التحرش الجنسي: وباء مجتمعي بين المؤسسة الذكورية و العولمة الاقتصادية بقلم: أ.د. جميل خضر
تاريخ النشر : 2017-10-02
شارك ناشطون مجتمعيون على صفحات التواصل الاجتماعي مؤخرا فيديو لشيخ يبيح الحملقة والتحديق بأجساد النساء، بل ويدعو الشباب إلى التوجه نحو الشواطئ والامعان "بلابسات البكيني"، ليس بهدف التحرش بهن على حد قوله بل تقديرا لعظمة الله وابداع خلقه. وعندما أسمع ابنتي البالغة من العمر 14 عاما وصديقاتها يشتكين من تحرش تعرضن له من قبل مجموعة من الرجال -شبابا وكهالا- أكان من خلال النظرات أو التعليقات غير المرغوب بها في شوارعنا وعندما أسمع أصدقاء يدعون الى انشاء ممرات ومناطق آمنة للنساء في مهرجاناتنا المحلية لحماية النساء من مثل هؤلاء المتحرشين، أو عندما اقرأ تعليقات تلوم لباس المرأة على شيوع هذه الظاهرة البغيضة، ادرك أن المشكلة قد وصلت إلى مستوى الأزمة والوباء الاجتماعي واننا بحاجة الى نقاش مفتوح وحوار نقدي يوضح هذه الممارسات المروعة ودور المؤسسات الاجتماعية في معالجتها.

يجب التوضيح من البداية انه لا يمكن معالجة هذا الوباء الاجتماعي بالتقليل من شأنه ووصفه بالمعاكسة البريئة او محاولة احتوائه باطار ثقافي يحاول تفكيكه ضمن قيم العيب. فاذكر انه في مقابلة مع محبوب العرب محمد عساف قامت مقدمة البرنامج بسؤاله عن مغامراته الرومانسية في فترة المراهقة واصفا كيف كان يتحرش بالبنات ولكن عندما سالته عن رد فعله اذا قام شاب بمعاكسة اخته ثارت ثائرة المحبوب موضحا كيف تنتهك هذه الممارسات قيم الشرف. فالعيب اذا قيمة نسبية تخدم مصلحة المتحرش وشرفه فحسب. لذلك يجب ان نأخذ هذا الوباء بمحمل الجدية وان نحلله ليس من خلال نظريات نفسية أساسية او نفسية-تطورية فقط ولكن في إطار السياق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي ينتج مثل هذه الآفة الاجتماعية المروعة.

عندما كنت أدّرس في برنامج الدراسات الجندرية في جامعة ستيتسون في فلوريدا، كنت اخصص بعض الدروس لهذه الظاهرة البغيضة في الولايات المتحدة والعالم العربي. ولتوضيح هذه الظاهرة كنت استعين بالفيلم الوثائقي "منطقة حرب"، والذي يشير إلى أن التحرش الجنسي في الشارع يمكن أن يؤدي في نهاية المطاف إلى ثقافة الاغتصاب.

في هذا الفيلم تقوم المخرجة بتسجيل التعليقات التي تسمعها من الرجال وهي تسير في جميع أرجاء المدينة. وعند سماعها لأحدى هذه التعليقات غير المرغوبة، تقوم المخرجة بسحب كاميرة الفيديو من حقيبتها بسرعة، وتصويبها على المتحرشين الجنسيين طالبة منهم ان يعيدوا ما قالوه. وسرعان ما يتحول خطاب المتحرشين الى خطاب دفاعي تهجمي يبررون به تحرشهم الجنسي بأنه مجرد شيء بريء أو بانه شيء طبيعي متأصل في سيكولوجية الرجل أو أنه لا يتعدى حدود الاطراء على المظهر الخارجي للمرأة وجسدها، بالرغم من ان تعليقاتهم كانت دائما غير مطلوبة او مرغوبة وكنت دائما موجهة الى ظهورهن.

وربط الرجال في هذا الفيلم التحرش بتواجد النساء في الفضاء العام والذي من منظورهم ما هو الا مساحة يحكمها القانون والقوة الذكورية فاذا ما اقتحمته المرأة فليس امامها الا ان تتحمل عواقب اعمالها. وهذا يعني ان التحرش ليس نتيجة لعامل السيكولوجية الفردية المتعفنة فحسب بل نتاج امتيازات مؤسسية يرى فيها الرجل حقا طبيعيا في مجتمع ذكوري ابوي.

الا ان مثل هذا الوباء لا يمكن تحليله ضمن الاطار الابوي فحسب وذلك لان العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الابوية الذكورية لا يمكن فهمها بمعزل عن العولمة الاقتصادية وتقلبات النظام الرأسمالي العالمي. ويعكس التحرش تقوّض المؤسسة الذكورية وتضعضعها على اثر التحولات الاقتصادية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط والعالم ضمن السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة. فبسبب تقلص نسب الدخل والقوة الشرائية الذكورية تضطر النساء للخروج للعمل مما يثير حفيظة الرجال وذاتهم المجروحة ويشجع التحرش بالنساء والتنكيل بهن للتعويض عن فقدان مكانتهم وسيطرتهم الاجتماعية التقليدية.

ويتطابق هذا التصور مع نتائج دراسة حديثة أجراها عالم النفس المصري هاني هنري حول التحرش الجنسي في شوارع مصر. واستنتجت الدراسة الى ان التحرش ليس عملا جنسيا (اي انه لا يهدف اساسا لتفريغ الليبيدو الجنسي) بقدر ما هو فعلٌ اساسه التمييز الاجتماعي على اساس الجنس والذي يهدف قبل كل شيء إلى إخضاع النساء وإضعافهن ومعاقبة جهودهن للتنافس مع الرجال على الوظائف والامتيازات الاجتماعية. وألقى الرجال في هذه الدراسة اللوم على النساء مفسرين التحرش بهن كعقاب الهي استحققنه بسبب تركهن منازلهن والخروج للعمل.

ولذلك ارى ان الحلول لهذا الوباء الاجتماعي يجب ان تطرح ضمن ابعادها السياسية والايديولوجية حتى نتمكن من استخلاص حلول جذرية لهذه الآفة الاجتماعية. فالحلول القضائية والقانونية ليست كافية، كما تنوه اليه الدراسة المصرية، الا ان هذه الدراسة تشير الى اهمية التركيز على البعد الثقافي والسيكولوجي-العاطفي من خلال توعية الرجال عن مفهوم التعاطف وعن الآثار النفسية السلبية للتحرش الجنسي وتعزيز الشعور بالمساواة مع النساء مما يساعدهم على رؤية المرأة كشريكة مساوية لهم.

الا ان هذا التوجه لا يمكن ان يؤدي الى حل المشكلة بشكل جذري بل يعالج ظواهرها ويركز على بعدها الفردي فقط دون الربط بين حل مشاكل التمييز الاجتماعية جميعا وعملية التحويل الجذري للعلاقات الاجتماعية السائدة في النظام الرأسمالي العالمي. فالتحرش ،ضمن ظواهر العنف ضد النساء بشكل عام، ما هو الا ظاهرة تجعل من المرأة كبش فداء لأعراض العولمة الاقتصادية مما يعتم دور السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة في التحولات الاجتماعية ويمنع التضامن بين الجنسين كضحايا هذا النظام الرأسمالي العالمي. فالأمر ليس منوط بعرض عملية اصلاحية او حلولا برجماتية بقدر ما ان يشكل تغييرا جذريا او بكلمات اخرى ثورة اجتماعية.