اللامركزية المالية أحد أدوات الحفاظ على الوحدة الوطنية بقلم:د.طارق ليساوي
تاريخ النشر : 2017-10-11
اللامركزية المالية أحد أدوات الحفاظ على الوحدة الوطنية بقلم:د.طارق ليساوي


اللامركزية المالية أحد أدوات الحفاظ على الوحدة الوطنية -الصين نموذجا-..
د.طارق ليساوي
في مقال سابق لنا بهذا المنبر تحث عنوان "التحولات الاقتصادية و تأثيرها على المالية العمومية - الصين نموذجا-"، أشرنا فيه إلى أن التحول الاقتصادي في الصين خلق دورة من الإصلاحات، التي شملت مختلف مناحي الحياة الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية بل حتى التفافية،  و كانت  المالية العمومية في قلب الإصلاحات التي نفذت  منذ 1978 إلى اليوم...
 فالطبيعة المتغيرة للعلاقات المالية بين المركز والحكومات دون الوطنية، و الضغوط المالية على المركز. مع ضرورة توافر نظام ضريبي ينسجم مع احتياجات اقتصاد السوق الاشتراكي. كلها عوامل  دفعت الحكومة الصينية إلى تبني سلسلة من الإصلاحات التي مست المالية العمومية ، وسنحاول من خلال هذا المقال تناول مبدأ اللامركزية المالية في الصين و ذلك عبر تحليل مسار الإصلاحات المالية و التدرج في تدعيم اللامركزية في الإنفاق و الإيرادات، و في فرض الضرائب و تقاسمها..
أولا- نظام التعاقد المالي وإصلاح تقاسم الضرائب لعام 1988
منذ عام 1988 إلى عام 1993، اعتمدت الصين "نظام التعاقد المالي "“Fiscal Contracting System” فكل مستوى من مستويات الحكومة يتعاقد مع المستوى التالي له لمواجهة بعض الإيرادات وأهداف الإنفاق. فالحكومة المركزية والحكومات دون الوطنية تتشارك في الإيرادات بشكل متناسب أو في شكل حصص محددة. وفي الوقت نفسه، كانت الحكومات دون الوطنية ملزمة بالبحث عن مصادر لتمويل الذاتي، من خلال الإيرادات المولدة ذاتيا.
 وإذا كان لهذا التوجه دورا ايجابيا في تحسين كفاءة تخصيص الموارد، إلا أن سلبياته سرعان ما طغت عن هذه الايجابيات . وذلك من خلال التنافس المحموم بين المحليات باتجاه "الهبوط إلى القاع" في المجال الجبائي . ولا سيما في المناطق المتقدمة النمو، فقد تم تبني نظام للتخفيض  الضريبي بهدف جذب الاستثمارات،  وهو ما أدى إلى الحد من نمو الإيرادات الضريبية، كما أن الحكومات المحلية حاولت قدر الإمكان تجنب تقاسم الإيرادات مع الحكومة المركزية. وهو ما أدى بالنهاية إلى انخفاض مجموع الإيرادات كنسبة من GDP، فحصة الحكومة المركزية من  الإيرادات شهدت انخفاضا حادا، نتيجة للنمط المعتمد والذي يقوم على أساس " جذع ضعيف وفروع قوية "“weak trunk with strong branches” مما اضطر الحكومة المركزية إلى الاقتراض باستمرار من الحكومات المحلية. ونتيجة لذلك ، فان دور الحكومة المركزية في تضييق التفاوتات المالية الإقليمية قد ضعفت،ودعمها للخدمات العامة الأساسية  أصبح جد محدود.
ثانيا- إصلاحات مابعد 1994 ووضع هيكل تنظيمي للعلاقات المالية بين حكومية :
إصلاحات مابعد  عام 1994 كان إصلاحا عميقا، بحكم وضعه لإطار مؤسسي جديد ينظم العلاقات المالية بين حكومية في الصين. واستخدام أدوات السياسة العامة من ضرائب وتحويلات مالية لتشجع على تنمية  اقتصاد السوق. ومن اجل تنفيذ الإصلاح الضريبي و نظام الإحالة وضمان فعالية جمع إيرادات الحكومة المركزية، وتوزيع حصص الحكومات من الضرائب المركزية، تم الفصل بين الإدارات مع إنشاء إدارة الدولة للضرائب(SAT)، وهي المسئولة عن جمع الضرائب المركزية والمشتركة. بينما تتولى الحكومة المركزية وحكومات المقاطعات جمع الضرائب الخاصة بها.
فالإصلاحات الضريبية لعام 1994 كان هدفها تعزيز قدرة الحكومة المركزية على تحقيق استقرار الاقتصاد الكلى، والتوازن الإقليمي  والكفاءة في توفير السلع العامة. كما أنها استهدفت تبسيط وترشيد الهيكل الضريبي، عن طريق الحد من أنواع ومعدلات الضرائب المتباينة، وتوحيد العبء الضريبي على دافعي الضرائب، والحد من الإعفاءات، لرفع الإيرادات نسبة  إلى GDP. و خلق نظام  لتقاسم الإيرادات يكون أكثر شفافية وموضوعية على أساس الانتقال من نظام قائم على التفاوض حول تقاسم الإيرادات العامة، إلى نظام مضبوط  يحدد تلقائيا قواعد إحالة الضريبة.
 ونتيجة لذلك، تم إنشاء نظام ضريبي موحد، بحيث لا يمكن للحكومات المحلية  إدخال تخفيضات أو إعفاءات ضريبية دون الحصول على موافقة من قبل الجهاز المركزي للحكومة.
هذه الإجراءات ساهمت في النمو السريع في مجمل الإيرادات الحكومية،. فبين عامي 1994 و 2005 ، الإيرادات الضريبية الوطنية ارتفعت من 521.8 مليار yإلى 3,161,8 مليار y ، وبلغ متوسط الزيادة السنوية 17،8%. و إجمالي الإيرادات الحكومية كنسبه مئوية إلى   GDPانتقلت من  12.3 % في عام 1993 إلى 17،3 % في عام 2005. و إيرادات الحكومة المركزية نسبة من إجمالي الإيرادات الحكومية زادت من 22،0 % في عام 1994 إلى 52،3% في عام 2005 .
كما أن إصلاح نظام تقاسم الضرائب في عام 1994، جعل العلاقات بين الحكومية في الصين على مستوى النظام الضريبي اقرب بكثير من الممارسة الدولية. كما مكن الصين من الخروج من وضع مالي محفوف بالمخاطر في منتصف التسعينات إلى وضع أفضل، فهذه التغيرات غيرت جذريا طبيعة النظام البينحكومي الذي كان يقوم على ترتيبات/ تصاعدية  لتقاسم الإيرادات.
وكان هذا الإصلاح مصحوبا بإصلاحات متتالية لنظم الميزانية والخزانة، لضمان أن التمويل من خارج الميزانية من جانب الحكومات دون الوطنية، يكون خاضع لضوابط عامة  تكرس لمبدأ الشفافية. كما أن  الإصلاحات نصت على أن  بعض الإيرادات مخصصة بالكامل إلى الحكومة المركزية، بينما إيرادات أخرى مخصصة  للحكومات المحلية، و تقاسم الإيرادات في بعض أنواع  الضرائب.
وموازاة مع إصلاح نظام تقاسم الضريبة، عملت الحكومة المركزية على  خلق مجموعة من الميكانزمات و  الآليات المالية،  الهادفة إلى التقليل من أوجه التفاوت المالي الإقليمي، وتعزيز تكافؤ الخدمات العامة . ونتيجة لذلك، تم استحداث نظام لنقل الموارد، لضمان عدم تقلص موارد المقاطعة بفعل الإصلاحات . 
و عموما،  يمكن أن نستخلص من تحليل تطور العلاقات المالية الحكومية، مجموعة من الملاحظات المهمة في التجربة الصينية:
1- النهج التطوري
النهج التطوري هو الأكثر ملائمة لإصلاح الأوضاع في الصين، إذ تم الانتقال من نظام إصلاح تقاسم الضرائب في عام 1994 إلى تقاسم الإيرادات الضريبية في عام 2002، فالصين اعتمدت نهج تطوري للإصلاح. وركزت في هذا النهج على إعادة توزيع الإيرادات الاضافيه المذكورة أعلاه "الإجراء الغير مؤذي". والغرض من تبني هذا النهج هو تجنب إحداث أي اضطراب في قدرات الحكومات المحلية على الوفاء بالتزاماتها.
2- تقليص حرية الحكومات دون الوطنية في مجال الضرائب
عمل إصلاح 1994 و التعديلات اللاحقة له، على جعل تحصيل الضرائب على الدخل الفردي وضريبة الدخل على الشركات من اختصاص الحكومة المركزية. بينما ترك للحكومات المحلية هامش محدود من الحرية في فرض الضرائب. وهو ما أسهم في الحد من حالة التنافس الضريبي الذي شهدته الصين قبل تبني إصلاح 1994. كما أن هذا التوجه مكن الحكومة المركزية من توحيد المعايير الجبائية، ووضع قواعد ضريبية متساوية، بهدف تفادي تفاقم الفوارق الأفقية  .
3- دعم اللامركزية المعتدلة
اعتماد اللامركزية المعتدلة هو  أمر ضروري لتحقيق تكافؤ كبير في الاقتصاد. فعلى مدى العقدين الماضيين، إصلاح اللامركزية المالية اجتاحت جميع أنحاء العالم. والهدف من هذا الإصلاح هو جعل صنع القرار المتعلق بتحقيق الخدمة العامة أقرب إلى عامة الجمهور.
و تعد اللامركزية في توفير الخدمات العامة عنصرا رئيسيا من عناصر الفيدرالية المالية Fiscal Federalism. وينظر إليها على نطاق واسع بوصفها وسيلة لتحسين كفاءة أداء القطاع العام، عن طريق استخدام الإمكانات والمعلومات المحلية  بشكل أفضل من قبل الحكومة، لتتلاءم مع احتياجات السكان المحليين . بالإضافة إلى ذلك، فان لا مركزية الخدمات العامة Decentralization of Public Dervices يمكن أن ينظر إليها كعنصر ضروري من عناصر " الحفاظ على النظام الفيدرالي"، حيث أن دور الحكومات دون الوطنية يتماشى مع أهداف التنمية الاقتصادية المحلية، والرعاية الاجتماعية المحلية. ولتحقيق هذه المكاسب في الكفاءة، يتعين على الحكومات دون الوطنية أن تستجيب لدوائرها الانتخابية. ووجود آليات للمساءلة ، مثل انتخاب المسؤولين المحليين  على نطاق واسع، وهو شرط ضروري لفعالية اللامركزية المالية. وهو ما سنحاول التوسع فيه في القادم من الأيام إن شاء الله تعالى. و الله غالب على أمره...
*إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي