قراءة في (مغاني الشعب) للمتنبي شِعب بَوّان بقلم:ب. فاروق مواسي
تاريخ النشر : 2018-01-04
قراءة في (مغاني الشعب) للمتنبي شِعب بَوّان بقلم:ب. فاروق مواسي


قراءة في (مغاني الشعب) للمتنبي
شِعب بَوّان
ب. فاروق مواسي

هي قصيدة طويلة كتبها  أبو الطيب يمدح عضُد الدولة وولديه.
سأدع المديح جانبًا، وسأرافقكم إلى  وصفه لشِعب بَوّان وجمال وصف الطبيعة، ووجدانية النص، فإليكم ما اخترته منها:
...

مَغَاني الشِّعْبِ طِيبًا في المَغَاني *** بمَنْزِلَةِ الرّبيعِ منَ الزّمَانِ
وَلَكِنّ الفَتى العَرَبيَّ فِيهَا *** غَرِيبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللّسَانِ
مَلاعِبُ جِنّةٍ لَوْ سَارَ فِيهَا *** سُلَيْمَانٌ لَسَارَ بتَرْجُمَانِ
طَبَتْ فُرْسَانَنَا وَالخَيلَ حتى *** خَشِيتُ وَإنْ كَرُمنَ من الحِرَانِ
غَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغْصَانُ فيهَا *** على أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِ
فسِرْتُ وَقَدْ حَجَبنَ الشمسَ عني *** وَجِئْنَ منَ الضّيَاءِ بمَا كَفَاني
وَألْقَى الشّرْقُ مِنْهَا في ثِيَابي *** دَنَانِيرًا تَفِرّ مِنَ البَنَانِ
لهَا ثَمَرٌ تُشِيرُ إلَيْكَ مِنْهُ *** بأشْرِبَةٍ وَقَفْنَ بِلا أوَانِ
وَأمْوَاهٌ تَصِلّ بهَا حَصَاهَا ***  صَليلَ الحَلْيِ في أيدي الغَوَاني
...
إذا غَنّى الحَمَامُ الوُرْقُ فيهَا *** أجَابَتْهُ أغَانيُّ القِيانِ
...
...
يَقُولُ بشِعْبِ بَوّانٍ حِصَاني: *** أعَنْ هَذا يُسَارُ إلى الطّعَانِ
أبُوكُمْ آدَمٌ سَنّ المَعَاصِي *** وَعَلّمَكُمْ مُفَارَقَةَ الجِنَانِ
..
شِعب بَوّان هو من المتنزهات الأجمل في الدنيا، كثيرة الشجر والمياه، يقع قرب مدينة بوّان في بلاد فارس في الطريق إلى شيراز، والشِّعب هو المنفرج بين جبلين، ومغانيه طيبة تروع الناظر. (المغاني هي المنازل التي يَغْنى الناس فيها أي يقيمون ثم يظعنون).
هذه المغاني في الشعب بطيبها لها جمالها وخصبها ومكانتها كما هي مكانة الربيع بين فصول السنة أو في الزمان.  
(طيبًا تعرب تمييزًا أو مفعولاً لأجله، وفي المدرسة البغدادية في النحو يقرءونها – طيبٌ/ خبرًا للمبتدأ)
لكن الفتى العربي- ويعني المتنبي نفسه-  أنه غريب الوجه عن وجوه أهل المكان، وهو غريب اليد أي لا ملك له في هذه البقاع، وربما لأنه يكتب العربية وهي غريبة عن الفارسية، وهو غريب اللسان أيضًا.
جعل المتنبي الشعب لطيبه مسرحًا للجن، فأهله  الذين لا يفهم لغتهم هم أقوياء، وفي شجاعتهم كالجن، والجن عند العرب هو رمز للقوة. والشاعر ومن معه يشعرون أنهم في بلاد الجن- ربما لأن أهل المكان يستترون عنهم، وحتى النبي سليمان لو سار في هذه الربوع لسار مع ترجمان يصاحبه.  
