اجترار الكلام بقلم:نهاد أبو غوش
تاريخ النشر : 2017-11-21
اجترار الكلام بقلم:نهاد أبو غوش


اجترار الكلام
نهاد أبو غوش
حين تذهب إلى مهرجان وطني لمناسبة ما، كيوم الأرض أو النكبة، تسمع خطبا رنانة، يحاول من خلالها الخطيب أن يلامس مشاعرك، أو أن يخاطب عقلك، ولكنه في الغالب يفشل في ذلك، لأنك ببساطة سمعت هذا الكلام عشرات المرات، الأمر الوحيد المميز في هذه المناسبات هو محاولات المتحدثين التنويع في نبرة الصوت ولغة الجسد محاولين التأثير في جمهور ملول حضر شعورا بالواجب أو رفعا للعتب.
ونحن نواجه الشيء عينه حين نطالع الصحف أو نسمع الإذاعة ونشاهد التلفزيون، فنجد كلاما معادا مكررا، نعرفه ونحفظه عن ظهر قلب. والمشكلة هي أن من يلقون علينا هذا الكلام يظنون أنهم قاموا بواجبهم خير قيام، ويعودون إلى بيوتهم مرتاحي الضمير ممتلئين رضاً وسعادة، ولا تعجب إذا سالك أحدهم " كيف كانت كلمتي؟".
أما الطامة الكبرى فهي رسوخ قناعة أن هذا الكلام يغني عن الفعل، وهكذا تجد أن طائفة كبيرة من السياسيين، يطالعون الأخبار اليومية، ويكتفون بالرد عليها شجبا واستنكارا وتنديدا بما تفعله إسرائيل، أو مطالبة المجتمع الدولي بالتدخل لردع دولة الاحتلال. ولا يختلف الحال كثيرا إذا رقّق أحدهم خطابه فشكا وناشد، أو غلّظ ثانٍ في قوله فهدّد وتوعّد، لأن كل ذلك يظل ضمن دائرة اجترار الكلام دون الفعل.
كانت ذكرى مئوية بلفور دليلا صارخا على هذه الظاهرة، لم يبق كبير ولا صغير، ولا حزب أو مؤسسة إلا وطالب بريطانيا بالاعتذار عن جريمتها التاريخية وتعويض الشعب الفلسطيني، وهو مطلب محق طرحه الرئيس محمود عباس في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول 2015، وكان على القوى والمؤسسات ومختلف الهيئات أن تعمل على ترجمته وتحويله إلى خطة عمل وضغط، لا أن تردده وتحوّله إلى "كليشيه" ولازمة لا بدّ من تردادها في بيانات الفصائل ولجان التنسيق والاتحادات الشعبية وحتى الحكومة في جلستها الأسبوعية.
لعل أصل هذه الظاهرة يعود إلى  افتخار العرب تاريخيا بأنهم أمة فصاحة وبيان، وكل ما يتصل باللغة من فنون الخطابة والبلاغة والبديع والمحسنات اللفظية، وما زلنا نردد بكثير من الزهو قول البحتري شاعر القرن الثالث الهجري"نحن أبناء يعرب أعرب الناس لسانا وأنضر الناس عودا". وذهب بعض الفقهاء إلى اعتبار القرآن معجزة النبي الكريم محمد من حيث اللغة والفصاحة مستندين في ذلك إلى بعض الإشارات الواردة في القرآن.
لغتنا العربية جميلة وغنية، وهي لغة حية، فنحن إلى يومنا هذا نطرب على شعر قيل قبل ألف وخمسمئة عام، كما أن اللغة هي ركن أساس للشخصية القومية والوطنية، والوعاء الذي يحتضن تراثنا وثقافتنا ويستوعب أحلامنا وطموحاتنا، ولكن اكتفاءنا بالحروب الكلامية يخفي علّة أخرى هي ضعف حالنا وقلة حيلتنا وسوء استثمارنا لمواردنا، وعجزنا عن استكشاف ثم تفعيل مكامن القوة فينا، وفوق هذا وذاك ينطوي الأمر على قدر كبير من التضليل للبسطاء والجماهير المخدوعة.
في تراثنا القديم، أن جماعة سطوا على إبل لأعرابي، فذهب في طلبهم، ولما عاد دون إبله وسأله قومه عنها قال " أوسعتهم سبّاً وأودوا بالإبل".