وَمَاتَ نِسْوَةٌ فِي الْصَّويرةِ، تدافعوا على طحين الخبز.. بقلم:د.خالد التوزاني
تاريخ النشر : 2017-11-20
وَمَاتَ نِسْوَةٌ فِي الْصَّويرةِ، تدافعوا على طحين الخبز.. بقلم:د.خالد التوزاني


وَمَاتَ نِسْوَةٌ فِي الْصَّويرةِ، تدافعوا على طحين الخبز..
      بقلم: الدكتور خالد التوزاني
   وَمَاتَ نِسْوَةٌ فِي الْصَّويرةِ، تدافعوا على طحين الخبز.. هكذا تداولت الخبر وسائل الإعلام مساء الأحد 19 نونبر 2017، وقد نزل النبأ كالصاعقة، ليُتَّهمَ الجوع أو الفقر بجريمة إهلاك هؤلاء النسوة، وليتصدى للموضوع فتية الفيسبوك فينالوا من شرف الفقر، ويبالغوا في معاكسة التيار برد اللوم للفقر وللجوع وللمجتمع وللدولة..
    لم يكن الفقر عيبا، ولا الجوع ولا العطش، فقد قيل: لولا الفقراء لضاع العلم، العلم الذي هو أعز ما يُطلب وأنفس ما يُكسب وأشرف ما يُدّخر، إنها مفارقة عجيبة؛ أن يمتلك الفقراء أعز ما يبحث عنه الأغنياء وهو العلم، فلم يكن الخبز عائقا أمام نيل العلم أبدا، فجامعة القرويين في بعض الفترات التاريخية كانت تخصص لطلابها منحة مقدارها خبزة واحدة في اليوم، ولم يكن الطلاب يشتكون من الجوع، بل لم يعرف المجتمع المغربي ثورة الخبز، إلا عندما كانت الوفرة في هذه المادة، ولذلك من الحيف أن نتهم الفقر بأنه سبب للهلاك أو الموت، فالنساء اللواتي لقين حتفهن في الزحام بناحية مدينة الصويرة، كانت مشكلتهن في استعجال المعونة، أو في طلب المزيد، هؤلاء النسوة في مظهرهم فقر، هذا صحيح، ولا عيب في ذلك، ولكن يبدو أن الجشع حضر بجبروته، والأنانية أيضا حضرت بأنوثتها لتفعل في شعب الزحام فعلتها، ولم ننس ما كان يحدث من مآسي في أمكنة أخرى تعرف زحاما وتدافعا، لم يكن سببه الكثرة وإنما كان السبب في الفوضى العارمة، ففي الإدارات المغربية مثلا تجد بضع منتظرين يتخاصمون مَنْ جاء الأول؟ ولا يريدون التقيد بصف أو نظام، هل كُتب على الإنسان المغربي أن يعيش الفوضى إذا غاب المُنظم؟ هل من الضروري أن يأتي الآخر دائما لينظم حالنا؟ ربما في تاريخ المغاربة بعض من آثار هذا السلوك، أو تلك الرغبة الجامحة في العيش بحرية وبطلاقة ورفض كل انضباط أو تقييد أو حد من حرية التصرف أو الحركة، ففي الفترة الاستعمارية، عندما أبدع المطبخ الفرنسي لأول مرة الخبز "البولانجي" وفتح العديد من المحلاّت لبيع هذا النوع من الخبز بالمغرب، وقد كان إقبال المغاربة كبيرا عليه، كعادة كل شعب في حب الجديد، هذا الخبز الذي يشبه العصي، وقد أنتجه المستعمر آنذاك، ولعله كان يحمل رمزية خاصة لدى المغاربة الذين يكنّون للعصا كل التقدير في ضبط نظامهم وسير حياتهم، فبعضهم يقول: أن العصا أصلها من الجنة، والبعض يقول: العصا لمن عصى، ومن قبلُ قيل: لا تشتري العبد إلا والعصا معه، وغير ذلك من الحكم والأمثال والقصص التي تجعل من شكل العصا أسطورة أو رمزا معبّرا عن روح النظام، أو سرا من أسرار الالتزام، ولذلك توافد المغاربة على المحلات لشراء الخبز أفواجا، وكان البائع الفرنسي يطلب من الزبناء الاصطفاف على جنب الحائط أي انتظار الدور على شكل صف طويل أو طابور من الناس، قائلا باللغة الفرنسية: FAITES LA QUEUE AU MUR SVP
  ومع مرور الوقت حُرِّف هذا التعبير الفرنسي "Queue au mur" كو أو مير إلى كومير، وأصبح لقبا للخبز الجديد، ولكنه يؤرخ لدعوة النظام في وحدة الصف، ذلك الالتزام بالنظام الذي لم يستطع المغاربة تحقيقه في الواقع اليومي، لتصبح اللامبالاة شعارا للكثيرين، وليصبح الانضباط فقط من أخلاء التلاميذ المجتهدين أو الخائفين..
   إن للمغاربة قصصا وطرائف مع النظام والتزام الصف، بعضها مؤلم والكثير منها يحمل دروسا وعبرا، ربما لا يدخل ضمن الثقافة الشعبية اصطفاف الناس واحدا وراء الآخر أثناء الانتظار، خوفا من الغدر أو الطعن وراء الظهر، أو خوفا من المجهول.. في لاوعي المغاربة أنَّ الشَّر دائما يأتي من الآخر، ولذلك تحدُث المآسي عند كل اجتماع لخلق الله، فيكون الزحام شديدا وتأتي الضحايا سريعا، ولذلك لا ينبغي أن نتَّهم الفقر بجريمة قتل نسوة الصويرة يوم الأحد 19 نونبر 2017 وهن يتهافتن على الوصول إلى مصدر توزيع المساعدات أو الصدقات.. لم يكن الفقر عيبا أبدا، ولكن العيب في أولئك الذين يَسْخَرون من الفقر، أو يُسخّرون الفقراء لتحقيق مكاسب اجتماعية أو سياسية أو حتى اقتصادية أحيانا، عندما يراد للفقراء أن يظلوا في وضعهم لا يبرحونه، وعندما يراد لهم البقاء في وضع سيء، فلا تأتي الرحمة إلا من ملك الفقراء –حفظه الله- بمد أياديه البيضاء بالعطف والمواساة لهؤلاء النسوة، فينقذ ما تبقى من ماء الوجه، جازاه الله كل خير وفضل، ولا شك أن في تدخل جلالته رسالة لكل متهاون في أداء واجب فرض النظام وتربية القوم على الالتزام بأخلاق الإسلام، من تضامن وتعاون ورحمة وتآزر.. وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي تُبنى بها الأمم وتُصنع الحضارات.