ها هي الملاعب استمالت فرساننا وخيلنا الكريمة، فعمدت الخيل إلى الانبهار بالمناظر، وبخصب الموقع، حتى خشي الشاعر من حران الخيل ورفضها للمضي في طريقها، رغم أنها كريمة، وليس من عادة الخيول الكريمة أن تحرن (تقف مكانها ولا تتحرك)، ولكن طيب المكان  وخصوبته قد يدعوها إلى ذلك.
..
ها هو الشاعر يسير بين الأشجار في الصباح، فتمر الخيل عن الأغصان، فتأخذ الأغصان تنفض الندى أو تنثره كحبات اللؤلؤ الصغيرة التي تشع ببريقها على أعراف الخيل (جمع عُرْف).
لكن الواحدي- أحد شراح المتنبي-  يقول إن ضوء الشمس لا الندى هو ما يقع على أعرافها.
ها هو الشاعر يسير في ظل الأغصان فتُحجب الشمس عنه، وتلقي عليه الضياء بين شُعب الأغصان بما يكفيه.
وألقى الشرق (وهو الشمس أو الضوء من المشرق) ما هو أشبه بالدنانير اللامعة، فهذا الشجر كثير الورق وملتف، لكن ضوء الشمس يدخل من خلله، فيكون على الثياب كأنه الدنانير لاستدارته، والدنانير ليست حقيقية، وكأنها تفر من أطراف الأصابع، إذ أنها لا تمسك باليد.
..
إن ثمار هذه الأغصان رقيقة القشرة ناضرة تكاد تذوب عندما تؤكل،  فكانها تشير إلى الناظر بأشربة (جمع شراب)، وهي واقفة بلا إناء، لأن ماءها يرى من وراء قشرها لشفافيتها- كما يُرى الماء من الزجاج.
 بمعنى آخر أن هذه الثمار كأنها أشربة قائمة بنفسها ليس لها أوعية تمسكها.
يقول البرقوقي في شرحه – إضافة لما سبق- إن هذا المعنى منقول من البحتري:
يُخفي الزجاجة َ لونُها فكأنها *** في الكفّ قائمة بغير إناء.
(في شرح الواحدي- هذا البيت لأبي تمام، والصحيح أنه للبحتري ورد في ديوانه ج 2، ص 382)
..
يسمع صليل الحصى التي تجري في مياهها الكثيرة الغدقة، فيشبه الصليل هذا بصليل الحلي والجواهر التي هي في أيدي الغواني. إنه يشبه الأمواه (المياه) في اندماجها وصفاء لونها بمعاصم الجميلات، وما يصلّ بها من حصى شبهه بصوت الحلي الذي تلبسه الغواني (جمع غانية: التي غنيت بحسنها، فهي جميلة بدون زينة).
لم يكتف بكل هذه الأوصاف الرائعة للمكان، فها هو يسمعنا غناء الحمام  الوُرق (جمع ورقاء التي في لونها بياض إلى سواد، وقيل الرمادية)، فمن بهاء المكان وروعته كان هديل الحمام وغناؤه يتجاوب مع أغاني القيان (جمع قَينة- الجارية المغنية)، وغناء القيان يدل على رفاهية العيش في الشِّعب وغضارته.
..
لقد عجب الحصان- حصان الشاعر من جمال هذه البقعة وطيبها، فقال له (أو تخيله الشاعر كأنه يقول له):
أعن هذا المكان تتخلى، وتذهب إلى القتال؟ أعن هذا الجمال تغادر؟
(الطعان- لأنه ينوي الذهاب إلى الملوك، وفيهم تكثر الحروب)
يمضي الحصان في بيان حجته  قائلاً للشاعر ولبني البشر: إن أباكم آدم عصى ربه، فكان أن أخرجه الله من الجنان، فأنت يا صاحبي، بل أنتم لا تعرفون أن تحافظوا على الجمال والطيب والاستقرار في مثل هذا المكان الأخاذ.
هذا المعنى أفاد منه الشاعر ليحسن التخلص، وليصل إلى الممدوح الذي ترك "الجنان" الوارفة  لأجل الوصول إليه.

