الفنان التشكيلي اللبناني مصطفى حيدر فكرة اللون من عمق العزلة
تاريخ النشر : 2017-10-19
الفنان التشكيلي اللبناني مصطفى حيدر فكرة اللون من عمق العزلة


بشرى بن فاطمة

الفنان التشكيلي اللبناني مصطفى حيدر
فكرة اللون من عمق العزلة وانسجام اللوحة مع تناغم الذات في الواقع والطبيعة

التعمق في التجربة التشكيلية اللبنانية المعاصرة يعني الغوص في عوالم جمالية الفكرة والمحتوى والتطلع والتماهي  مع مزاج التعبير الإنساني الوجودي والمتخيل الحالم وفق واقع متغير صادم متناقض ومتحول ومأثر في كل جوانبه النفسية والاجتماعية التي كان لها وقعها على الفرد والمجموعة ككل في خلق روابط التواصل والاتصال والانفصال وجدارة البقاء، ما وسم كل تجربة تشكيلية بتأثرات خاصة كل حسب تقبله للواقع اللبناني ومخاض ما أفرزه التاريخ وإيقاع الحدث على الزمن خاصة حين يتخذ الفنان من أسلوب الرسم الكلاسيكي منفذ تعبير عن الحداثي بكل تقنيات القرن السابع والثامن عشر التي بدأت بالرسم التحضيري وعلامات القلم على الفكرة والملامح ثم الألوان المائية وتجريد الفكرة وهو المسار الذي اتخذه الفنان التشكيلي اللبناني مصطفى حيدر كمنهج ذاتي وتعبير وجودي بتلاوين تتحدى الخطوط وتخترق اللون لتعبر عن الانسان وتوازيه مع كرونيك الزمن، فالتمعن في تجربة مصطفى حيدر التشكيلية يعني رحلة زاخرة باللون بالرسم بالعلامات البصرية بالحضور المشرق للفكرة ومراحل ترتيبها.
ولد مصطفى حيدر بمدينة بعلبك سنة 1944 هو من خريجي الجامعة اللبنانية للفنون عمل أستاذا للرسم بها لسنوات نال جوائز عدة وعرض أعماله الفنية في عدة دول في العالم تمتاز أعماله بالشفافية والرومنسية والتمرد الحر على الفضاءات بالألوان، في أسلوبه تنوع ينعكس على تقنيته التي تختلف عن أي فنان تشكيلي لبناني آخر في مسك الفرشاة والريشة والقلم  وفي تحضير ألوانه له إيقاعاته الخاصة وموسيقاه التي تغوص به في عوالم من العزلة المختارة والتبحر الفني المشتهى في زواياه المضيئة والمعتمة التي تتفجر لوحات تعد الأغنى في إبداعاتها المثيرة.
تتميز أعمال مصطفى حيدر بطابع الرسم التحضيري الذي ظهر وازدهر في فترة القرن الثامن عشر وهذا المنهج الفني يعتمد التخطيط أكثر من التلوين الذي يتنقل إليه كمرحلة اكتمال تحاول التمرد عليه بنضج واع بالعلامة وبسيمياء الدلالة التي تصل المشاعر مع المقاصد.
فهي تقنية تعتمد على جمالية قد تبدو غير مكتملة وعفوية تشبه الصقل الأولي للفكرة في الاسكيتش لتعبر عن شغف متحرّر من مواضيعه يلامس برؤيته التجريد ويتمادى نحو الرسم الملون بالغواش الألوان المائية التي تثير المساحات بهندسة داخلية في تداعيات الأشكال التي تسقط في عمق يجسدها حضورا وهندسة مكثفة تشبه الفراغات المقصودة بفكرة صاخبة، ينجزها بقلم الرصاص ثم يتحوّل معها تدريجيا ليبعث في أفكاره المتفجرة ألوانه المائية.
لحيدر موهبة فنية محترفة النضج في التمازج بين الفكرة والتعبير عنها فبين الحيوية والاتقاد بين التلون والاكتفاء بالاسكتش يستفز أحاسيسه نحو عمق مرتّب الخوض وبترتيب متناسق الفوضى ومتناغم بين الضوء والفراغات والظلال التي تحتوي الأشكال دون أن تعيقها بالخطوط لأنه يجيد البناء المكثف في التجسيد الهندسي العمودي الذي يحتوي الأشكال دون أن يجسمها ويكتفي بترويضها ككتل مليئة بالأحاسيس تنكسر وتتفجر لتحكي عن لبنان طبيعة وجمالا تشويها وإهمالا في كل الأزمنة، فهو يشكل كتله بهندسات عماراته وبألوان باردة ودافئة بتدرجات صاخبة وصامتة كمحاكاة جدلية تحاور التناقضات وتفشي أسرارها فمن اسكاتشاته المخططة ولوحاته الملونة تتمايز الفكرة وتتصارع في حضورها المكثف مع الألوان المائية التي تسرد مشاهد الطبيعة في المساحات الملونة وكذلك في الفراغات التي تتنازعها خطوط اللون البيضاء خاصة وأنه يتحكم في تضاريس لوحته كما يشاء بتمرد على حدود عناصرها أما ألوانه فهي كيان يتماهى في الجمالية التي تخلق منافذ السكينة فيرتبها بعد أن يروضها ليتم تقبلها بصريا وذهنيا وتذوقا خارقا للعلامة البصرية الاعتيادية.
 يعكس حيدر أثناء ترويضه الألوان المائية شغف التماهي مع الأرض بتفاصيل اكتمالاتها الخصبة مع المساحة فهو بنضجه يجيد التحكم في أحاسيس عناصر لوحته والعلامات التي يجبرها على الفرح رغم الهموم والرقص رغم الخمول بحيوية تخترق التواصل الاعتيادي لتغوص في الفكرة ذهنيا فهو يمنح الظلال واللون دورا رئيسيا في الفكرة والمحتوى لعزف ألحانه على درجات متنوعة المقامات في كل تناغماته مع الريشة والانفعالات التي تسطع بكل شفافيتها وصدقها في كل توليفة لونية تقلب الأحداث بعنف عاصف وبهدوء ساكن ليبدو ناصعا في تحولاته وحساسيته التي ينقلها إلى ألوانه.
تستفز أعمال مصطفى حيدر المتلقي بشكل يجعله يحتار في الحبكة المحكمة التي توغل في التعمق الذهني واختراق تلك العناصر لفهم الحكاية التي تتجادل في انكساراتها وسطوعها في برق اللون وفي عتمة الدهشة، فبين كل لون ولون مسار وحكاية يجمع ويفرق بتناقضات مبهرة في تداخلها الصاخب كلما أنهكها المسار وأتعبها تتلاحم ثم تتصارع في خطوط قلم الرصاص أو مع الألوان لتعبّر دون أن تنفصل عن كتلتها وعن التقاطعات والخطوط نفسها حيث تتجاوز دورها وكأنها تطلق زمنها نحو الفكرة في انفصال وترابط يبعثها في كل الاتجاهات وكأنه يسلطها بغضب ليرى كيف ستتقن دورها في تحريك حبكة اللوحة وصعود نسقها وتراجعها فهو يحركها ويبث فيها حيويته الصارخة بحثا عن الهدوء الذي يرتب الفوضى بجمالية متقنة.


*الاعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections