"عين خفشة" رواية المسكوت عنه فيما حدث.. 2 بقلم د.لنا وِهبي
تاريخ النشر : 2017-10-21
"عين خفشة" رواية المسكوت عنه فيما حدث.. 2 بقلم د.لنا وِهبي


"عين خفشة" للرّوائيّة  رجاء بكريّة، رواية المسكوت عنه فيما حدث..
(نكبة 48 بشهادة شخوصها، وعلى لسان أهلها)
   
الرّواية: عَين خفشة
دار النّشر: الأهليّة للنّشر والتّوزيع، بيروت-عمّان
الرّوائيّة: رجاء بكريّة

"..وتبرع الكاتبة في خلق قوالب لغويّة جديدة خاصّة بها، وتحرص على توظيف اللّهجة المحليّة الفلسطينيّة الّتي ترتبط عضويًا بالمضمون الرّوائي، وتساهم في إبراز مؤرقات الشخصيات الروائيّة في المستويين الخاص والعام، وتضفي طابعًا سوداويًا للواقع المعيش، يؤثر بالتّالي على المتلقي الّذي يتعاطف حسيا وشعوريا مع الأحداث والشخصيّات"،
 (د.وهبي)

نقد: د. لنا وهبي

 البعد النسويّ في الرّواية 
يتمظهر البعد النّسوي في الرّواية في  مواقف وأحداث عديدة، إذ يتمثل في اتخاذ الشخصيات النّسائية أدوارًا مركزية كما وكيفا. فقد احتلّت شخصيّة كلّ من الطفلة لبيبة والجدّة صبيحة أدوار البطولة والمركزيّة في الرّواية، إذ هيمنت هاتان الشخصيّتان على تفجير الأحداث، ودفعها قدمًا.
    إنّ اختيار شخصيّة الجدّة في هذه الرّواية لم يكن عفويّا، إنّما كان له دور فاعل ورئيس في خدمة المضمون الرّوائي، إذ مثّلت الجدّة جيلا عاش مأساة التّهجير والاحتلال، وخاض بعدها تجارب التضليل والوعود الكاذبة، الهزائم، والخيانات. هذا الجيل هو القادر على كشف حجم المؤامرة، وتداعياتها على طمس الحقائق ومحو هويّة الفلسطينيين. فقد تميّزت شخصيّة الجدّة بجرأة متناهية على كشف تجارب وأحداث تاريخيّة ألمّت بعائلتها بشكل خاص وبالشعب الفلسطيني عامّة، كما يتضّح من الأمثلة التّالية:
"لم تتوقّف أبدًا عن التّفكير بصوت عال على مسمع الرّجال والنّساء، مثل مؤذّن جامع. وبقيت حتّى ساعاتها الأخيرة تردّد بين التّنويحة وموّالها مونولوجًا طويلا يحكي نكبة الشّعب الّذي ظلّت تحشره في عبّها حتّى لا يعثر عليه وعليها أحد" (ص 17).
"لم تخطىء جدّتي صبيحة كثيرًا حين اعتصمت قلبها، خطّطت غيبًا أن تتحصّن الحقائق الّتي تعرفها. أهل الحي تحصّنوا في صمتهم، عكسها تمامًا. أصرّت أن تحكي بلا توقّف، وعن كلّ ما رأته وسمعته ونسجته ذاكرتها الخصبة حتّى خانها صوتها" (ص 67).
"مرّة جيش الإنقاذ دُحر، ومرّة هوجم، ومرّة ضاع. ضاعت النّاس وبكيت. إللي ركض ونسي مرته واللي دفن بالحيا بنته، واللي وقع من قهره عالدّخانة، واللي واللي واللي" (ص109). 
هذه الأحداث والوقائع لم تجرؤ على فضحها الشخصيات الذّكوريّة، متمثلة بالأب والشيخ بدر العبدالله، اللّذين لاذا بالصمت والتكتم والرّضوخ للواقع، كما يتّضح في الأمثلة التّالية:
    "يا بوي خرّبت بيتي، ما حد راح يرجع ولا يتشحّر، هاي ستّك كانت تْخرّف، صدقتيها؟" (ص18-19).
    " حاولت أن أقنع أبي أنّ التّاريخ الّذي أخذنا يجب أن يعيدنا، وضحك. لم يخطر بباله أنّي سأكبر قبل أجيالي، وأبحث عن إجابات لأسئلتي الّتي أقفل هو وأمّي، عليها الأدراج" (ص100).
    من الأمثلة أعلاه يُستشف اختراق الشّخصيّة الأنثوية للأدوار الجندريّة، ويعكس نظرة المجتمع للمرأة أنّها لا تستطيع الخوض في الأمور المصيريّة، والعامّة، لانّها لا تمتلك الوعي الكافي، فإن تفوّهت وأظهرت فكرّا ووعيا سياسيّا،  تكون قد اخترقت ترسيمات الثّقافة الأبويّة، وتُتهم بالخرف، ويُشكّك في نضوجها الفكريّ.
وما يلفت الانتباه في هذه الرّواية أنّ البطلة لبيبة، قوّضت لمسلّمات الثّقافة الأبوية اجتماعيّا وسياسيّا، من خلال أفعالها وسلوكيّاتها وأفكارها غير المألوفة، وتمردها على العادات والتّقاليد.  على الصعيد السياسيّ أظهرت لبيبة منذ صغرها فاعليّة لافتة تفوق جيلها العمريّ، تتمثّل في اتخاذها مسؤولية إعادة الوطن وتحريره، فتسعى جاهدة إلى تحقيق حلمها في شراء أسطول يُمكّنها من مواجهة الاحتلال، وإعادة الفلسطينيين إلى بيوتهم وأراضيهم. وربّما يكون هذا ردّ فعل على الحالة السلبيّة، والرضوخ للواقع والخمول الّذي ميّز الشعب والقيادات. ومن هنا تبرز فاعليّة الشخصيّة الأنثويّة متمثلة في لبيبة، الّتي أخذت على عاتقها المبادرة والفعل، وإن كان هذا الفعل في حيّز الحلم والافتراض. لكنّه يدلّ على عمق الحسّ والانتماء الوطنيّ.
    ويتمظهر البعد النسوي في الرّواية على الصعيد الاجتماعي أيضًا، متمثلا بتمرّد واختراق الشّخصيّة الأنثويّة لبيبة للمسلّمات الاجتماعيّة الّتي تفرض على الأنثى قيودًا جسديّة، عاطفيّة وحبوسات منزليّة. إذ لم ترتدع لبيبة عن الخروج من المنزل للقاء حبيبها آسر، الّذي ارتبطت معه بعلاقة عاطفيّة وجسديّة، كما نلحظ ممّا يلي:
"كان اسمه يُفزع العصافير إلى رأسي كلّما دقّ باب بيتنا. أطلّ برأسي من فسحة الباب وأوشوشه حتّى لا يسمعنا أحد، إذهب إلى الميدان، وسوف ألحق بك. أبتسم له من فتحة الباب الواسعة فيفهم أنّنا سنتأخّر حتّى إظلام شجر الحبق على عناقنا، وحتّى دوخان أمّي وأمّه في الحواري الوهرة بحثّا عنّا" (ص161).
وفي هذا يظهر وعي لبيبة لشروط المجتمع الّتي تمنع الفتاة من ممارسة حريتها، وتحقيق أنوثتها، لذلك تلجأ إلى طرق تحقّق خلالها حريّتها الطبيعيّة بعيدًا عن الرّقيب الاجتماعيّ. وفي هذا ينعكس النقد النّسوي للثقافة الأبويّة الّتي تصادر الحريّات الفرديّة، ولعلّ في ذلك دعوة لتصحيح المفاهيم الاجتماعيّة الزّائفة.

