مُطارحة الفكر التكفيري بنشر الفكر الوسطي بقلم:د. جمال أبو نحل
تاريخ النشر : 2017-11-18
مُطارحة الفكر التكفيري بنشر الفكر الوسطي بقلم:د. جمال أبو نحل


مُطارحة الفكر التكفيري بنشر الفكر الوسطي

عانت مصر الكنانة، قلب الأمة العربية والإسلامية النابض بالحبُ والحياة والعطاء، والخير، وجميع الدول العربية وشعوبها من الفكر التكفيري الإرهابي في هذا الزمان، وخاصة بعد ما عرف بثورات (الربيع العربي الدموي )، الذي دمر مُقدرات وخيرات وشعوب الدول العربية؛ وجعل القتل مشتعل بين أبناء الوطن الواحد والمصير المشترك، فكان للأسف القاتل عربي! والمقتول! عربي والسلاح والمخطط والمتفرج علينا الغرب والاحتلال الاسرائيلي! ولتعريف معني كلمة الفكر في أبسط صورهِ هو فكر أي: مارَس نَشاطه الذِّهْنيّ، وأَعْمَل العَقْلَ تبصُّرًا" ، وأَنا أُفكِّر، إِذًا أنا مَوْجُود"؛ وهو:  إمعان النظر والتأمل في الأشياء الحسيّة والمعنويّة من أجل الوصول إلى حقيقتها؛ وإمعان النظر في المعلوم للوصول لمعرفة المجهول ومنذُ أن خلق الله عز وجل الكائنات وجعل الإنسان خليفة في الأرض، واهبط أدم عليه السلام إلى الأرض بدأ الصراع بين الحق والباطل بين الفكر الوسطي الايجابي والواقعي، وبين البعض الذي يحمل الفكر الوحشي الجاهلي السلبي المُنغلق فكريًا؛ وهذا الفكر التكفيري الوحشي المنُحرف كان موجوداً في الجاهلية قبل وجود الاسلام وهنا من يستغرب من وصف الفكر بالوحشي! أي مثل الوحوش وفي هذا نقول نعم وحشي، بل إن تفكير بعض الناس ينزل درجات للهاوية عن الوحوش وتكون الحيوانات أعزكم الله، أكثر عقلانية ورحمة من بعض أصحاب الفكر الوحشي؛ ألم يكن في الجاهلية وأد البنات- خوفًا من العار من إنجاب البنات، فكان البعض يدفن ابنته الطفلة المولودة في التراب وهي حية! وهي نفس بشرية حرم الله عز وجل قتلها فقال تعالي: ( وإذا الموءودة سُئلت بأي ذنبٍ قُتلت) فهل وجدتم من الوحوش والحيوانات من يفعل ذلك ويدفن ويقتل أولادهُ أحياء؟ بالطبع لا- فإن الفكر الوحشي التكفيري أكثر قساوةً وإجرامًا من أي شيء على وجه البسيطة؛ وفي هذا يقول الله عز وجل:( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) ، أم ، في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة وأشهر معانيها أنها جامعة بين معنى بل الإضرابية ، واستفهام الإنكار معا ، والإضراب المدلول عليه بها هنا إضراب انتقالي . والمعنى : بل تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ، أي : لا تعتقد ذلك ولا تظنه ، فإنهم لا يسمعون الحق ولا يعقلونه ، أي : لا يدركونه بعقولهم : إن هم إلا كالأنعام ، أي : ما هم إلا كالأنعام ، التي هي الإبل والبقر والغنم في عدم سماع الحق وإدراكه ، بل هم أضل من الأنعام أي : أبعد عن فهم الحق وإدراكه، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بل هم أضل سبيلا ، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلوا أضل من الأنعام ؟ قلت : لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها ، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها ، وتجتنب ما يضرها ، وتهتدي لمراعيها ومشاربها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ، ولا يهتدون للحق؛ وإذا علمت ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، فاعلم أن الله بينه في غير الموضع ، ; كقوله تعالى في سورة " الأعراف ") ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) وقوله تعالى في " سورة البقرة " : (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ). ونجد الفكر الوحشي السلبي والفكر السليم الايجابي قديم قدِم البشرية ونري ذلك ممُثلاً جليًا في قصة ابني أدم عليه السلام قابيل وهابيل؛ وقد ردت هذه القصة في الآيات الكريمات 27- 30 من سورة المائدة- إنّ هذه القصة التي تناولها القرآن الكريم تبيّن مدى الفحش في التفكير ومن صفات ذميمة كالبغي والفساد في الأرض والحسد والظلم والتي بدورها تؤدي الى قتل النفس بغير الحق وبالتالي خروج فاعلها من رحمة الرحمن سبحانه وتعالى. إنّ التفكير الوحشي تجسد في بغى قابيل على أخيه هابيل الذي فكر تفكيرًا إيجابيًا إيماني جعله يمتنع عن قتل أخيه قابيل وبالمقابل كان تفكير قابيل مثل تفكير التكفيرين اليوم يقتل ظلمًا وجهلاً وحسدًا وإليكم القصة كاملة للفائدة: " كان هابيل يعمل في الأرض