تجربة النحات محمود السعدي رؤية واقعية تنصهر مع حساسيّة روحه وأبعاد بصيرته
تاريخ النشر : 2017-11-18
تجربة النحات محمود السعدي رؤية واقعية تنصهر مع حساسيّة روحه وأبعاد بصيرته


 بشرى بن فاطمة


تجربة النحات محمود السعدي 
رؤية واقعية تنصهر مع حساسيّة روحه وأبعاد بصيرته


يجمع الفنان التشكيلي في تجربته الخيال والعاطفة العقل والإحساس، إذ يحمل في منجزه بعدين: أوّلهما أنه يشكّل الفكرة بجمالية مدهشة تروض بعمقها الأسئلة المنفلتة، وثانيهما أنه رسالة تسخّر الأسلوب والمنهج والموروث لخدمة هدف نبيل إنساني ولا يختلف البعدان في ظاهرهما بل يتوازيان جنبا إلى جنب في تفصيلات التكوين والابتكار والخلق مع اختيارات الفنان ومواقفه وأحاسيسه الجمالية رغم تراكمات البيئة والواقع وهواجس العقل والذاكرة وتفاعلها مع العواطف.
هي طاقة لا مرئية يفجرها فكرة وموقفا وسردا ومحاكاة النحات محمود السعدي، ليتماهى معها في الأمكنة، حين تتوغّل في الذاكرة والأحداث والمشاعر وتتسرّب أفكارا من أنامله إلى المادة التي يشكّل منها منحوتاته بحرفية تعكس طاقته موقفا وإحساسا على المنحوتة المنجزة التي يبثها بجمال إنساني ذبذبات تبعث في الكتلات وتكشف عن المخفي في ذهنه لتبدو ظاهرا يتجلى إبداعا متناغما مع المحتوى متواترا ومتوتّرا ومستمدّا من علاماته الرمزية، وفق أبعاده الفنية الجماليّة.
ولد الفنان والنحات الفلسطيني محمود السعدي بدمشق سنة 1962 تخرج من كلية الفنون سنة 1987 شارك في معارض فردية محلية وعالمية وفي المعارض الجماعية لاتحاد التشكيليين الفلسطينيين.

تغوص أعمال السعدي في عمق مزيج فني روحاني يحاكي الجوانب الإنسانية من خلال الأحداث السياسية التي تؤثّر على نفسيّته في واقعه المعاش ومواقفه، فتتراكم داخل وجعه الذي يبدأ من الجغرافيا إلى التذكر والحنين والذاكرة والأحداث والإنسان.
يحاور السعدي المادة الخام ويشكلها في عمق وعيه المعالج للفكرة فيستنطق فيها الرموز الملفتة والمستفزة لتخترق الحالات في الصخب والصمت والجرح والانكسار والقيد فتتحدّى ضجيج القلق ما يساعدها لتتشكل وتنفلت نحو الحريّة والضوء والانفتاح على عناصرها التكوينية ذات الملامح الخاصة.
تستمدّ الرموز التي يشكلها السعدي حضورها المنفعل الظاهر في بعض التفعيلات الأسطورية والملحميّة كاسترجاع يتناغم ويندمج مع أحاسيسه المختلفة لتختزل ما يظهر في تلونات المشاعر من حزن ويأس يتصارع بحثا عن الأمل في ذلك الانسان الذي يتكاثف حضوره بكل حالاته بهندسة مندمجة مع الأبعاد في بنية المنحوتة وبتجسيدها يحاول جاهدا أن يتجاوز التناقضات التي تنطلق من انفعالاته تجاه قضيته الإنسانية بتراكمات فكرية فلسفية وجودية تبلور مواقفه ليحمل من خلالها دعوة للاستمرار والإقدام كطاقة مخزّنة تخلق تبادلا بين المتلقي والمنحوتة في الإيحاءات والمعاني الكامنة في الكتلة وتكوّنها وعلاقاتها فيما بينها وبين الفكرة والمضمون والرمز والعلامة البصرية.
 هذه الطاقة الدافعة المنطلقة من البصيرة المتقدة للفنان الباحث عن منافذ جديدة تتسرب من الروح نحو الحواس متكئة على أبعاد جمالية حمّلت أعمال السعدي تمردا على الظاهر فسلك درب النور الذي يعتبر علامة يسعى إليها كل إنسان يؤمن بالخلاص عن طريق الحق والمحبة.