اللغة التجربيبّة في الرّواية
تتميّز رواية "عين خفشة" في لغتها التّجريبيّة الّتي تكسر المألوف والنّمطي في الكتابة، إذ نقف على مفردات غرائبيّة تتمثل في إيراد جمل مبهمة، تشغل اهتمام القارئ، وتجتذبه في محاولة لفكّ رموزها. وتبرع الكاتبة في خلق قوالب لغويّة جديدة خاصّة بها، وتحرص على توظيف اللّهجة المحليّة الفلسطينيّة الّتي ترتبط عضويًا بالمضمون الرّوائي، وتساهم في إبراز مؤرقات الشخصيات الروائيّة في المستويين الخاص والعام، وتضفي طابعًا سوداويًا للواقع المعيش، يؤثر بالتّالي على المتلقي الّذي يتعاطف حسيا وشعوريا مع الأحداث والشخصيّات.
وما يلفت الانتباه في توظيف اللغة هو كثرة الموتيفات الّتي تنذر بالشؤم والسوداويّة مثل إيراد أسماء طيور تحمل دلالات سلبيّة، تحيا وتتغذّى على أشلاء غيرها، فنظرة متفحّصة إلى الرّواية تكشف عن توظيف موتيف الغربان والصّقور للتدليل على حجم المأساة  وكثرة المقابر الجماعيّة للفلسطينيين، فلهذا الغرض تخلق الكاتبة قوالب لغويّة تجريبيّة بكريّة بحت، تتمثّل في مزيج لغويّ يجمع بين مفردات متناقضة تُنتج مفاهيم جديدة لبشاعة الموت وممارسات التضليل المتمثّلة في إقامة مزارع  ومشاتل تشي بالحياة فوق المقابر الجماعيّة كما يتضّح فيما يلي:
"بمحاذاة كلّ مسكب موت نهضت علامة تحرس التلال المتربة" (ص49)
خُدع الأعداء لئيمة دائمًا، وتوهمك أنّها بطاقات لتحديد عائلات أشتال الورد" (ص91)
          "وصلت مشاتل الدّفن أختنق بحقدي. ثيابي تلتصق بفخذيّ، وقلبي أيضًا! بدأت أجزع، فما تحتها سينمسح إذا لم يهدأ قليلا ضرب الشتاء" (ص127). 
    ومن اللافت في هذه الرّواية أيضًا توظيف الكاتبة للأساطير والخرافات المألوفة مثل ذكر "بيضاء الثّلج"، "عقلة الأصبع"، "السندباد"، "فريط الرّمان"، و"النسر الذّهبي" التي تجتمع جميعًا في وصف الصّراع بين ثنائيات متضادة مثل قوى الخير والشّرّ، الحقّ والباطل، الظالم والمظلوم. وهذا ما يتماهى مع الثيمة التراجيديّة الّتي تطرحها الرّواية.
ويلعب الموتيف الأسطوري المتمثّل في "النّسر الذهبي" دورًا هاما في فهم غرائبيّة الأحداث الرّوائية ومدلولاتها. إذ وُظّف ليكون دليلا على التيه والتضليل والموت والضياع بدلا من أن يكون دليلا على اليقظة والوعي والرؤية الثاقبة والبعيدة، فما حدث لكلّ من شخصيّة آسر وبدر العبدلله من ضياع وغيبوبة بعد أن سارا في أعقاب النّسر، ووجدا الجثث تحت أنقاض الذّهب في كلّ مكان وصلا إليه، هو دليل على حجم المأساة التي تفوق توقع العقل البشري، وربّما  في ذلك تنويه من الكاتبة إلى أنّ تعويل الفلسطينيين على الغرب الغنيّ والثري والقويّ كاذب ولن يعيد إليهم ما ضاع وفات، لذلك عليهم أن يستيقظوا من كبوتهم وأن ينحوا نحو الفعل والعمل ليتخطّوا مرحلة الهذيان، النّواح والهروب من الواقع نحو رؤى جديدة تعيد للفلسطينيين الوطن والهويّة المسلوبة والعيش بكرامة.
    ولا تخلو الرّواية من اللّغة الرومانسيّة العاطفيّة، إذ تقوم الشخصيّة الأنثويّة في الرّواية بالبوح والمجاهرة في علاقتها مع حبيبها آسر، وتصل إلى أقصى درجات الجرأة عندما توظّف اللغة الشبقيّة في ممارسة الحبّ، كما نجد فيما يلي:
    "لم أخبر أحدا مثلا أنّه حين تأتي العتمة الّتي نحبّها يأخذني آسر، غالبين أو مغلوبين، إلى قرنة منخفضة في طرف الميدان ويفكّ أزرار قميصي ويشمّ المساحة الضيّقة بين حبتي الدّراق الصغيرتين {...} ثمّ يفرك بطل جسدي الطريّ أنفه وشفتيه بدراقتيّ بقسوة شفّافة تؤلمني" (ص209).
    "يرتفع قليلا متحاشيا نظراتي، ثمّ يلصق أسنانه بالبراعم البنيّة ويحاصرها بين شفتيه حتّى أتألّم، وأستغيث. يزداد قضمًا وأزداد استرحامًا، فيحتوي الدّراقتين بين يديه ويهمس بامتنان، هل كان ينقص جنّة الله فاكهة مجنونة مثل هذه لتغرف الرّغبة بهذا الجوع من عسل الشّهوة؟ كم فادح هو عقاب الدّراق لشهوة الرّجال {...} يُمزّق موضع دراقتيّ بأسنانه ويأكلهما عبر الشلخ الصّغير الّذي ارتكبه بنفاذ صبر" (ص 223).
يتّضح من المثالين أعلاه أنّ الكاتبة توظّف اللغة الإباحيّة في ممارسة العلاقة الحميمة مع حبيبها آسر، مخترقة مألوف اللغة والمسلّمات الاجتماعيّة، فتحتفي بجسدها ومكتنزاته، ولا تتردّد في الإفصاح عن مصادر اللّذة والإثارة فيه، فتسقط على أعضاء جسدها المثيرة تشبيهات من عالم النبات، كتشبيه نهديها بفاكهة الدّراق وفاكهة مجنونة، وحلمتيها بالبراعم، مطلقة بذلك العنان لأحاسيس الرغبة الجنسيّة المكبوتة.
وفي الختام نستطيع القول إنّ هذا العمل الرّوائي هو عمل جدير بالقراءة والتمحيص، والنقد والتحليل نظرًا لما يحمله من ثيمات وجماليات سرديّة تجريبيّة حداثيّة، تمزج بين أجناس أدبيّة متنوعة، تصب في خدمة الثيمات والأفكار التّنويريّة المطروحة. وقد عمدت الكاتبة في هذه الرواية إلى ابتكار قوالب ومفردات لغويّة تؤسس لخطاب تجريبي يميط اللثام عن مؤرقات خاصّة وعامّة، ويخرج المكبوت إلى العلن متجاهلا الرقيبين الاجتماعيّ والسياسيّ، فما يجعل هذه الرواية علامة فارقة عن أعمال روائيّة أخرى تناولت القضيّة الفلسطينيّة هو صياغة التّاريخ وتوثيق الأحداث بأساليب حكائيّة متنوعة وغرائبيّة خاصّة.
21 سبتمبر، 017