التشكيلي الفلسطيني مصطفى الحلاج والإفريقي جون نديفازيا جدلية جمالية
تاريخ النشر : 2017-12-06
التشكيلي الفلسطيني مصطفى الحلاج والإفريقي جون نديفازيا  جدلية جمالية


بشرى بن فاطمة

 التشكيلي الفلسطيني مصطفى الحلاج والإفريقي جون نديفازيا 
جدلية جمالية  تعكس صراعات تحتفي بالحياة  بين البقاء والفناء 

تتداخل التفاصيل في منجزهما الفني كتداخل عالميهما وتختلف لتتشابه، مثلما تختلف ملامحهما ويتشابهان في الإنسانية وفي الأسلوب وفي التوجه الميثولوجي الذي يحاكي فكرة الخلود والفناء، كما يتشابهان في  مأساوية الرحيل المفاجئ.
 
مصطفى الحلاج


جون نديفازيا


أعمالهما هي عبارة عن فلسفة بصرية فكرية تراقص بموسيقاها الروح والعقل والإحساس فتثير دهشة تعلق في المخيلة كصور هاربة من حلم بعيد يسكن الروح ويحاكي سيرة الإنسانية بصدماتها، ورغم كل الدمار والخراب والآلام المخزنة في الذاكرة، تقفل العتمة عليها أبواب الحنين لتعود وتدمجها بقوة في مهب الشخوص التائهة التي تصارع بملحمية وتنقل فكرتها بصمت صاخب وحضور صارخ.          يكمن التشابه بينهما في التمرد على الأساليب المحنطة والبحث عن أفق بكر متجددة، ما ولّد غرابة في الأسلوب الذي بدا في تفاصيل منجزهما، فلولا الموضوع الذي يقدّم بيئة  كل منهما وموروثه  لما استطعنا التمييز بين أعمالهما، حيث يجيد الحلاج استعمال رموز تاريخية سومرية كنعانية فينيقية فرعونية ، ويغوص نديفازيا  في عمق إفريقيا بكل ملامحها و معانيها وإرث قبائلها وعاداتها وطبيعتها، فتتشكل الإنسانية وتحفر بقوة داخل المنجز فكرة البقاء وصورة الأرض في العطاء والاستمرار. 
ولد التشكيلي الفلسطيني مصطفى الحلاج ببلدة سلمة بمدينة يافا سنة 1938 وعانى مع أهله ويلات الاقتلاع ونكبة فلسطين والتهجير واللجوء، درس فنون النحت في كليّة الفنون الجميلة بجامعة القاهرة وتحصل منها على البكالوريوس سنة 1963، أقام بعد سنة من تخرجه معرضا فرديا لأعماله الفنية النحتية التي لفتت الأنظار إلى جمال أفكاره وعمق مواضيعه الدّالة على طاقة خلاقة وموهبة متفردة في التشكيل والتعبير الفني، لم يستقر الحلاج في مكان واحد فقد عاش متنقّلا بين بيروت ودمشق والقاهرة، حاز على مجموعة من الجوائز الأولى والتقديرية عن مشاركاته في المسابقات والتظاهرات المحلية والعربية والدولية، خصوصا تلك المتصلة بفنون الحفر وتقنيات الطباعة اليدوية التي ابتكرها، له أطول لوحة جدارية في العالم "ارتجالات الحياة".




*من أعمال الحلاج

 خبرته وموهبته الساطعة وتجربته العميقة صقلتها السنين والمنافي وأوجاع الإنسانية التي أكسبته حكمة التعبير وعمق التواصل الفني فتمكن من أن يكون مرجعيّة في تاريخ الفن التشكيلي الفلسطيني والعربي والعالمي بأسلوب يراوح بين الفطري والسوريالي المدمج مع الميثولوجيا، رحيله كان مباغتا حيث اختطفه الموت من مرسمه وهو يحاول إنقاذ لوحاته من الاحتراق سنة 2002.
أثر مصطفى الحلاج في الفن التشكيلي العالمي فقد ارتقى بواقعه وحمّل مواضيعه أسلوبا متفردا لدرجة وصفه البعض من التشكيليين بالأسطورة لحضوره الآسر في دمج التقنيات والأفكار بين الحفر والنحت والتصوير، وقد تجانست تجربته مع تجربة التشكيلي الإفريقي جون نديفازيا الساطع من ناميبيا، ولد نديفازيا سنة 1943 بأنغولا ويعتبر من أبرز تشكيليي إفريقيا فقد أثرى تجربته بالاطلاع على التاريخ والتشبع بالواقع وبكل تفاصيل بيئته وآلام شعبه ومعاناته دون أن يتجاوز فكرة الأمل والحياة والبقاء ما أضفى تأثيرات جمالية على أعماله ومنجزاته فقد عبرت أعماله عنه عن فضائه الإفريقي حضارة وسحرا وعمقا وتاريخا، وتميز نديفازيا بالحفر حيث بسط رموزا وأشكالا حاكت بيئته ومحيطه الثقافي الاجتماعي والتاريخي والمعتقدات الإفريقية الدينية، توفي سنة 1988 اثر نوبة قلبية أسكتت قلبه وهو يحصد أهم نجاح له من خلال معرض أقامه بلندن.

بين التشابه والاختلاف "إرتجالات حياة " 

تتجلى البساطة في أعمال جون نديفازيا ممزوجة بالعمق والتأثر يعبّر من خلال أسلوبه الفطري عن التطابق الحسي  وفوضى تحاول الاكتمال فهو يركز على سلاسة البحث والغوص في عمق الذاكرة مع استبطان عوالم الفلكلور خاصة وأن إفريقيا تزخر برموز غير مألوفة تتشابك بين الفرح والعنف والطبيعة.                                
 تتميز أعمال نديفازيا بتناقضات تتشابه ضمنيا فبين الموت والحياة جرأة وغموض، فقد برع في حفر الملامح في منجزه بغرابة وفانتازيا تحكي عن إفريقيا لترسّخ هويته الممزوجة بنضج ما نقل من ترحاله في عمق مساحات  إفريقيا مثبتا الكم الهائل من المشاعر التي تجتاحه مع الرغبة بالأفضل لهذه الجغرافيا.                                   أثّرت ثنائيات السفر والترحال، القبيلة والإنسان الحياة والمجهول الألم والفقر الطبيعة والمدنية في تغير سياقات التعبير لديه لترسّخ في ذهن المتلقي انحناءات وتشعبات متشابكة مع التحوّل البصري الحسي البادي في أسلوب انفعالي على كامل مساحة اللوحة مع حركاته المتوترة والمتواترة مع اللون الأسود الذي يسرد التفاصيل بين تراكمات الضربات اللونية والأضواء، انفعالية تحمل كما هائلا من المشاعر تحاول الخطوط أن تصلها لتمتد وتتجسد في العمل المنجز.
 


*من أعمال نديفازيا

أما مصطفى الحلاج فقد نهل من التراث الفلسطيني والحضارة الكنعانية ودمجها بأحاسيسه مع الأحداث المتشابكة للتاريخ الفلسطيني المعاصر المرتبط بآلام التهجير والعودة والحنين والذكريات والذاكرة والمقاومة،أحاسيس مشكلة بأسلوب انفعالي ميثولوجي  يظهر في الرموز والشخوص والخطوط والظلال والأضواء، واعتماد فن الغرافيك ساعده على خلق تفاعل حسي مع اللوحة، فقد جسّد مناخات الهجرة والترحال فغلب عليها الأسود مع الظل مع توجه نحو البدائية الفطرية التي تعكس نظرة عفوية وعميقة في آن تختزل فن الحفريات من ناحية مع بساطة رسم  يشبه رسوم الأطفال، مع نظرة واعية تمزج السذاجة لتكون متقاربة مع الفنون الشعبية وأساليبها التراثية فهو يحيك منجزه بتناقضات الوداعة والشراسة كتلك التي رسمت تفاصيله لتسرد تاريخ وطن وقصة جبلت بالدم ودموع الغربة، فقد تمكن بمفاهيمه الجمالية البسيطة من أن يقدّم رؤى قوية بحركة  بطيئة مع الهندسة المتناظرة والمتكررة ليخلق صلة تجمع بين المنجز والواقع، رغم تركيزه على إضفاء جانب الغموض والخرافة الذي يحوم حول المجهول في دلالات الولادة والخلود ومع حركة اللوحة التصويرية في زواياها التي تسطّر خصوصية الحلاج الطفل الناضج والشيخ المتمرد بأسلوبه الفكري الجمالي الذي يطبع وطنه بكل تفاصيله وعمق جذوره وتاريخه.

إن الأداء التشكيلي لمصطفى الحلاج ولجون نيدفازيا يروّض ذهن المتلقي ليغوص في أعمال لم  يتعودها تستفزه شعوريا فتتلقاها حواسه برغبة في فهم مدركها بدايتها ونهاياتها التي ستحيله على وعي ما وعبرة مخفية داخل مسطح منجز يحتضن عوالم مدهشة وأساطير إنسانية وهنا تتكون العلاقة جدلية بين الصياغة والتشكيل والتقبل والحفر للفهم في محاولة لنفض الغبار عن الأسطورة وانتشالها من زمانها بحركية داخل الرموز والأشكال والخطوط والظلال والأضواء ما يشكل علاقة بين المادة المحسوسة والوعي بين سرمدية الزمن وحضور الواقع فهي عوامل تجتمع لتتشكل وتتنافر وتحاول التشكل من جديد ضمن عملية بصرية وفكرية أركيولوجية  أثارية تنتقل بالإنسان بين الحضارات السومرية الكنعانية الفرعونية والإفريقية والرموز الدينية مسيحية وإسلامية  فهي ترميزات ميثولوجية  تثبت صراع الإنسان ومعاناته الدائمة وعدم ثباته في المكان.
تخضع اللوحات عند الحلاج ونديفازيا إلى ترتيب يشمل البعد الزماني والمكاني ويلعب عامل الأسطورة دوره في تحفيز الموضوع على بث صراع يختلف باختلاف الفكرة لكنه لا يقف عند الصدام والصراع بل يستخلص حكمة تنبع من الأسطورة تستقى من العبر التي ترشح منها وهنا يعكس التعبير الفني فكرة عميقة وفلسفة وجود تساق بأسلوب جمالي مستفز للتأمل
 
 
إن ما يميز تجربة الحلاج ونديفازيا هو هذا التواصل والتأثر الإنساني الفني والعمق الجمالي الروحي الذي يمكّن من اختراق مساحات وعوالم مختلفة داخل مسطح اللوحات لكليهما تلك الأعمال التي اكتشفت المناطق العميقة في طبقات وثنايا الروح الإنسانية وصدحت باسميهما في سماء العالمية والجمال الفني.


*اللوحات المرفقة  لمصطفى الحلاج و جون نديفازيا من متحف فرحات للأعمال الإنسانية
Farhat Art Museum Collection