بسمة على وجه الوجع بقلم بدوي الدقادوسي
تاريخ النشر : 2017-11-11
بسمة على وجه الوجع
رقص وغناء ، تصريح بإجازة من الأوامر والخطوة المعتادة والخدمة الليلية ، هذا يبحث عن فرشاة للشعر وذاك عن فرشاه للبيادة ، دقائق ليخلو بعدها " الهنجر " فلم أعد أسمع إلا أنفاسي الحانقة .
جاء الصوت مبددا وحدتي : اجمع بالخطوة السريعة يا عسكري ، طوال طريقنا لمكتب القائد تهديد ، ستة استعد يا عسكري ، تسعة استعد يا عسكري .
ألقى التحية : تمام يا فندم العسكري المذنب .
- اسمك: جندي مجند محيسن شعبان شطا .
- يُحْرَم من تصريح النزول ويُحَوَّل طُلْبة مطبخ .
- تمام يا فندم
ألقى بقطعة الخيش والجردل بوجهي ، أريد أن أرى وجهي ببريق أرض المطبخ مفهوم يا "بعكوك".
الآلام تعض بفقرات ظهري بضراوة ، تماسكت محاولا الانتصاب ، أعطيته تماما بانتهائي من المهمة ، مد بصره بطول المطبخ ، هز رأسه ، صرخ : " طلبة مطبخ اجمعوا بالخطوة السريعة " ، تراصوا أمامه ، طلب إفراغ أجولة الأرز كلها أمامي حتى صارت محاذية صدري ، التفتَ نحوي آمرا : أريد تنقية هذا الأرز وتعطيني التمام بعد ساعة ، فاهم يا " عسكري طُلبة" ؟
التل لا يختل وعيني لم تعد تميز بين الشوائب وحب الأرز ، يدٌ تُمْسِك بكتفي والأخرى تشير لي بالنهوض ، كاد الدَوَار يصْرَعُني ، تماسكت ، سرت خلفه ، ألقى نحوي طبقا به حبات أرز وقطعة لحم ، فور التهامي للطبق سألني :
-اسمك ؟
- جندي مجند محيسن شعبان شطا يا فندم .
- ما ذنبك؟
- تكسير الأوامر العسكرية وإهانة المعلم يا فندم .
- نظر نحوي بذهول " أنت يا مُسْتَجَد أهنت الأوماشي دياب؟
- نعم يا فندم
- ليه؟
- سخر مني ومن اسم بلدي يا فندم
- وما اسم بلدك؟
صمتُ قليلا ، صرخ : انطق يا طُلْبة ، تفلّتتْ ضحكة عجز عن كتمها ، راح يردد الاسم بضحكة أعلى ها ها ها ها " ميت البز" ها ها ها ، توقف على نظراتي تقدح شررا ، رسم بعض الجدية على وجهه قائلا: اذهب " للهنجر" وارتدي " أفرول " الخروج وانزل إجازتك .
- لكن يا فندم
- - نفذ الأمر يا عسكري
في الطريق الترابي للقرية صار صوت الديوك ونباح الكلاب مؤنسي وبعض ضوء يلوح من خيوط الفجر ، ما إن سحبتُ سُقّاطة الباب وارتفع المزلاج لأرى خلية نحل ، الصغار يفركون عيونهم وأعمامي يجمعون الحِبال والمناجل ، رفعت أمي يدها من عجينها واحتضنتني باكية ، قال أبي الذي لم يرفع عينيه عن الحمار وهو يرص فوق ظهره الصِغار : ربنا بعتك ، امسك الحمار حتى لا يسقط الغبيط والمناجل فوق إخوتك أرضا ، انحنى رافعا " الجُوزة" وباكو المعسِّل وأكمل حديثه : الهِمّة يا محيسن لازم ننهي دراس القمح قبل الشمس ما تهجم علينا .
الحقل بنهاية زِمام القرية ، الفؤوس تتسابق لتسوية أرض الجُرن ، الصغار يتسابقون في حمل أعواد القمح لتلتهمه ماكينة ذات فم وتروس حادة فتصير الأعواد تبنا وحَبّا ، ارتفعت الشمس ، سال العرق ، التصقت الأتربة بالوجوه التي لم يعد يبدو منها إلا عيون شخصتْ صوْب الطريق المؤدي للبيوت بانتظار قدوم أمي فوق رأسها " المشَنّة " بالخبز الساخن ، حين لاحت سيدتان و المِشنّة على رأس والجُرّة على أخرى ؛ لمعت العيون وتهللت الأسارير .
حطّتْ ما فوق رأسها في ظلال التوتة ، أوكلت أصغر الصغار بالحراسة وراحت هي وزوجة عمي يجمعن أعواد الحطب الجاف ليغلي فوقها الشاي .
تسارع الجميع ملقيا جسده بالترعة حتى صارت مترعة بالتبن ، نسبح ونرش بعضنا ، الصراخ يشق الفضاء حري........قة حري..........قة ، النار تزحف على كومة شقائنا ، قفز الجميع صوبها محاولا فصل النيران عن البقية ، عمي يصرخ شاحذا الهمم . انتهينا من قطع ألسنة اللهب ، تنفسنا الصعداء ، انطلقنا صوب التوتة لنجد الكلاب الضالة تجر الأرغفة وقد قلبوا " المشنة " ، صاح عمي الأصغر بجنون يا ولاد الكااااالب ، حاول اللحاق بالكلب وانتزاع الرغيف الأخير من فمه ، استدار الكلب دورة كاملة ، سقط العم على الأرض ولم يبد منه بين الحشائش إلا مؤخرته العارية ، دخلنا في نوبة ضحك هستيري ، ظللنا نضحك حتى سقطت الدموع.