(استعنت في الشروح بشرّاح المتنبي وهم كثر، منهم الواحدي، المَعرّي، العُكْبَري، التَّبريزي والبَرْقوقي).
...

أحببت هذه القصيدة للغنائية التي فيها، وللتعابير والتشبيهات المدهشة، وخاصة وهو يصف دوائر الضوء الصغيرة بأنها تتساقط على أعراف الخيل (أو الندى الذي يتساقط بلمعانه وتركه أثره)، أو كأنها دنانير لا تستقرّ، وهي تفر من البنان، فهو يتخيل أنها تحلّ بالكف، وعندما يريد القبض عليها تفر.
ما أبدع وصف الثمار الشفافة وكأن الماء يُرى عبر قشرتها، فيصفها ليبين لنا سهولة أكلها، وكأنها تذوب.
..

كما وقفت على ما قاله الحصان ليدل الشاعر على إعجابه الشديد بالمكان، وحتى الفرس الأصيلة تكاد تحرن، مع أن ذلك ليس من صفاتها.
(نتذكر في هذا السياق حصان عنترة الذي شكا إلى  الشاعر الذي كلفه من أمره رهقًا، فشكا بعبرة وتحمحم).
ومن الجميل في تشبيه البيت الأول أنه شبه المكان بالزمان، وهو يبين فضل بَوّان على سائر الأماكن.
..

بوان قطعة من الفردوس، في بلاد تتصف بالجمال والخيال.
المتنبي خلّد هذا المكان بروعة شعره ولطف معانيه، وحوله إلى شعر فيه إبداع لا يُجارى، فنحن نتذكر الشعر إذا أردنا التأكيد على عروبة أي مكان وقد عبثت به أيدي الغرباء، ونتذكر الشعر إذا وافينا طبيعة أخاذة، فالأبيات لوحة فنية مميزة مرسومة شعرًا، تبث سحر الطبيعة.

ورد في مادة "بوّان" في (معجم البلدان) لياقوت الحموي:
"وهو أحد المواضع المتنزهة المشتهرة بالحسن وكثرة الأشجار وتدفق المياه وكثرة أنواع الأطيار".
ومما قيل فيه:
 "غدت مغانيه مغاني الزمان، وقصرت الألسن عن وصف محاسنه وطالت الى اقتطاف ثمره البنان، تكاد شمسه تغرب عن الإشراق، ولا تتخلل أشجاره إلا والحياء يعيدها في قبضة الإطراق، يستغني بغدرانه عن صوب الصيّب، ولقد أبدع في وصفه أبو الطيب"...ثم ذكر النويري القصيدة.
(النويري: نهاية الأرب، ج 3،  ص 226، الباب الأول: في وصف الرياض)
..

يذكر الثعالبي في (ثمار القلوب في المضاف والمنسوب)، ص 527، مادة رقم 863»
قولاً  لأحد الشعراء:

إذا أشرف المكروبُ من رأس تَلعة *** على شِعب بوّانٍ أفاق من الكربِ
فبالله يا ريحَ الجنوب تحمّلي *** إلى شعب بوان فتى صبِّ
..

لما نزل عضد الدولة (وهو الممدوح في قصيدة المتنبي) هذا الشعب الباهر للناظر متوجهًا الى العراق ومعه الشاعر أبو الحسن السَّلامي، قال له:
 قل في الشعب، فقد سمعت ما قال المتنبي فيه!
 فعاد الى خيمته وكتب قصيدة طويلة في وصفه منها:
اشربْ على الشعب وانزلْ روضَه الأنُفا ***  قد زاد في حسنه فازدَدْ به شغفا
إذ ألبسَ الهيفَ من أعضائه حُللا *** ولقّن العُجم من أطياره نُتفا
والماء يَثني على أعطافه أُزُرًا *** والريح تعقد في أطرافه شرفا
...
ولكن، هل ثمة من يجاري المتنبي؟