والزراعة, على حين قابيل في رعي الماشية, ومع الأيام وتواليها تكون اقليما الفتاة البكر لآدم عليه السلام والتي ولدت مع قابيل قد بلغت مرحلة الشباب والفتوة والنضج, وبالهام من الله تبارك وتعالى وحكمة منه عز وجل جعلها تميل بقلبها وعواطفها الى أخيها هابيل من البطن الآخر, وهو كذلك بادلها احساسها وشعورها, وكم حاول قابيل أن يشدها اليه ليمتلك زمام عواطفها أو يستأثر بقلبها الا أنّ القلب وما يهوى؛ انّ سنة الله لآدم عليه السلام كانت في أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال, وذلك لعدم وجود بنات من خارج الأسرة, فأسرة آدم عليه السلام كانت أول خلية في المجتمع بل وفي الدنيا كلها, وكان يولد لآدم عليه السلام في كل بطن ذكر وأنثى, وكان يزوّج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر, وقيل أنّ أخت هابيل كانت دميمة, بينما أخت قابيل كانت جميلة, وطلب هابيل من قابيل أن يزوجه أخته فرفض, وقال له: ولكنها أختي التوأم وأنا أولى بها منك, لقد عشنا معا في رحم واحد, وولدنا معا في ساعة واحدة, وهي أجمل من أختك, وما رفض هابيل لفكرة أخيه الا لأنها لا تحلّ له, ورغم أنّ والده أخبره بأنّ اخته من توأمه لا تحلّ له الا أنه عاند رأي أباه, ولما رأى آدم عليه السلام عناد ومكابرة ابنه قال له: يا بنيّ قرّب قربانا, ويقرّب أخوك قربانا, وايكما تقبّل قربانه فهو أحق بها, وقرّب قابيل قمحا, وقرّب هابيل غنمة أو بقرة, وقال ابن عباس رضي الله عنهما أنّ قابيل قدّم الكبش الذي فدي به الذبيح اسماعيل عليه السلام, فارسل الله نارًا بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل, عندها غضب قابيل غضبًا شديدًا وقال لأخيه لأقتلنك! لماذا نطق قابيل بكلمة القتل؟ حتى لا ينكح هابيل اقليما أخت قابيل التي يرى أنه أحق بها منه كونها توأمه, وعندما سمع هابيل من أخيه كلمة التهديد بالقتل أجابه بكل هدوء وبرود: انما يتقبل الله من المتقين, يعني أنّ الله يتقبّل ممّن اتقى الله عز وجل في فعله ذاك, والمتقون وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة لله عز وجل فيمرون الى الجنة. ولقد اجمع العلماء أنّ هابيل كان أشدّ قوة من أخيه ولكنه منعه الورع والتقوى من أن يبسط يده الى أخيه ليفوز بالرضى والرضوان من الله تعالى, فأن يكون الانسان مقتولا ظلما خيرا له من أن يكون قاتلا ظالما, لأجل ذلك قال له هابيل: لئن بسطت اليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي اليك لأقتلك, اني أخاف الله ربّ العالمين, أي لا أقابلك على صنيعك الفاسد بفاسد مثله, فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة, وكلمة الخوف التي نطق بها هابيل هذه هي قمة التقوى, ولأنّ علم الله تعالى سبق حكمه فانه أيدّ هابيل بنصره وفاز بالدارين الدنيا والآخرة. وعن سعد بن أبي وقاص قال عن فتنة عثمان رضي الله عنهما: أشهد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انها ستكون فتنة, القاعد فيها خير من القائم, والقائم خير من الماشي, والماشي خير من الساعي, قال: أفرأيت ان دخل عليّ بيتي فبسط يده اليّ ليقتلني؟ فقال عليه الصلاة والسلام: كن كابن آدم, وانّ أول من أخذ بهذه الآية لئن بسط اليّ لتقتلني من هذه الأمة هو عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ أما عن قوله تعالى: اني أريد أن تبوء بإثمي واثمك فتكون من أصحاب النار, وذلك جزاء الظالمين. وهذا معناه أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمّل وزرها واثمك في قتلك اياي, لأنّ يوم القيامة يقتص الله تعالى من القاتل للمقتول, تماما كالظلم والقتل أشد المظالم اطلاقا, وكما أنّ المظلوم يأخذ من حسنات الظالم على قدر مظلمته, فان فنيت حسنات الظالم قبل استفاء حق المظلوم يتحمل المظلوم أوزار الظالم حتى يستوفي حقه فيلقى في النار لفناء حسناته كلها وتحمله أوزار المظلوم, ولأنّ القتل أشد المظالم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم , فقد قال تعالى: اني أريد أن تبوء بإثمي واثمك أي تتحمّل اثمي واثمك فتكون من أصحاب النار كما قال الله عز وجل. وبدت البغضاء على لسان قابيل وتصرفاته وأخذ يمعن في العداوة لأخيه, وبدأ يطلق قابيل تهديداته لأنه يجده أنه ينغص عليه حياته وسعادته, ويرى أنه سيبقى يعيش نكدا وتعسا طالما يرى أخاه يستمتع بتوأمه, ويشتعل قلبه بنار الحقد والغيرة حتى اذا لم يعد قابيل يحتمل يحاوره الشيطان بكيفية القضاء عليه حتى يفوز بها, وتختمر الفكرة الشيطانية برأسه ويلقي بصخرة كبيرة على رأس أخيه فيرديه جثة هامدة لا حراك فيها, ثم جاء ابليس الى حواء مسرعا فقال لها: يا حواء انّ قابيل قتل هابيل, فقالت له: ويحك وأيّ شيء يكون القتل؟ قال لعنه الله: لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك, قالت: ذلك الموت؟ قال لعنه الله: فهو الموت. لأجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام: لا تقتل نفس ظلما الا كان على ابن آدم الأول كفلا من دمها لأنه كان أول من سنّ القتل. وبعد أن قتل قابيل أخاه وقف محتارا ما يفعل بالجثة, ولم يطل تفكيره حتى بعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه, فحفر له ثم حثى عليه التراب, وطار في الجو محلقا, وقد أرسل الله تبارك وتعالى هذا الغراب كي يعلم قابيل كيف يواري جثة أخيه ويدفنه وأن يكون طير يعلم الانسان!!! تلك ولا شك حكمة بالغة لها أكثر من مدلول ومفهوم, ويكفينا فيها أنّ نؤمن بوحدانية الله وقدرته ورحمته على خلقه... لقد شدّت عينا قابيل الى الغراب وعمله, وكذلك شدّ تفكيره واهتمامه, فلما رأى ما رأى قال في ألم وحسرة وندامة: يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين, وقال الحسن البصري رحمه الله أنّ الله تعالى علاه بندامة بعد خسران, وكما ذكر مجاهد وابن جبير رحمهما الله أنّ قابيل قد عوجل بالعقوبة وذلك حين علقت ساقه بفخذ أخيه يوم قتله وجعل الله وجهه الى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلا به, وقد ورد في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدّخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم. وقد اجتمع في فعل قابيل البغي وقطيعة الرحم, ثم قام ودفن الجثة الممددة يجر ساقيه جرا, والحسرة تأكل قلبه ولكن أنى له أن يتطهر أو يستغفر! فقد نهر الدم الانساني الأول على مذبح الشهوة والهوى, وعصى ربه وأطاع الشيطان فغوى.

ونري اليوم الفكر التكفيري الوحشي الاجرامي الداعشي انتشر وله مناصرين من الضالين المُظلين وخاصة في الوطن العربي؛ هذا الفكر التكفيري المنحرف والذي لا يمُت للإسلام بصلة، لأن الفكر الإسلامي فكر شمولي يقوم على أساس من العقيدة الرّبانيّة الوسطية، وتأثيره في القناعات والسلوك كبير، وهو من أعظم حاجات الإنسان المسلم في كافة مراحل نموه. من هنا لا بد من الاهتمام بتثقيف الشباب وتربيتهم على أساس من هذا الفكر في كل المراحل التعليمية، بما فيها المرحلة الجامعيّة، وبما يتلاءم مع مستوى نضوج الطالب وحاجاته وخبراته؛ وخاصةً مع طغيان الفكر الوحشي وانتشارهُ ؛ لذلك يتوجب علينا أن نعرفهمُ الوسطيّة والتوازن في الاسلام بعيدًا عن الغلو والافراط والتفريط ؛ والوسطية تعني الخيريّة، فلا إفراط ولا تفريط؛ فالشجاعة وسط بين التهوّر والجبن. والكرم وسط بين البخل والتبذير. وقد جاء في القرآن الكريم في الآية 29 من سورة الإسراء:" ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط"؛ فهذه وسطيّة فيها توازن في التفكير؛ وفي محاربة الفكر الوحشي التكفيري ما وورد في صحيح البخاري:" جاء ثلاث رهط إلى بيوت أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي، عليه السلام، فلما أخبروا كأنّهم تقالّوها فقالوا: أين نحن من النبي، صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال:" أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" . وهذه أيضاً وسطية فيها توازن، ثم هي واقعية تراعي حاجات الإنسان الفطرية؛ وقد وازن الإسلام في تشريعاته بين ثنائيّات منها: العقل والقلب، والمادة والروح، والدنيا والآخرة، ومصالح الفرد ومصالح المجموع، كل ذلك في وسطيّة متوازنة. وإليك هذه المقارنة بين وسطيّة الإسلام وتوازنه من جهة، وتطرف الفكر البشري وعدم توازنه من جهة أخرى- فما أحوجنا اليوم لنشر الفكر الاسلامي الوسطي وتعريفه للناس جميعًا ففيهِ رحمةً للعالمين ورسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام أرسلهُ الله عز وجل رحمةً للعالمين لذلك علينا أن نُبحر بعيدًا بشبابنا عن الفكر الوحشي التكفيري الذي انتشر وازداد في حياتنا اليوم.

الكاتب الصحفي والمفكر العربي والمحلل السياسي
 د. جمال عبد الناصر محمد عبد الله أبو نحل
رئيس المركز القومي لعلماء فلسطين
عضو الاتحاد الدولي للصحافة الالكترونية