صفحة رقم 113 بقلم مُكرَّم القصاص
تاريخ النشر : 2017-11-21
صفحة رقم 113 بقلم مُكرَّم القصاص


ما عُدتُ أخافُ الفُراقَ ولا الرحيل !

كُتبٌ في كُل مكان ، رواياتٌ جَمّة ، كوبُ نسكافيه فلا أَعي حُب القهوة كالبقيةْ ، وغرفتي التي أكون فيها حرةٌ بلا قيود ، لِتصبح أحلامي حقيقةً داخلها ، فأستطيع أن أكون فيها كاتبة ، عالِمة ، مُبدعة ، راقِصة ، وممثلة ، وعارضة أزياء ، ومصممة ، أعتلي المسرحُ متى أشاء ، و أُصفِق لي دائماً عندما ينتهي الحَفلُ في رأسي ، أُحاوِر الكثير من العُلماء الذي طالما وددتُ حضور مجالسِهم ، أناقشُ الأدباء الذي تركوا كُتبهم و علومهم ورحلوا ، و أتركُ هذا الواقعَ الفظ لمِن أرادوا الوجود فيه ، و أُوجِدُ واقعي الذي لطالما أردتُ العثور عليه .
هكذا بإختصار ، حتى قَرأت رِسالةٌ تُركت في إحدى الروايات .

في إحدى المكتبات التي إعتدت زيارتِها دورياً ، شَدَّ إنتباهي عنوان روايةٍ كُتب عليه بطباعةٍ قديمة "ما عُدت أخافُ الفراقَ ولا الرحيل " ، تفاصيل غِلافِها القديم تُظهرُ مدى غرابةِ مُحتواها ، فقررتُ إستعارتِها والبدءُ بقرائتِها في ليلةِ رأس السنة .
وجاءت ليلةُ رأسِ السنة ، مَطرٌ شديد في الخارج ، كوبٌ كبير من الشاي الساخن ، وهدوءٌ ساكنٌ يحتلُ الأرجاء وروايتي التي إستعرتُها من المكتبة ، هكذا أردتُ الإحتفال بهذه الليلة ، لا أُريد ضجيجاً كالذي يُقام كلَّ عام ، فقط أريد أن أعيش أحداثِ الرواية بِتفاصيلها وكأنني أحد الشخصيات الموجودة فيها .
بدايةً يقولُ الكاتب : " هل سمِعت يوماً عن رسالةٍ وُجدت في جيبِ أحد الجنود القتلى ، غارقةٌ بالدماء فلا حروفها واضحة ، ولا معانيها تَصِل ! ، هكذا روايتي ، سيَقرؤها الجميع إلا هيَ " .
كُتِبَ في أول سطرٍ في الصفحة التالية ، " سَتَلقى رسالةٌ ورقية داخل هذه الرواية ، إقرأها ثم ضَعها في الصفحة رقم 113 ، فهذِه الرواية لم تُصدَر منها سوى نُسخةٌ واحدة ، داخِلُها رسالة حافِظ عليها ، فإنني متيَقِنٌ بأنها سَتقرؤُها يوماً ما ".
أثارني الفضول لِقراءتها ، حتى أنني تركتُ كماً كبيراً من الصفحات وأخذتُ أبحثُ عنها حتى وجدتُها ، قبل أن أقرأ ما فيها ، فكرتُ للحظةٍ بالبلهاءِ التي تركت هذا الكاتب ! ، فكيف لُه أن يَكتبُ فيها روايةً كاملة ، ويتركُ فيها رسالةً منذُ عُقود عَلّها تصل وتقرؤُها !، صِدقاً أَغبتطُها ، فمجردُ التفكير بأن إنسان يقتني العيشَ على أملِ قراءةِ أحدهُم لما يكتبْ ، يُثيرُني بالغضب .
التقطتُ الرسالة لِتسقطَ منها وردةٌ هشةَ ، يظهرُ عليها علاماتُ زمنٍ طويل .
ثم يقول فيها :
" مُنذ وقتٍ مضى لم نلتقي ، أو لرُبما يشكو طريقُنا الذي إعتدنا اللقاء فيه مِن أخِر مرةٍ لَمحتُكِ فيها ، أو لرُبما قل إشتياقُكِ مُنذُ رحيلي ، وكأن البُعد يزيل تفاصيل وجهي من ذاكرتِكِ ، كلماتي لم تعدْ تروقُكِ البتّة ، ولربما رسائلنا التي أردتِ دوماً الإحتفاظ فيها تخافين عليها من المطر خشيةً زوال حروفٍ عشقْتيها ، لم تعد موجودة ، مُزِّقت أم حُرِقت ! ، حتى عينايَ لم تعدْ تُخيفُكِ ، وزوايا الأماكن جعلتْ مِنك شخصاً آخر ، موسيقانا التي تبادلناها أصبحت ضجيجاً يُزعِجُك حين تسمعينها ، أصبحتُ لكِ عابرٌ ، شَخصٌ مرَّ من هنا ، وفقط .... ، أقسمتُ لكِ يا حُلوتي بأن الحربْ لن يفرقَ بيننا ، وأنني سأنهيها وأعود ، لم أكن أعلم بأن الحرب إنْ إبتلعتنا لا نستطيع النَجاةَ منها ، وإن نجونا فلن نعود كما السابق ، فلا تدرين بأن الحربَ سلبتْ مني قلبي و أحدَ أطرافي وعيني اليُسرى وأنتِ ، هذهِ الرسالةُ لكِ ، هل ستقرأيها أم ستبقى مُشردَةٌ بين هذا وذاك ! ، أنتظرُك حتى اللحظة في طريقٍ جمعنا ، أعلمُ بأنك ستأتين إذ ما تقعُ بين يداكِ " .

أقفلتُ الرسالة ، وَضعتُها في صفحة رقم 113 لِأشعرُ بقطراتِ دموعي ترسو على وجهي ، ثم تركتُ الرواية ومنذ ذلك الحين لمْ أُتمَّ قرائتُها ، وكأنه يعلمُ بأنها وحدها من سَتُكمُل قرائتها ، جَعل منها نسخةً واحدةَ ، لها فقط .