا شراع بقلم: خالد ديريك
تاريخ النشر : 2018-01-05
حلم بلا شراع

إنه فصل الربيع وامتحانات شهادة البكالوريا على الأبواب، وحلم دخول إلى كلية الهندسة الزراعية بين قوسين وأدنى فلا بد من التركيز والجهد المضاعف للوصول إلى المبتغى، لا تضيع وقتها أبداً، فقد أصبحت مساحة غرفتها مع الشرفة ساحة للقراءة والتركيز ذهاباً وإياباً ودندنات تحاكي عنان السماء حول مستقبلها.
تحتسي القهوة مع كوب الماء أحياناً لطرد النعاس وتنشيط الذاكرة وشعرها مشدود برباط وكأنها تتهيأ لصد هجوم ما، وأحياناً تلعب بخصلات شعرها المفرود وكأنها استيقظت توا من النوم، وغالباً تغفى والكتاب في حضنها.
قضت السنوات الأولى من طفولتها في الريف، قبل أن ينتقل أهلها إلى المدينة، بعد ما توظف والدها في إحدى الدوائر الحكومية، ولا تزال تزور بيت جدها في القرية كلما سنحت لها الفرصة، وتشاركهم العمل في الحقل الزيتون فهي تعشق الطبيعة بما فيها وتندلق بحيوية ونشاط، بفرح بين النبع والأشجار كَفراشة مبتهجة بقدوم موسم الربيع والأزهار. وفي نفسها الطفولي أن تصبح مهندسة، لتخفف عبء وتعب الذي يتلقاه أهلها في الحقل.
هي لم تحقق حلمها فقط بدخولها إلى كلية الزراعة التي طالما راودها، بل تلتقي فيما بعد بفارس أحلامها (زميل لها في الجامعة) وتتكلل علاقتهما بالزواج بعد التخرج.
بعد الزواج وفي أقل من الشهر، سيدخل البلد في الاضطرابات لم يشهد له مثيل، وستملأ الشوارع بالمتظاهرين وستتطور الأمور بشكل الدراماتيكي وتوصل إلى مرحلة حرب مدمرة وثم فصول الإرهاب، بعدما كانت سلمية!
سيضطران مثل المئات الألوف من مواطنيهم الهاربين من القتل والدمار، الباحثين عن الأمان إلى اجتياز الحدود والأسلاك الشائكة ويصلان إلى إحدى شواطئ قبالة القارة العجوزة على أمل الوصول إلى مكان خال من العنف والدماء.
وهناك يختاران أحد الطرق غير الشرعية والأكثر خطورة لأن الطرق الأخرى مكلفة جداً وما في جيوبهم لا يفي بالغرض، فكل ما يملكان هو ثمن المجوهرات التي بيعت، وما جمع لهم أهلهما، وبعد بحث عن شخص آمن (المهرب)عبر أحد المعارف، يتفقان معه في تحديد موعد انطلاق الرحلة الغامضة على متن القارب المطاطي قبل طلوع الشمس.
وعندما حان الموعد، أتت الناس من أجناس مختلفة، وأصبحوا مجموعة مؤلفة بأكثر من ثلاثون شخصاً (الأطفال والشباب والنساء)، وبدأ بعض يزمجر غضباً وإما الآخرون فإن العلامات من الخوف والحيرة بادية على وجوههم والبؤس والهوان يدثر أرواحهم وأعماقهم.
لكن المهرب يطمئنهم: ننقل (الأنفار) اللاجئين على متن هكذا قارب كل أسبوع وأحياناً كل يومين، فهو أفضل من القارب الخشبي، وليست هناك أخطار كبيرة، ورحلة لن تستغرق وقتاً طويلاً، وقائد القارب منكم، وإما إذا باغتكم خفر السواحل، ووقعتم في شباكه، فسيعيدكم إلى حيث أتيتم.
لا مفر أمام هذا الجمع، فقد اتخذوا قراراهم حتى لو كانت حياتهم هي الثمن، لأنهم يائسون، بائسون. يتضرعون إلى الله، ويأملون أن يحالفهم الحظ، كما حالف بعض من سبقهم على مثل هذه القوارب.
تهمس الفتاة لزوجها: القارب أصبح ممتلئاً، إنه أشبه بعلبة السردين مكدسة، مضغوطة، كيف يمكن لهذا القارب المطاطي الصغير أن يوصلنا إلى مكان أكثر أمناً!؟
بعد مضيء نحو ساعتين في وسط البحر، قلبت الرياح والأمطار القارب على عقبه.
تصحى دلال، تجد أمامها امرأة بقميص أبيض طويل: أين أنا ....
أين ديار .... ؟
فتردد مرة أخرى بالإنكليزية ......؟
المرأة: أنا ممرضة في المشفى بمدينة إزمير التركية، وقد أنقذ خفر السواحل بعض منكم أثناء غرق القارب الذي كان يقلكم
تصرخ دلال: وأين ديار ......؟
دموع دلال لا تتوقف، الوحدة والحيرة تلاحقها في مدينة جميلة كإزمير.
رغم كرهها للبحار والقوارب بعد تلك الحادثة فهي تزور البحر كل اليوم، حيث مكان إقلاع رحلتهم المشؤومة، لعل وعسى تلتقي بـ ديار من جديد!



بقلم: خالد ديريك