الموت في مجموعة "عندما تبكي الألوان" زين العابدين الحسيني بقلم: رائد الحواري
تاريخ النشر : 2017-10-11
الموت في مجموعة
"عندما تبكي الألوان"
زين العابدين الحسيني
ليس من السهل تجاوز الواقع، خاصة في حالة الفلسطيني، الذي فقد وطنه وبعد أن أخذت الانظمة الرسمية تزيد الضغط عليه، إن كان على مستوى ظروف الحياة العادية أم على مستوى العمل الوطني، فقد مر عليه ظروف قاسة جدا، فقد عاش غريبا في وطنه بعد أن ضاع الجزء الاكبر منه في عام 1948، فلم تعد له شخصية وطنية، فهو في "الضفة الغربية" أردني، وفي قطاع غزة، "فلسطيني" يخضع للحكومة المصرية، وكلتا الحكومتين فرضت عليه احكاما عرفية، بحيث لم يستطع أن يعبر عن مشاعره اتجاه "العزيز المفقود"، وإذا ما أضفنا إلى كل هذا عمليات الملاحقة والقتل الذي تعرض لها عندما حاول التقدم من وطنه المفقود، بحيث الصقت به تهمة الخيانة والاتصال بالعدو، أو تهمة اثارة الفتن مع (دولة مجاورة)، أو تهمة حمل السلاح بطريقة غير مشروعة، نعلم حجم الضغط والظلم الذي وقع عليه، لهذا اتجه في بداية الأمر إلى البحث عن الخلاص الاقتصادي والتحرر من ضغط لقمة العيش، وهذا ما نجده في رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني التي تحدثت عن ضياع البوصلة الفلسطينية، من خلال بحث الرجال الأربعة عن الخلاص في المسألة الاقتصادية فقط، فسقطوا موتى دون أن يحققوا هدفهم، ورغم الرمزية التي جاءت في الرواية، إلا أن لها بعدا واقعيا، يتمثل في البحث عن حياة سوية اقتصاديا، تخلص الرجال الأربعة من ضيق الحال، لهذا يمكننا أن القول أن رواية "رجال في الشمس" ليست رمزية تماما، بل لها بعدا واقعيا.
لكن لماذا كان فعل الموت هو السيد الذي يحول دون وصول الفلسطيني لهدفه؟، فهل كان الفلسطيني في ـ العقل الباطن ـ أسير لفعل الموت، بحيث نجد العديد من الأدبيات تحدثت عن الموت الذي يقف جحر عثرة كلما أراد أن يتخلص من واقعه؟، وهل كان فقدانه للوطن بمثابة موت، ومن ثم انعكس ذلك فيما قدمه لنا من أعمال أدبية؟.

... وبعد أن ضاعت بقية فلسطين في عام 1967 تفاقمت أزمة الموت الفلسطينية، فكانت احداث أيلول الأسود، وتبعتها الحرب الأهلية في لبنان، والتي استمر لما يقارب خمسة عشر عاما، والتي واجه فيها الفلسطيني واللبناني أشرس قوة عسكرية في المنطقة، وكان الموت هو السيد الذي لا يمكن لأحد أن يقف في وجهه، من هنا كان لا بد من الحديث عما قاتلوا فيها وواجهوا المحتل وأدواته ولهذا كتب "محمود شاهين" مجموعة القصصية "الخطار" والتي تنتهي كل قصة بموت بطلها، وها هو "زين العابدين الحسيني" يقدم لنا مجموعة "عندما تبكي الألوان" والتي تتحدث عن الموت الذي يأتي سريعا، ودون أن نتوقعه في تلك اللحظة، لكننا نتوقع قدومه، لكن ليس بتلك الساعة، وليس بذلك المكان، فهو يفاجئنا ويأتينا كسيد لا يحتاج إلى إذن ليأخذنا حيث يريد.
لهذا ستكون هذه المجموعة قاسية وصعبة بموضوعتها على المتلقي، لكن طريقتها/شكلها/لغتها ممتعة، فالكاتب يخفف من قسوة الموت باللغة وبالشكل الأدبي الجميل الذي يتناول فيه الأحداث، لهذا سنجد فيها ما هو جديد، طريقة تقديم الموضوع/الفكرة القاسية والصعبة بشكل أدبي سلسل وجميل، يوصل الفكرة للمتلقي ويمتعه في ذات الوقت.
يضع الكاتب مقدمته كتابه بهذه الفقرة:
"الموت هزيمة
لكن..
هذا زمن الموتى المنتصرين" وهي تختزل ما جاء فيها من أحداث الموت، فأول عملية فراق كانت بين الزوج والزوجة، في قصة "المهزوم" التي يخطف الموت الحبيبة بعد أن ينقطع التيار الكهربائي أثناء العملية الجراحية التي اجرية لها، فرغم بساطة العملية إلا أن هذه الانقطاع حول الأمر العادية إلى كارثي، فرغم العلاقة الوطيدة التي تجمعهما، ورغم ثقة الطبيب بنجاح العملية لكن المفاجأة جاءت غير متوقعة:
"...أصابوا مولد الكهرباء وانقطع التيار، وتقوف قلب المريضة، .... توقف قلب، قلب...
...كانت القذائف ما تزال تنهمر بشراسة في الخارج" ص 17، إذاً موت الزوجة/الحبيبة لم ينهي فعل الموت، بل هو مستمر "القذائف ما تزل تنهمر" وعلينا نحن القراء أن نتخيل من سيكون دور التالي في هذه الحرب.
في قصة "جراحة دقيقة" وبعد ان تنجع عملية التجميل للفتاة، وتخرج مسورة للقاء حبيبها بعد أن ازالت تلك "النتوء البني الباهت" يفاجئها الموت بهذا الشكل:
"داهمها ـ فجأة ـ الصرير المفزع للسيارة المندفعة بأقصى سرعتها في اتجاهها..." ص18.
وفي قصة "الوهم" يباغت الموت الحبيب أثناء اجراء مكالمة من هاتف عمومي:
"لكن شيئا مدمرا كان قد أصاب لوحة الهاتف في الخارج، فتحول إلى جثة هامدة، فيما استمر صوتها يبتهل في بكاء
ألو .. ألو .. ألو" ص20.
في الحرب الأهلية الموت يحصل المواطن العادي وللمقاتل أيضا، في قصة "الملصق" يطال الموت احد المقاتلين لذين خاضوا العديد من المعارك، لكن اهم ما في هذه القصة أنها تحدثنا عن مشاعر الزوجة عندما ترى صورة زوجها القتيل على الملصق، فالموت لا يطال البيوت أو المكاتب، بل الناس، يطال الاباء والامهات، الابناء البنات، لهذا يكون وقعه على الآخرين شديد ومؤلم، اعتقد هذا الطرح أهم ما في المجموعة، فالحديث يدور عن حال القتلى وأثر ذلك على احبتهم، على من ينتظرون عودتهم ولقائهم.
إذا ما قارنا هذه القصة مع بقية القصص سنجدها ثاني اطول قصة في المجوعة، وهنا نطرح سؤال: لماذا جاءت قصة "الملصق" طويلة؟ أعتقد أن هناك انحياز للقاص للمقاتلين، فهو لم يتحدث عن رجل يمارس القتل، بل عن إنسان يدافع عن احبيته، يقتل لأنه يريد أن يتخلص من قاتله، متمرد على واقعه، متمرد على ال "غرفة تنكية السقف، كان أفراد الأسرة التسعة ينامون ملتصقين بجوار بعضهم البعض كالسردين المعلب" ص23، ومع هذه الظروف الصعبة كان المقاتل يتصف بالنبل والكرم ويعامل حبيبته بطريقة استثنائية، "في آخر زيارة حمل إلي هدية، سلسلة فضية تتأرجح وسطها قطعة مستديرة موشاة الأطراف، وتبرز وسطها خطوط لخريطة جغرافية، قال هو يضعها حول عنقي هذه بلدي وقبلتين برقة صدمتني" ص24، لهذا نقول أن صورة المتمرد/الثائر على واقع الذي خلقه المحتل يعد عملا نبيلا إنسانيا، فليس هناك أنبل ممن يرفض الظلم ويعمل على تحقق العدل.
ونجد في قصة "الحرب" الموت الذي يطال الجنود، وما يحسب لهذه القصة أن القاص لم يذكر فيها عنصر المرأة كما هو الحال في القصص السابقة، وهذا يعكس ما يحمله العقل الباطن عند "زين العابدين الحسيني" فالحرب يشعلها الرجال وهم وقدوها أيضا، لهذا يمكننا القول أن قصة الحرب منسجمة تماما ما بين العنوان والمضمون.
ونجد في قصة "بائع الكعك" الصغير الذي يخطفه الموت بهذا الشكل : ".. يهتف بصوته الطفولي "كعك...كعك" لمحت عيناه بعض الطلقات النحاسية الفارغة، فأوثق عربته الصغيرة وراح يلتقطها وعيناه تبحثان في توتر عن طلقات فارغة أخرى.
تلك اللحظة، وقيما هو منهمك تماما في التقاط الأشياء النحاسية، مزق عويل حاد الهواء، ودوي انفجار احتل مساحات الفضاء المحيط بالصغير" ص28، إذا ما قارنا القصة السابقة بهذه القصة نجد تأكيدا من القاص على أن الحرب تأكل كل شيء، تأكل موقدها وتأكل الآخرين، صغارا أم كبارا، ذكورا أم اناثا، بيوتا واشجارا، لهذا هناك تأكيد على فعل الموت دون سواه.
في قصة "جملة اعتراضية" نجد تفاصيل دقيقة للموت، فقد تعمد القاص أن يرسم لنا اثنى عشر مقطع تجتمع على رسم مشهد الموت الذي يلاحق الفدائيين، فكانت نهاية عمليتهم : "...فيما ارتطم السقف بالأسفلت وتطايرت أجساد الثلاث في اتجاهين، في حين كان السائق متفحما متشبثا بمقود العربة" ص31، وتعتبر هذه القة من أكثر القصص جمالية، لأن القاص يرسم تفاصيل دقيقة ومكثفة، بحيث يشعر القارئ بأمه أمام رواية رغم قصر القصة.
في قصة "الجبن" يقربنا القاص من الموت "القاتل" لكنه لا ينهي القصة بموت فعلي، بل بموت معنوي "للقاتل"، بحيث جعل بطل القصة النبيل يكمل عمله "كنبيل" من خلال العفو عن هذا القاتل:
"كان قد اقسم بأن يثأر لأخيه.
وحين غرس فوهة البندقية في جبين القاتل. راحت حدقتا الأخير تهتزان بشكل غير لائق. فيما كانت ركبتاه ترتجفان بشكل مهين. فبصق على الوجه وابتعد قليلا. ثم تقيأ" ص32ن ما يحسب لهذه القصة التكثيف والاختزال الحاضر فيها، فهي تشير إلى قدرات القاص على إيصال الفكرة بجمالية متناهية وبلغة رائعة وبكلمات معدودة.
ونجد في قصة "الفراق" الابتعاد عن الموت الفعلي والحديث عن الموت المعنوي، فهي تتحدث عن ذهاب الحبيب : "نهض، فتحولت نظرة الدهشة في العينين إلى غلالة كثيفة من الدموع وهي تتابعه وهو يمضي دون أن يوليها ظهره، يخرج من الباب، لا يغلقه خلفه، يتلاشى في العتمة" ص34، فهنا أيضا نجد موت لهذا الحبيب الذي "يتلاشى في العتمة" لكنه موت روحي وليس جسدي.
ونجد في قصة "الخجل" موت معنوي أيضا والتي تناول فيها القاص نفسية فتاة يغتصبها ثلاثة رجال، بحيث ينعكس فعل الاغتصاب على نفسيتها فتنفر حتى من أقرب المقربين إليها: "وفميا كانا يسيران نحو البيت، حاول أن يمسك يدها، غير أنها سحبت يدها من يده في حين تحول لون وجهها إلى لون وردي رائع" ص36، وما يحسب لهذه القصة أن القاص رسم لنا أثر الاغتصاب على الفتاة بشكل دقيق جدا، دون أن يتحدث عن تفاصيل فعل الاغتصاب، فهو يدخل إلى نفسة الفتاة حتى أننا نجده أقرب إلى طبيب نفسي، يعلم كل ما يجول في النفس من مشاعر وتفكير وألم.
وفي قصة "مشاجرة" يحدثنا عن مشاجرة عادية تحصل بين الزوج والزوجة لكنها تنتهي بفاجعة الموت.
وفي قصة "لقطة" يحثنا عن موت الصحفي اثناء تغطيه لأحد المشاهد: "..وقبل ان يتسنى له فتح عينه اليسرى المغلقة، وقبل أن تصل موجة الانفجار إلى الأذنين، ويدرك حقيقة ما حدث" ص39.
وفي قصة "الشاعر" يقدم لنا القاص نموذج آخر من قصة الومضة التي يتقنها، فيحدثا عن موت الشاعر الذي يداهمه مجموعة من حملة البنادق الذين ينهون حياته قبل أن ينهي قصيدته.
وفي قصة "التقرير" يحدثنا من موت (مطلوب) بطريقة غير متوقعة، فرغم كل الاحتياطات التي تؤكد سلامته إلا أن الموت يفاجئه بهذه الطريقة: "وبمحض الصدفة ، كان قاطن الشقة يجلس في الجوار لدى سقوط اللوح الزجاجي، فذبحته شظية صغيرة، انغرست بكاملها في عنقه" ص42ز
وفي قصة "المعلن" نجد موت يأتي/يصل قبل اعلان الخبر في الصحيفة.
وفي قصة "طفولة" نجد الموت الذي يلاحق الاطفال.
وفي قصة "مصرعي" يحدثنا عن الفدائي المتمرد، ليس على النظام الرسمي فحسب بل على قيادته، وهذه القصة تعد سابقة في تناولها لمضوع انتهازية القيادة، فقد كتبت في عام 1979 وفي وقت كان العمل الفدائي في أوجه، فالحديث عن السلبيات والانتهازية في ذلك الوقت يعد تجاوز للعادي.
وفي قصة العنوان "سقوط الألوان" يحدثنا عن شخصية الفدائي "الفسفوري" والذي يقدمه لنا كإنسان، يحمل مشاعر إنسانية، فرغم البطولة التي اتصف بها "الفسفوري" إلا أنه تناوله إنسانيته، يضعف أحيانا لكنه سرعان ما يتقدم من تمرده، وهي من القصص الواقعية التي تذكرنا بالمقاتلين الذي قضوا اثناء محاولتهم تحقيق شيء من الكرامة لنا وللوطن.
المجموعة من منشرات دار الفاروق، نابلس، فلسطين، الطبعة الأولى 1996.