الواقعية والرمزية في أعمال الفنان التشكيلي الفلسطيني عبد الرحمان المزين
كثيرة هي الاعمال الفنية التشكيلية التي تحاكي الواقع الفلسطيني وتسرد ذاكرته باختلاف المدارس والتوجهات والرؤى من الكلاسيكي إلى الحداثة وما بعد الحداثة والساذج والمبتكر للتعبير عن الذاتي العام الذي لامس بدوره التجديد واقتبس من الحالة التي تفاعلت مع وجدانه حركة فنية خاصة دمجها مع المدارس العالمية للفن ما أعطاها خصوصية وميزة في التعبير والانجاز والانفعال والتعاطي الكامل مع الواقع ورموزه وتفتيت كل ما يلقيه المجاز الفني على الواقع بآماله وآلامه، ولعل الفنان التشكيلي عبد الرحمان المزين له خصوصية خلقت التنوع والتجدد والتفاعل مع المراحل التي عبّر فيها بفنه عن جيل ثائر بنى قواعد التعبير الأولى عن قضيته منتقلا في رحلة أسطورية غاصت في التاريخ الفلسطيني الغارق في الأرض والانسان، فقد دمج الواقعية مع الرمزية وخلق حضورا مختلفا جعله رائدا من رواد الفن التشكيلي الفلسطيني والعربي، فهو الفنان والثائر وأستاذ التاريخ الكنعاني هو مزيج الانسان في الأرض حفظها عن ظهر قلب وعكسها في لوحاته العابرة من التاريخ إلى الذاكرة بحنين زاخر بالعلامات والرموز والتنوع والحكمة والتبصر والموقف.
ولد عبد الرحمان المزين سنة 1943 متحصل على شهادة الدكتوراه في التاريخ الكنعاني وله عدة مؤلفات وبحوث في هذا الموضوع، اتجه إلى الفن التشكيلي ليعبر عن ذاته الفلسطينية الغارقة في الأرض وتاريخها أعماله راوحت بين الواقعية والرمزية في تداخلات وتمازج أسلوبي جمالي جمع الخامات المختلفة من القماش إلى الخشب الورق والغرافيكس والملصق الفني.
قدم المزين أعماله في عدة محافل ومعارض ومناسبات فنية تشكيلية عربيا ودوليا وخاصة في معرض "صنع في فلسطين" الذي كان مشاركة عالمية تحدثت عن الفن التشكيلي الفلسطيني ومراحله التي جمعت كل الأجيال حيث اجتمعت لتعرض أعمالها في الولايات المتحدة الامريكية تعبيرا عن الانسان الوطن والانتماء والتي عرضها متحف المحطة بتكساس واقتناها "متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية".
تحاكي أعماله التراث والهوية التاريخ الملون بكل فنون الحياة التي تعني البقاء، فلم يتوان المزين عن أي حضور جمالي انساني في العادات والتقاليد في الملبس والتفاصيل اليومية في الاحتفالات في المواسم بكل ترتيبات الحياة التي تميز كل مكان، فقد حاكها بطريقته ودمجها مع انفعالاته لتعايش انبعاثات الرمز البصري الذي يتكوّن في معنى الدلالات داخل منجزه الفني.
يعتبر التوجه نحو الواقعية الرمزية في مسار المزين التشكيلي مجاله وفضاءه الذي يحتفي فيه بالمعنى وبعلاماته في المحاكاة البصرية العميقة التي تنبش كل ما يجول في خاطره من أحاسيس ومشاهدات ومعايشة للواقع والوقائع وفي المحاورات التي ترشح بالإحساس المندفع من عمقه الذي ينغمس في الهوية والتراث والثقافة والمعرفة والذاكرة، فكل الرموز تعني الانسان وكل الجدليات تعني الأرض وكل التحديات تعني البقاء فقد استغل في المساحات المسطحة كل ما ينتمي لوطنه من حضور فني انساني في التطريز الذي تمارسه النسوة بفنية متقنة التوريث الجمالي في القماش في الزخرف في المعمار والعمارة داخل المدن والقرى كلها تسكن أعماله ويحفرها في اللوحات بتآلفات متناسقة وتوتر يحوّل تلك العلامات إلى مواقف مصيرية الحضور في موضوع المقاومة وتقبل فكرتها الفنية في التعبيرات الذاتية الزاخرة بالجمال رغم العنف رغم الألم رغم صعوبات تحاول تقليص جدارة الانسان بالحياة.
في العلامات البصرية التي يوظفها المزين تتراكم الصيغ السردية لحياة الفلسطيني وذاكرته فهو يعتمد الأسلوب الرمزي لينتشل تلك العلامات من وظائفها المألوفة ويمنحها معان تستوجب القراءة التي قد تبدو واضحة المعالم ولكنها أيضا تخضع لصورة ماورائية في تتابعات الدلالة السيميائية التي تعنيها وتحيل عليها وهنا نقع على مفهوم الأرض والمعمار الفلكلور والمرأة.
تستند صورة الأرض على الكيان الحامل على الطبيعة والمعالم على الروح والتاريخ على العاطفة التي تنتشل من رحمها وتتفجر في سمائها كيانا وحضورا وثقافة في المدن والقرى الفلسطينية فهي الفسيفساء التي تعبّر عن التنوع في توافقات الحياة والتعايش في طبيعتها وطينها وانسانها فقد تمكّن المزين من طبع الذاكرة الفلسطينية في مخياله الذي خرج من تفاصيل الواقع نحو الرمزية فباتت صوره تستوعب الترتيبات الذهنية التي تقرأ توافقات الواقع والموقف مع الجماليات البصرية التي تتراكم في المعمار والفلكلور بكل انبعاثاته الدلالية في الرمزيات الزخرفية التي تحيل على الأمكنة وتاريخها في الأسطورة وفي التفاصيل التي تعني اليومي والمعاش فرحا ودموعا ألما وأملا.
أما التطريز الذي يرافق الاعمال في حضور الفلكلور والمرأة فيعتبره أول انبعاثات الفن وأبدع التكوينات الجمالية التي رافقته كصور فنية منذ طفولته تدهشه في تناسقها وفرح تناولاتها في تلك الانحناءات والألوان في كل التكوينات الهندسية والشكلية التي تعني المرأة وعوالمها وتلوناتها وصبرها وانبعاثات الأنوثة في حضورها في ثوبها في زينتها التي تلامس الخصوبة كما تلامس التحمل والحمل الثقيل المشبع بالهموم والتناقضات, حمل المفاتيح والقضية والانتظار والترقب والعودة والحنين والعاطفة والتاريخ والحكاية فالمرأة الحضور الذي يزرع في الخراب وردا وتنبت السنابل من جدائلها وهي التي تحوي الأرض رغم الدمار وهي التي تلمّ الشتات في صورة رمزية تعكس الواقع وتراكماته.
يجسد المزين في أعماله صورة أسطورية للمرأة فيظهرها من خلال التشكيل الرمزي في ظل الآلهة الكنعانية "عناة" التي حملت عناصر الميثيولوجيا فهي الجمال والقوة والخصب والحياة. تنعكس صورة المرأة تلك في الأعمال التي شارك بها المزين في معرض صنع في فلسطين والتي صاغها تقنيا بأسلوب الغرافيكس ورتبها على مستوى التلاعب الضوئي والمحاورة البصرية لتحديات الواقع في انبعاثات النور والعتمة داخل جوهر البعدين الأبيض والأسود حيث قام بترتيب رمزياتها بالدمج المشبع بالتناقضات بين الفوضى والعمار بين الحياة والدمار بين الرغبة في الاستمرار وبين الحمل الغارق في المكان الثابت على موقف واضح، وهذا الفعل الذي خلق إثارة وحركية داخل اللوحة لامست التاريخ والواقع يجتمع بكامل تكونه في حضور المرأة التي حوّل دورها إلى رمز حمل الصورة في أقصى المعاني المتطرفة للعشق بصدق الأرض والوطن الخصوبة والحياة النضال والمقاومة والأمل الباقي في القضية وفي الانسان وفي الزخم الجمالي الذي يتراكم في الذاكرة البصرية رغم كل أمزجة الطمس.
فالمزين يحاول أن يوازن بين الشكل والمضمون بين المحتوى والأسلوب في تداعياته التي تعبّر عن الذات وعن الهوية في وقت واحد فقد أخذ الواقع ودمجه مع الفلكلور الراسخ في الذاكرة ليحوّله إلى حكاية شعبية سمت بالتجريب على ذلك الواقع وأعطته رمزية تفاعلية أكسبته موقفا جماليا تخطى السطحية المباشرة فقد استخدم البسيط ليمنحه دلالة عميقة التأثير ويضفي عليه تراكمات بصرية سجلت ترابطات بين الماضي والحاضر فلا يمكن فصل تجربة المزين الرائدة عن التحديث البصري الذي تحوّل بالفن التشكيلي نحو تحديد رؤى واقعية وموقف استطاع أن يرتقي بعمق المفاهيم الجمالية بتميزه الذاتي الذي لم يتوقف عند تجربة واحدة بل خاض أساليب متعددة وألبسها واقعه.
الاعمال المرفقة:
معرض "صنع في فلسطين" متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Made in Palestine : Farhat Art Museum
Collection