يتحاور السعدي مع منحوتاته من خلال الأطر مكانا زمانا تاريخا وجغرافيا في جدلية تقدم الفكرة على محمل الشعور في واقع شخوصه التي يشكلها بانفعالاته ويروضها بكل مواقفه وتطلعاته، مخترقا الفوارق التي قد تضيق في الأطر نفسها، ليعبّر عن ذاته بحساسية وجمالية عالية وخيال خصب تتواتر فيه التشكيلات لتدخل في صراع مع المادة المتغيّرة بنضجه الفني.
تتولد الأفكار لديه لتزداد تفاعلا مع الأحداث المجسدة في المنحوتات إذ يعبّر عن المضامين التي يريدها ويوصلها وفق أكثر من اتجاه ورؤية وتحمّل بين الفرد والآخر.
 ساهم الواقع السياسي الذي يعايشه الفنان في منح أعماله أهمية في الإدراك والتوثيق الجمالي للموقف وللمفهوم الفني ولفكرة النحت نفسها إذ تمكّن من جعل واقعه دافعا ومصدرا للإبداع رغم المرارة والتصعيد وجد في ملامسة خاماته وتشكيلها وهندستها وبنائها منافذه نحو الجمالية المضيئة بالفكرة.
إن هذه الأبعاد الجمالية التي يعمل من خلالها السعدي على بناء عناصره النحتية وتشخيصها مع المحتوى يشكل بها نسقه الدرامي التفاعلي فيمسرحها ويحرّكها ويختار لها أدوارها فتخرج من جمودها إلى عالمها بكل التناقضات الإيجابية والسلبية، وفق الطاقة المتجانسة من الانزياحات التعبيرية الأولى للملامح فالعاطفة المشتعلة في الفكرة هي التي تظهر البنية اللامرئية في البناء التكويني المحدد للشكل بتناغم إيقاعي.
 فهو يعكس ذاته وينعكس فيها كدلالات بنيوية تستمد حضورها المنفعل ظاهرا، من الرمزيات والأسطورة والروحانيات التي تتوافق مع واقع متضاد في تناقضاته المتفاعلة بين اليأس والأمل وجدلية التحاور بين الفنان والمنحوتة والمتلقي، وهي تفاعلات الحركة حين تخلق القيمة الجمالية التي تبرز التشكيل البنيوي للمنحوتة وهي تتجادل أفقيا وعموديا في تشكلاتها ونتوءاتها وعناصرها والمادة التي تكونت منها لتلامس الفكرة وتكتسب دلالاتها الإيحائية النفسية التي تتفاعل في فضائها وخطوطها وكتلها لتلتقي وفق توافقات العتمة والضوء والظلال والسطوع بين الأبعاد الثنائية والثلاثية في النحت البارز والمستقل.
تحمل المنحوتة حكايتها الصامتة في الفعل البنائي الديناميكي من الذات الفردية إلى المعايشة الجماعية وفق الخطوط والأشكال التي يركبها بين التأنيث والمذكر فكائناته الإنسانية تتجلى في المادة ومنطقها المتحكم في حركتها بين الطول والعرض، الخطوط والدوائر الانحناءات الفراغات والأحجام، لتخلق اختلافات الجغرافيا والجسد في حضورها وملامحها القلقة والمضطربة أو المرهقة والمتعبة من اجترار الواقع في عتمة الزمن فتحاور الفقد والحضور في التداخل والاندماج والمرونة والصلابة بقسوة تفجر رغباته في الانعتاق السردي الذي يوحّدها في العملية النحتية المنبعثة من التقنية والأسلوب.

*الأعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections